الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 10th May,2004 العدد : 58

الأثنين 21 ,ربيع الاول 1425

تكوين
(العنَّابيّة).. وقوف على طلل
محمد الدبيسي
إلى من وقفا وبكيا عند أطلالها.. إلى
عيد الحجيلي، ومحمد الصفراني.. وإلى كل اليتامى بفقدها..
(العنَّابيّة) الحي المتاخم للمسجد
النبوي الشريف في جزئه الشرقي..
حيث توليفة الجوهر والضفاف
الروح.. ومدها يفيض
إلى آخر ما تبقى من الأحياء المحيطة به؟!
(العنَّابيّة).. صفيّة المكان
وتعابير الزمان والإنسان المكتوبة
بالحس في أزقته المتداخلة..
ومخارج الطرقات المؤدية إلى (الحرم)
حيث منبع النور ووهج
التقوى.. وهمهمات الذاكرين..
وأجساد عطرها الوضوء
تلدها شوارع (العنَّابيّة) ومخارجها..
ونطاقات أحواشها القديمة..
** (العنَّابيّة) دور للزائرين والحجاج
والمعتمرين.. ومنازل ودكاكين تشف منها
معاني العفوية والبساطة..
وحركة لا تنقطع للغادين والرائحين..
والمستلذين برائحة المدينة القديمة
وتفاصيلها المحفورة في الذاكرة..
** (العنَّابيّة) آخر ما تبقى من تكوينات
تلك (القدامة).. وشعائر الزمن البهيج..
في (العنَّابيّة) تنماع تصنيفات الباعة
والتجار.. وتتمازج في شكل معروضاتهم
وبضاعتهم..
لا حد مركزيا.. يفصل تلك المعروضات..
ولا طبقية في مستوى المستهلكين المعيشي..
كلها تتناغم.. وتتواطؤ على الفوز
برغبة (الإنسان) المستهلك.. مفردات تلك التجارة..
لم تتحرز داخل أقبية الزجاج.. مصفوفة كنمارق
على مرأى كل من يلج العنَّابيّة
الملابس الجاهزة.. والأواني
المنزلية.. إلى العطارة والعطور..
إلى المكتبات والمطاعم.. والخردوات..
والمجوهرات..
توفر (العنَّابيّة) لهم فرصة الظفر يمايريدون..
أجواء تحيل الذاكرة إلى أمكنة الروائيين
وعوالم نسجوا حكاياتها من وحي الحارات وصدقها
وفورة إنسانيتها المحلقة .
** وفي (العنّابية) النمط المعماري القديم..
والأشكال الهندسية المائزة
للمنزل (المديني) القديم..
برواشينه ومشربياته.. المنحوتة
بعرق الأيدي الطاهرة.. بصمة
(سلاميات) الأنامل العاشقة
للمكان.! و(الدكاك جمع دكَّة)
أماكن ملاصقة للمنازل.. تجمع
الأصدقاء وأهل المنزل.. وعابري
السبيل.. يبثونها في أوقات
الضحى.. والعصاري.. وساعات
السحر.. شجَن الحياة والأحياء..
قُوام جودها.. أكواب شاي معطر
بالنعناع المديني.. وأرواح تلهج
بالطيبة والنقاء..
** (منازل العنَّابيّة) بنيت بسواعد أبنائها
حيث لم تكن آنذاك شركات
ومؤسسات منفذة.. ورافعات تثير حنق المارة
اسمنتها وطينها.. مخلوط بعرق
المحبين.. الذين أعلت سواعدهم
قامات أبنيتها وأحيزتها في فضاء
المكان.. وذاكرة الإنسان..!
** في (العنَّابيّة).. ذكريات لأهل
المدينة.. وحكايا.. وسير.. وأحزان ومسرات
.. لم يبق منها غير المكان.. يدر قطر الألفة
وحلاوة الزمن الغابر..!
حتى اقتضت سنة التطوير.. أن
تُفرغ (العنَّابيّة) من سكانها وقاطنيها
والعابرين بين أزقتها..؟
وتستأنف.. (الجرافات) غرس
أسنانها الحادة في جسد (العنَّابيّة)
ومفاصل تكوينها.. لتجعلها قاعاً صفصفاً..
وتبدأ الهدميات.. تدك معاقل الذاكرة ورموزها..
وتحيلها إلى أثر.. لا معالم للزمن فيه..؟؟!
* * في (العنَّابيّة) ثقافة المكان.. بنصوصها
الحية.. وشواهدها المعاينة..؟
ثقافة لا نقرؤها.. كلمات منقوطة..؟
وإنما نستدخل بناها.. ونتلقى دلالتها بلا وسيط،
تعايش حيواتها.. في وجوه كل الناس، وملامحهم
التي تفيض بمكنونات المكان..
حدسك لا يكابد مشقة الانغماس في عذوبة
اندلاقها من كل الشرفات والوجوه والزوايا
والتكاكا والأرصفة.. الندية بتوالي الخطى..؟
وفي (العنَّابيّة) الآن.. منظر.. لا يستفز
فيك سوى البكاء.. فيتبدد المكان.. يتبدد الزمن..!
وتنضب الذكر من أمكنة تضمها
والأمكنة في العنَّابيّة.. لا مكان.. (الآن....؟)
اقتلعت النوافذ والأبواب.. وتركت كواها ثقوبا
موشحة في مداها يرتع الظلام..!
خلت الشوارع من المارة..
ولم يعد غير الصمت والفراغ.. ولوعة فقد الخطى
المتجهة إلى مرادها..؟
انمحت الذكريات.. وأطل نشيجها
حزيناً بين الأنقاض..!
* * (العنَّابيّة).. ليست كتلاً من الاسمنت
المسلح.. وليست أزقة.. غارقة في
وعورة التنظيم.. أو ثائرة على معايير العصرنة..؟
هي ذلك الدفق المنثال من بصيرة الإنسان..
وجوانية الشعور المتفرع في شرايين الذاكرة..
(العنَّابيّة) منابع وجود لأناس
جاوزوا اليوم الخمسين والستين والسبعين..
أرخوا بها مكاناً لصرخة ميلادهم..!
ولا وجود اليوم.. لمنابع انطلقت منها
أنفاسهم، أحلامهم.. وارتسمت في أزقتها خطواتهم الأولى
ومواجد عمرهم الجميل..؟
** (العنَّابيّة) بوصفها ثقافة المكان.. تنطق
صباح مساء.. بتلك اللغة البيضاء.. المتبادلة
بين العابرين والساكنين..
والأزقة والشوارع في عناق أبدي..
لم يستطع الزمن فك وئامه الحميم..!
حتى أتى اليوم.. الذي يجتمع فيه تجار (الخردة) على
أطلال (العنَّابيّة) يبيعون
رجيع نوافذها وأبوابها, وحجارتها المعتقة
وأدواتها الصحية.. بثمن بخس...
في حسابات قيم الروح والثقافة والضمير...؟
لم يستشعروا وجع استئصالها
من جسد ضمها يوما ما..
وأنفاس تشربتها.. دون أن تتوقع
لحظة الفراق.. أو تهجس ببؤس المصير..؟؟!!
** (العنَّابيّة).. وقد قطع عنها الماء والضوء.. منذ فترة..
حتى تخرج روحها .. وتعتصر
حياتها.. حتى تلفظ أنفاسها فداء للتطوير..؟؟!
ولكنها ظلت شاخصة.. تلوح لمحبيها وأهلها
بألحان الغبن الحزين..
لتقول (الجرافات).. كلمتها الفصل..
بين الموت.. والحياة..؟؟؟


md1413@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
المنتدى
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved