الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th July,2006 العدد : 161

الأثنين 14 ,جمادى الثانية 1427

صدى السنين لحنان السيف
د. عبدالعزيز الخويطر

تتجمع الكتب المهداة لي، التي اتبعتها على (طاولة) على يسار المكتب الذي أجلس عليه للكتابة، وتتراكم حسب ورودها، وتصبح هرماً بجانبه هرم، ثم تتكاثر الظباء على خراشِ فلا يدري ما يصيد منها، ولضيق الوقت أمام الطموح للقراءة والكتابة وأداء العمل على الوجه الأكمل، والقيام بالواجبات الاجتماعية من ذهاب للتهنئة بزواج، أو التعزية بوفاة، أو حضور مناسبة مِلكة، أو مجيء حبيب من سفر، أو الذهاب لتهنئة بمولود، أو زيارة مريض، لهذا كله أتمنى أحياناً أن يعيرنا لاعبو الورق (البلوت) بعض وقتهم، نحييه بما فيه أجر وثواب.
* قبل شهر جاء دور قراءتي لكتاب (صدى السنين) للكاتبة المبدعة حنان بنت عبدالعزيز بن عثمان السيف، فقرأته بمتعة، وأعدت قراءة بعض المقالات مرتين، لتميزها بما أجد أنه مفيد وممتع، وقد أهدتني المؤلفة الكتاب في 25- 7-1426هـ، وكان أمامي طوال هذا الوقت ينظر إليّ وأنظر إليه، يدعوني لأقرؤه وأدعوه لينتظر حتى أجد الوقت الذي اطمئن فيه إلى أن ذهني في راحة تامة تليق بمثل هذا الكتاب الذي أجده يتجاوب مع ما لا أفتأ أدعو إليه، وهو الحرص على جمع المقالات التي يكتبها الكاتب مفرقة في الصحف أو المجلات، أو ملقاة في محاضرة على جمهور من الناس.
هذا الكتاب هو مقالات نشرت تباعاً في تواريخ مختلفة، أو صحف، أو مجالات، نُوّه عن ذلك في أسفل الصفحة، زيادة في الفائدة والتوثيق، وهي أول ما يلفت نظر القارئ على توقيره واعتباره من قِبل الكاتب. وبعد قراءتي للكتاب قلت في نفسي لو كان الأمر لي لسميت الكتاب (إضاءات)، لأنه مشع بالأفكار النيّرة، ولا تجد مقالة واحدة تقول عنها إنها حشو، بل كل واحدة أتت صورة صادقة بما كانت الكاتبة الكريمة تريد أن توصله إلى ذهن قرائها بأمانة وصدق.
ومن فوائد الكتاب العامة أنه يؤرخ لفكرنا في هذه المرحلة، وسيكون في صداه رجع صادق لمن سوف يؤرخ للفكر عندنا عندما يتعرض كاتب لرسم صورة لمواكبة الفكر في هذه الحقبة لما يمر به المجتمع من أنغام فرح، أو آهات ترح، وهذا هو ما سبقنا إليه كتاب الحضارة الإسلامية منذ عصر العباسيين، وما ننعم به الآن من لذة فكرية نجدها فيما تركوه من خواطر ترسم صوراً مختلفة عما كان يدور حولهم، مما أصبح اليوم مثلاً يُقتدى به، وأضحى موحياً لنا بالإبداع في ضوء ما يمر به العالم اليوم من تقدم تقني، ومصادر ثرة للمعلومات.
* قراءة المقالات تؤكد عمق ثقافة الكاتبة، وسعة اطلاعها على كتب التراث بأنواعها دينية وتاريخية وعلمية وثقافية، وعلى اطلاع على سير الرجال عبر عصورنا المشعة. وتبتهج وأنت تقرأ لها إشارة إلى أديب فطحل ولكنه مغمور إلى حدٍ ما، ولكنه معروف للمنقبين والباحثين ثم نفاجأ بها وهي تشير بنباهة وذكاء إلى أديب غربي أو شرقي، مما يوحي بما رشفته من رحيق أزهار متنوعة، والحقيقة ضالة المؤمن أين وجدتها التقطها، ومن المقالات التي تكشف عن عمق الثقافة وسعتها، المقالة الأولى (ص 11) (الصداقة، أصناف شتى.)
هل سمعت بالشاعرين الخالد بن أبي بكر محمد بن هاشم وأبي عثمان سعيد بن هاشم؟ إذا كنت قرأت يتيمة الدهر فأنت بلا شك سوف تعرفهما، وأخشى أن يكون هناك من الجيل الحاضر من لم يسمع بيتيمة الدهر للثعالبي. من فوائد قراءة المقالات أو الكتب التي تجمعها أنها تغريك بالبحث عن مظان ما قرأت، فأرجو أن يكون في هذا باعث لك على قراءة يتيمة الدهر إذا لم تكن قد قرأتها.
وهل قرأت الفهرست لابن النديم، إنه كتاب مفيد جداً، وهو من مصادر الكاتبة في مقالتها الثالثة (ص: 22)؟ وهل سمعت بالشاعر الظريف (نَصر الخبر أرزي)، فهو ممن ورد اسمه في هذه المقالة (ص: 23)؟
** هذه الأسماء للكتب وللأشخاص تعطي فكرة عن مدى سعة اطلاع الكاتبة، وعن عمق إيمانها بمصادر ثقافتها، وولائها لها، ولم ترد أن تنفرد بالنفع بل أشركت جمهور قرائها، وهم مَن همها أمرهم في اختيار الموضوع، وفي معالجته، واختيار الأسلوب الذي يضمن اجتذابهم.
من الكتاب الذين وشى أسلوبها بأنها من مدمني قراءة إنتاجه الثر الجاحظ، وهو كاتب له مريدون كثيرون في كل زمان، ومن أظهر جوانب أسلوبه الجاذبة الترادف في الكلمات والجمل، وهو أمر محمود، لأن فيه زينة للأسلوب، وضمان لفهم المعنى، فإذا كانت الجملة الأولى غير واضحة فرديفتها تتكفل بالوضوح، وهذا أيضاً مظهر احترام لذهن القارئ، وحرص على إيصال الرأي دون مِنّة. وتأثر كاتبتنا بالجاحظ أمر مرحب به ممن عرف الأساليب الأدبية، قديمها وحديثها، وإذا كان الترادف في الكلمات يعد أوتاداً مثبتة لمعناها فكذلك الجملة فالجملة الثانية مثبتة للأولى. ومن الأمثلة التي يأتي فيها التتابع والترادف دون تكلف قولها في المقدمة: (تأتي صيد الخاطر، ولمح الناظر (ص : 19، ثم) (من ذوقٍ رفيع، ومن أسلوب بديع) (وكم تبلغ بك السعادة كل مبلغ، وتأخذ بك البسطة في كل مهيع) (ص: 21) ثم (من الذين علوا الزمان، وتصدروا حلبة الفكر والبيان، وما زال نجمهم ساطعاً، وسعدهم طالعاً، وذكراهم ناصعاً، الجاحظ.. (ص: 91 ثم) (وقد يكون من أول هذه الأوجه أن كلا منهما يعلمك العقل قبل الأدب، فيوقظان ذهنك، ويخاطبان قريحتك، ويصقلان فكرك) (ص: 91) ومن جمل الترادف قولها في (ص:142) (لوجدت الفرق بيّنا، والبون شاسعاً)، وفي (ص: 152) قولها (كلامه - صلى الله عليه وسلم - بلسم شاف، وترياق مجرب) وقولها: (ص: 156): (ولا غرو في ذلك فالمتنبي مخترع مفلق، ومبدع معجز). وفي (ص: 167) و(تظل مواهبنا وقدراتنا مدفونة: في داخلنا، مخزونة في خبايا نفوسنا، وتحتاج إلى طاقة جبارة لترى ضوء الشمس ونور النهار)، وعيناها أغرقهما الدمع، وقلبها هصره الحزن، ومع هذا لم يهجرها أسلوبها المفضل، بل أسعفها في هذه اللحظة القاسية، قالت في (ص : 185): (وفيها حكمك مضى، وعدلك قضى.)
***
* واكتفي بهذه الأمثلة عن التتابع والترادف في أسلوبها، وتكاد تجده عدة مرات في كل صفحة تقريباً، والمجال ليس مجال استقصاء. بل إن هذا التتابع والترادف يعجبنها من دون أن تشعر في بعض ما تقتبس من أولئك الذين اتسم أسلوبهم بهذا. (انظر ص: 157، عندما اقتبست من أبي حيان التوحدي، وكذلك في ص :158).
يعجب القارئ باختيارها للمواضيع التي تكتب عنها، ونظرة إلى فهرسها تجعلك تجيل طرفك في روض نضر سواء كان ذلك في الموضوع المطروح، أو في العنوان المختار، فمن الحديث عن أمور عامة تهم المجتمع أو تقيده أو أمور فيها اختلاف وتحتاج إلى تقرير وضع لها، تساهم هي في طرح وجهة نظرها، إلى اختيار أشخاص مختلفي الفكر أو المهنة أو الطبيعة أو النهج، أو مختلف على موقعهم في فكر الحضارة الإسلامية، وسياحتها في هذا الجانب تمر بأزمان قديمة وحديثة. وفي كل ذلك توثق مصادرها وتكشف عن حرصها على أن يكون ما تقول نافعاً في أكثر من مجال، وأوسع نطاق، فعندها حاسة المدرس الذي لا يكتفي بإعطاء ما هو مفيد لتلاميذه، وإنما يدلهم على البستان المفتوح برحابة لكل من أراد أن يقطف مما فيه من زهور أو فواكه، أو يطرب بما يغرد فيه من بلابل.
دلّت في مقالاتها، ورصد مراجعها ومصادرها على كتب ابن تيمية، وابن القيم، وعلى معجم الأدباء، لياقوت، ودواوين الشعراء الكبار من أمثال المتنبي والمعري وغيرهما مما هو مرصود في ثنايا المقالات. وعلى يتيمة الدهر للثعالبي، والفهرست لابن النديم، وكتاب إنباه الرواة للقفطي، وكتاب البداية والنهاية، لابن كثير، وتاريخ الرسل والملوك لابن جرير الطبري، وشذرات الذهب لابن عماد، وهذه موسوعات وفيما كتبته ما يدل على أنها قرأت هذه الكتب، واستوعبت ما فيها، واختارت ما رأت أنه يخدم غرضاً من الأغراض التي في ذهنها، وما هذه إلا نماذج لما أطل علينا في ثنايا كتابها. وثبت المراجع.
***
** في آخر الكتاب يجعل المرء يفخر بأن الفتاة عندنا وصلت في هذه المدة القصيرة منذ بدأت مدارس البنات، وقد بزّت كثيراً من الذين يكتبون من الرجال، وكنت دائماً أقول: إن كان الرجل وصياً على المرأة والحديث عنها في الزمن الماضي فقد آن الأوان أن يقر أنها لا تحتاج إلى وصايته الآن، وأنها اليوم في وضع فكري ناضج، وإدراك ثقافي متقدم، فلا داعي اليوم أن يتكلم رجل عما يخص المرأة من شأن، النساء في هذا أكثر صواباً من الرجال، الكاتبات لا يكتبن عن شؤون الرجال، وإن حدث فلمبرر لا يمكن تجاهله أو تفاديه، أو لشعور بأن الرجل لم يقم بحقه نحوها.
قرأت المقدمة أكثر من مرة، لما وجدته فيها من عمق في الفكر تجاه المقالة، وبراعة في معالجة هذا الجانب المهم. وهي مقدمة لائقة بكتاب يحوي مقالات متميزة، وقد بررت جمع المقالات في كتاب خير تبرير. وحقٌ على كل كاتب (عمود) أن يقرأ هذه المقدمة، ففيها رسم لخطوط يستوجب من يكتب أن يراعيها، والكاتبة بذلت من التفكير ما جعل هذه المقدمة تستحق أن تسمى مرجعاً.
المقالات عموماً من النوع الذي لا تكفي فيه قراءة واحدة، أو قراءة سطحية.
** وقد اغرورقت عيناي بالدموع وأنا أقرأ المقالة الثالثة والخمسين: (حورية تُزف إلى القبر) (ص: 184) وما ان توغلت فيها حتى احتجبت الرؤية عن عيني، لأنها كتبت بقطعة من مهجة حرّى، هصرتها الكآبة، وهي ترى شمعة غالية تعاني وتذبل تدريجاً حتى انطفأ نورها بعد نوبات يأس، ومرات أمل، فانتصب في النهاية الحزن بقامة مديدة، ويد ضاغطة، وكلكل عامر، يعضده عِظَم الفقد، ودوام البعد، بعد القرب المبهج، ولم يبق إلا ذكريات تنبش الدفين، وتنكأ الجرح، ولكن الإيمان قوي جاء آسيا، واللجوء إلى الله من بيده الأقدار، ظهر الاتجاه إليه، والتسليم لأمره، والخضوع لإرادته، أملاً في الأجر والمنّ بالصبر، في العنوان (عرس) اكتفي بهذا وهو قليل من كثير، ما جئت منه إلا بما أحاط بالعنق. والله ولي التوفيق.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved