الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th July,2006 العدد : 161

الأثنين 14 ,جمادى الثانية 1427

التقويض الفرويدي (6)
سعد البازعي

العلاقة التي ربطت فرويد بمجموعة المحللين النفسانيين الذين عمل معهم، العلاقة التي تنطوي كما أشرت في المقالة الماضية على قدر كبير من الطرافة أو الغرابة، تتصل بما هو أكثر جدية وخطورة سواء بالنسبة لفرويد شخصياً أو بالنسبة للمجموعة اليهودية المشار إليها، والجماعة اليهودية في النمسا وفي أوروبا بشكل عام إبان تشكل حركة التحليل النفسي أوائل القرن العشرين.
ففي تلك الفترة كان عداء اليهود على أشده في النمسا، كما في أماكن أخرى كثيرة من أوروبا، فحسب المؤرخ بيتر غي كان ذلك العداء الذي يطلق عليه غي، مثل غيره من الغربيين، عداء السامية ? مستشرياً، لا سيما في فيينا، في الأوساط الطلابية والمهنية والعلاقات في المجتمع والجامعات.
وقد كتب فرويد لتلميذه كارل إبراهام يقول: (تأكد أنه لو كان اسمي أوبرهيوبر، فإن إبداعاتي كانت ستلاقي قدراً من المقاومة أقل بكثير مما لاقته، على الرغم من كل شيء).
المقاومة التي يشير إليها فرويد لم تأت بالطبع من كون فرويد أو أحد من مجموعته من اليهود بقدر ما جاءت من الأسس النظرية التي قام عليها ذلك المنهج أو المقاربة العلمية التكنيكية في التعرف على دواخل النفس الإنسانية لا سيما الفرضيات المتصلة بالنوازع الجنسية.
لكن الصلة بين التحليل النفسي واليهود لعب دوراً مهماً في توليد ردة الفعل، وحين نتأمل الآن في بعض كتابات فرويد، لا سيما رسائله، مما لم يكن بإمكان الناس آنذاك الاطلاع عليه سندرك قوة الإحساس لديه بأن ما أنتجه كان لصيقاً بانتمائه الإثني، وهو ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار بغض النظر عن قناعتنا بصدقه.
فكما ورد في الرسالة التي كتبها لتلميذه كارل إبراهام، والتي سبق اقتباسها، يعلق فرويد على علاقته وعلاقة إبراهام أيضاً بيونغ، العالم النفسي المعروف ومؤسس ما يعرف ب(علم النفس التحليلي)، ويربطها بالارتباط العرقي بينه وبين أبراهام، مثلما يربطها بالرابط الديني - الثقافي لكون يونغ مسيحياً.
هذا التصور المتعصب والمبني على قناعات عرقية لم يعد مقبولاً بطبيعة الحال، وليس من الصعب رفضه بناءً على التطور المعرفي الذي تجاوز ما كان سائداً في عصر فرويد. لكن رفض تلك القناعات أو تجاوزها معرفياً لا ينبغي أن يؤدي إلى تهميشها وتجاهل أثرها، فتلك القناعات كانت في النهاية، أو كان من الطبيعي أن تكون، عاملاً مؤثراً في تشكل فكر فرويد ونظرياته من حيث هي نتاج إنساني متأثر بالظروف المحيطة. ومما يمكن إفادته من المقاربة التاريخية في الدرس النقدي والفكري الحديث أن على الباحث أن يتخلى أحياناً عن قناعاته الشخصية ويتماهى مع عصر آخر ليستطيع فهم النصوص التي نتجت في ذلك العصر بظروفه التاريخية ومؤثراته الفكرية والثقافية المغايرة، وهو ما تؤكده شواهد كثيرة في تاريخ الجماعات اليهودية وأفرادها المسهمين في حقول العلم والثقافة، مثل الروائي الإنجليزي دزرائيلي والشاعر الألماني هاينه وغيرهما كثير من ذوي الانتماء اليهودي.
ذلك أن النظرية العنصرية كانت ذات سيادة طوال القرن التاسع عشر وحتى مطلع القرن العشرين، ما يعني أن قناعات فرويد لم تكن غريبة، بل كانت منتشرة وفاعلة في تشكيل الأفق الثقافي للمرحلة التي عاش فيها. نلمس ذلك مما تركه بعض معاصريه من اليهود أنفسهم، كما في ما كتبه أ. روباك في تأريخه لما سماه (التأثير اليهودي في الفكر الحديث) (1929م).
فمن النقاط الأساسية في طرح روباك رفض ما يراه من تجاهل للأصل اليهودي لكثير من المبدعين اليهود بأن يشار فقط إلى كونهم إنجليزاً أو ألمان أو غير ذلك، وهو ينطلق في ذلك من قناعة أساسية بأن ما يربط اليهود من (أسس بيولوجية ونفسية يلقى التجاهل) لأن الرجال العظام ليسوا مثل الأشياء التي يقال عنها (صنع في فرنسا) أو (صنع في ألمانيا).
إنهم أبناء أصل قومي أنجبهم حتى وإن لم يرغبوا في الاعتراف بالحقيقة...، كما يقول.
إلى جانب هذه القناعات العرقية نجد لدى فرويد إيماناً بضرورة العمل من منطلقات فئوية أو جماعية، وهذه بالطبع ليست بحاجة إلى تبرير لأنها ليست مما ثبت تهافته وتجاوزته المعرفة، بل إن الدراسات الاجتماعية تحفل بالكثير مما يؤكد أهمية هذا الجانب وتأثيره على حياة الأفراد فيما يعرف بدراسة الأقليات.
ما لم يحظ ربما بما يكفي من البحث والتأمل هو تأثير ذلك التحيز الفئوي على التشكل الفكري والثقافي، ومن هنا تكتسب حالة فرويد أهمية خاصة في سياق بحثنا، فنحن إزاء حالة من الارتباط الواضح إلى حد كبير بين تحيزات فئوية وأقلوية اجتماعية وبين اجتهادات فكرية أو علمية في فهم الفرد والمجتمع المحيط. تلك التحيزات الفئوية هي ما يشير إليه فرويد في رسالته إلى تلميذه إبراهام التي سبقت الإشارة إليها، فهو في تلك الرسالة يتجاوز المسألة العرقية إلى الزاوية الفئوية حين يتحدث عن أهمية الاحتفاظ بعالم النفس المعروف كارل يونغ ضمن دائرة التحليل النفسي على الرغم من الاختلاف العرقي والديني بينه وبين المجموعة اليهودية: إن ارتباط يونغ بنا هو أكثر قيمة بسبب ذلك الاختلاف. لقد كدت أقول إنه بسبب ظهوره في المشهد ينجح التحليل النفسي في الإفلات من خطر أن يكون شأناً يهودياً.
إن الحديث عن تكاتف فئوي لا يعني بالضرورة الحديث عن مؤامرة يهودية، كما قد يظن، فالتكاتف الفئوي للأقليات أو التكاتف الأقلوي من سمات الإنتاج والعمل الثقافي والإبداعي مثلما هو من سمات الإنتاج والعمل في مجالات السياسة والاقتصاد وغيرها من العلوم على اختلافها، وإذا كان قد لوحظ أن الجماعة اليهودية في ألمانيا في مطلع القرن العشرين ظلت مخلصة لممارسات مهنية ومناشط اقتصادية محددة على الرغم من النمو والتنويع الاقتصادي المنتشرين آنذاك، فإن ملاحظة شبيهة قد تطلق على النشاط الفكري والثقافي أو الإبداعي.
من ذلك ما يشير إليه الباحث بيتر بلزر، في دراسة موسعة للأوضاع السياسية للجماعة اليهودية في ألمانيا ما بين 1848م و1933م، حين يتحدث عن إصرار اليهود على الاحتفاظ بأنواع معينة من النشاط المهني والاقتصادي هناك، ويستشهد في هذا السياق بما توصل إليه الباحث الإسرائيلي أفراهام باركاي Barkai من أن ذلك لا يمكن أن يعني سوى أن العوامل المحفزة كانت ذات طبيعة جماعية group-specific وليست متصلة بالتطورات الاقتصادية المحلية... ويتوصل بلزر من ذلك إلى أن الانتماء العرقي ethnicity هو التفسير الوحيد المقنع لذلك السلوك.
وقد التفت بعض المفكرين بالفعل إلى العلاقة بين الانتماء الفئوي والنشاط الفكري والإبداعي وظهرت من ذلك دراسات مهمة أخرى سواء اتصلت بالجماعات اليهودية أو غيرهم. من تلك ما اتصل بمدرسة فرانكفورت مثلاً التي تألف كل أفرادها (ما عدا هابرماس) من باحثين يهود، ومنها ما يتصل بكتاب أفراد تأثرت أعمالهم بذلك الانتماء، كما في حالة كافكا كما يرى المفكران الفرنسيان جيل دولوز وفيليكس غطاري في كتاب بعنوان (نحو أدب أقلوي) (1986م).
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved