الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 10th May,2004 العدد : 58

الأثنين 21 ,ربيع الاول 1425

رواية البطل النموذجي

منذ وقت مبكر قال آلان روب غرييه (الذي يشكل قيمة الأعمال الأدبية هو شكلها.. ففي شكلها توجد واقعيتها.. وفي شكلها نجد معناها ومدلولها العميق.. أي محتواها) ورواية (نباح) لعبده خال، الصادرة حديثا عن دار الجمل، من أهم الروايات التي كتبت عن حرب الخليج، وشكل الرواية، بالمفهوم الذي ذكره غرييه، ينفتح على قراءات متعددة، ولكن أبرز ما يميز الرواية شخصية البطل، لأنها هي العنصر الأساسي الذي تمحور حوله شكل الرواية، وبالتالي معناها.
وفي رأيي أن الكاتب وفق في اختيار شخصية الصحفي ليكون بطلا لهذه الرواية، فالصحفي هو البطل النموذجي لحدث بهذه الضخامة وهذا التعقيد؛ خصوصا أن حرب الخليج كما هو معروف أول حرب استخدم فيها الإعلام بشكل غير مسبوق. وتسببت في اختلال الحياة الاجتماعية التي تكونت عبر أحقاب في أنحاء الجزيرة العربية. وكشفت مجتمعات كانت تغطي نفسها بالدعة والسكينة، فجاءت الحرب لتخرجها عن سكونها، وتكشف الأقنعة التي تحجبها عن الأعين، وتظهر تناقضاتها. والصحفي عادة يمتاز بالوعي، والمعرفة الشاملة بمعنى أنه يعرف المعلومات الخام وفي نفس الوقت يعرف ما يسمح بنشره منها، وما يحجب. وما هو المقصود بالنشر والحجب.
كما يتميز بمرونة الموقع؛ فالصحفي يمكن أن يكون في الصباح متواجدا بين الناس في قاع المدينة ويعرف ردود أفعالهم على ما ينشر وطريقتهم في تعويض مايحجب بالإشاعات والأقاويل، وفي المساء يمكن أن يجالس الزعماء ورؤساء الدول ويستمع إلى الكلام الرسمي الصقيل والممل.
وهو بهذه الصفة يطلع على أمور قل أن يطلع عليها غيره، ويصل إلى مواقع يصعب الوصول إليها.
إذا منذ البداية لا مجال للصدف أو المفاجئات أو الافتعال في أحداث الرواية. وما يبدو في ظاهره صدفة، أو مفاجأة أو افتعال إنما هو في العمق محكوم بمنطق الرواية أو الحرب أو الرؤية.
ثم هذا الصحفي بالذات أي بطل الرواية له ميزة أخرى وهي أنه من تلك الشريحة التي تمتلك الوعي.. ولاتصل إلى دائرة القرار.. فهي الأقدر على رصد تلك الصورة التي لا تظهر في الإعلام (الصورة التي يقدمها من يملكون القرار بعد فلترتها). وكونه من هذه الشريحة فهذا يعني أنه ليس مشروعا فرديا بقدر ما هو ممثل للتيار أو طبقة أو اتجاه أو فئة وبالتالي فإنه ليس له اسم. وأبوه ليس له اسم.
فالمرحلة التاريخية والاجتماعية.. الحالات التي تطرحها والسياقات التي تتحكم فيها، هي التي تحدد معنى البطل.
قبل أن يتولى البطل بدوره كشف المرحلة التاريخية والاجتماعية والحاجات التي تطرحها والسياقات التي تتحكم فيها.. والعلاقة الجدلية هنا علاقة جوهرية.
ولذلك كان البطل في استخدامه لزوايا الرؤية يزاوج بين فرديته ومحيطه؛ فالأحداث التي جرت قبل الحرب كان يسرد بالضمير الأول المفرد، وفي الحوادث المرتبطة بالحرب ينتقل إلى الضمير الأول بصيغة الدمع، لأن الحرب وحددت الجميع في الهم وفي الخوف وفي التأثير (هذه الكارثة اصطلينا بها) (كل منا تساقط لحمه) (لحمنا ينذر ويتساقط زيته)، وعندما يعود إلى قصته الفردية يأتي الضمير الأول المفرد مرة أخرى. (لم أتصور أنني سأكون الضحية الأولى لهذه الحرب القذرة).
ويبقى البطل هو محور السرد وتشابك الأحداث والعلاقات والذكريات.. لا مواهب أو قوى خارقة ينفرد بها، بل بهذه المؤهلات التي زوده بها الكاتب.
كل ما تقدم يؤهله ليكون نموذجا للبطل العصري، بعد أن انفصل مفهوم البطولة الفنية عن البطولة الواقعية، ففي الماضي كان البطل الأوحد يريح الحكاء الشفهي والمستمع، لأنه يجمع بين البطولة الفنية والفعلية.
ولكن تغيرت هذه التركيبة مع ظهور السرد المكتوب، وإن ظل الاحتفاظ بالبطل السردي (الفني) الذي تتركز حوله عناصر العمل الروائي، اعتماداً على الراسخ في الذاكرة الإنسانية عن البطل الملحمي الذي تتركز حوله الأحداث.
فمع تغير مفهوم البطولة بقي البطل الفني واختفى البطل الفعلي، وأصبح البطل الفني، في الواقع هو المبطول في الحياة (وكلمة مبطول يمكن أن يدخل تحتها التهميش والغربة والتداعي). وأصبحت المؤسسات الرسمية هي التي تفعل، أي حلت بدلا من البطل القديم، وتحول البطل الجديد إلى معارض.. للمؤسسات.
وبهذا تتحول الرواية كما يقول فيصل دراج إلى ذاكرة للمقموعين، ونقيض للكتابة السلطوية، وتعبير عن المدينة الفاضلة.
وهذه المفارقة المتمثلة في أنه (يملك الوعي ولا يملك القرار) أي بطل ومبطول في نفس الوقت، أفضت إلى معادلة صعبة ومعقدة؛ نتيجتها بالنسبة للراوي (فراغ). وقد تكرر في أكثر من مقطع من الرواية أنه كان ينتقل من فراغ إلى فراغ. أي فقدان وزن، في مكان والانتقال إلى فراغ آخر في مكان آخر سيفضي بدوره إلى فقدان وزن جديد والانتقال إلى فراغ ثالث، في متاهة وجودية لا متناهية.
وفي نهاية الرواية (ارتفعت الطائرة عالياً عالياً جداً) وهذه العبارة في أحد مدلولاتها كناية أخرى عن فقدان الوزن، والتمهيد للانتقال إلى فراغ آخر.
إنه فقدان الوزن الذي يحدث للإنسان نتيجة سيره وراء أهوائه ورغباته، التي تبدو في أولها وكأنها ممارسة للحرية.. ولكنها تعود لتشكل قيوداً تكبله من جديد، ليعود إلى فقدان وزن جديد، ولتستمر اللعبة الأبدية.
****
ورسم شخصية البطل في هذه الرواية. يفضي إلى التقنيات السردية المختارة، المرتبطة بمركزية البطل؛ واتجاهها إلى الذاكرة العصرية للقارئ أكثر من ارتهانها للتقنيات السردية التقليدية. فقد كانت تركز على الأمور التي يعيشها الملتقي المعاصر في كل يوم. وأهمها:
1 توظيف الأسلوب الصحفي والتقنيات المرتبطة به. مثل تكسير الزمن باستخدام المانشيت الرئيسي أو المانشتات الفرعية أو كتابة عنوان أو تنويه في الصفحات الأولى والإحالة إلى التفاصيل في الصفحات الداخلية أو البحث عن بقية الموضوع في صفحة أخرى.. لدواع فنية. والانتقال من الصورة إلى التعليق إلى الكاريكاتير، إلى صفحة الحوادث. وهكذا.
2 ولأن عمل الصحفي المعاصر أصبح مرتبطاً باستخدامات الحاسب الآلي فإن أسلوب (الوندوز) يستخدم بطريقة متقنة في هذه الرواية..
وباعتبار البطل هو محور الرواية فإنه يصبح بمثابة الصفحة الرئيسية، ويتم فتح الملفات من خلال ذاكرته عن طريق التداعي والبحث ثم الوقوف عند عبارة معينة يفتح من خلالها نافذة على صفحة جديدة.
فحين يصل السرد إلى كلمة (أبناؤك)، يتوقف الراوي ليتساءل: أبنائي؟ ثم يبدأ في سرد حكاية أبنائه.
وحين يصل إلى عبارة: قرأت مثل هذا الكلام في كتاب هيكل عن حرب الخليج. يتوقف ويتساءل: حرب الخليج؟ ثم يفتح صفحة حرب الخليج.
وعندما يتناول مجلة (بلقيس) من جيب المقعد في الطائرة اليمنية ويشبهها بمجلة (أهلا وسهلا) في الخطوط السعودية؛ يفتح صفحة الإعلام الرسمي.
وعندما يكلم المضيفة بعبارة انجليزية ركيكة وهي تأمره بربط الحزام يفتح صفحة المناهج الدراسية البائسة
أما اهتزاز الطائرة عند الإقلاع وما يخلفه من الخوف وهواجس سقوط الطائرات فإنه يفتح صفحة سقوط الطائرة النيجيرية التي تحمل جنوداً من المشاركين في حرب الخليج، وما في هذا الحادث، والحرب نفسها من مآسٍ.
لقد حذق الكاتب لعبة بدء التداعيات وإنهائها. بحيث يلتقط مدخلا للتدفق، ويلتقط حدثا أو حركة للتوقف (أحد المسافرين المتأخرين ارتطمت حقيبته بركبتي).
بواسطة مثل هذه التقنيات السردية كان يمرر تيار الوعي الذهني والمنلوج النفسي الداخلي، لاستعادة أحداث الماضي، لأن الحياة يمكن أن تعاش بالاتجاه إلى الأمام. ولكنها لا تفهم إلا بالعودة إلى الوراء. كما يقول الفيلسوف الدنماركي كير كجارد. بل إن الفعل الروائي أساسا ما هو إلا (التفاتة إلى الوراء) بحسب ميلان كونديرا.
****
من خلال البطل نتعرف على زمن الرواية القصير جداً (مدة عقد مؤتمر الديموقراطيات الناشئة)، ولكنه يتقاطع من مئات الأزمنة.
والمكان المحمود جداً (الطائرة، الفندق في صنعاء وعدن والطائرة مرة أخرى) الذي تتناسخ منه مئات الأمكنة.
كناية عن أن حرب الخليج عصفت بلحظاتنا الوادعة البسيطة، وأدخلتها في أزمنة غريبة، وأقحمت على ديارنا أمكنة أخرى باتساع العالم.
فانفتحت الرواية من خلال زمنها القصير، ومكانها المحدود على أزمنة وأمكنة وعوالم متعددة في الماضي. واصطاد الكاتب لحظة توتر مشحونة ليبدأ في سرد روايته. (ففي لحظات الشوق كل الأشياء الميتة تفيق) حسب عبارة الرواية.
اختار توتر السفر، وأشجانه بحيث تكون النفس في أعلى درجات الاستثارة، التوتر المصاحب لطقوس المطارات والطائرات، توتر تأخر الطائرة. ثم التوتر النفس في الفندق بصنعاء وهو يبحث عن (وفاء). وتوتر الجدالات العصبية مع وفود الصحفيين العرب في المؤتمر (الذي بدا وكأنه كلاكيت ثاني مرة للمماحكات والصراع الإعلامي في حرب الخليج).
ثم توتر العودة بالطائرة.. وقد سجل باسمه في وثيقة رسمية ذلك النغل الذي لا يعرف من أبوه.
كما أن كل منا قد سجل باسمه بصورة أو بأخرى نغل حرب الخليج، ذلك النغل الذي يمكن أن يكون أبوه كل أوغاد العالم الذين أهدتهم الرواية لعنة كبيرة.
****
وتنتهي الرواية بما يمكن أن يسمى تداعي البطل. في لحظة فقدان وزن بين انتقال من فراغ وجود إلى فراغ.. ولكن الحياة لابد أن تستمر فتبقى الأسئلة مفتوحة (اين الداء؟ أين الخطأ؟ أين العلاج؟).. وهي تشبه الأسئلة التي طرحها نجيب محفوظ على لسان حسنين بطل رواية (بداية ونهاية).
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved