Culture Magazine Monday  10/09/2007 G Issue 215
عدد خاص
الأثنين 28 ,شعبان 1428   العدد  215
 

طفل القصائد الشرسة
علي جعفر العلاق

 

 

-1-

حين كنا صغاراً نتعثر بين جملة وأخرى، صحونا على صوت عميق، وساطع، وعصي على اليأس: أعني صوت الشاعر العربي الكبير سليمان العيسى ولم تكن هذه الصفات هي خصاله الوحيدة، أو المبرر الوحيد لتعلقنا به بل كان يضيف إليها شيئاً آخر لم يكن متاحاً لأبناء جيله: إنه الصوت الشعري الخاصب، أو النبرة الشخصية المميزة التي تجعله هو دون سواه، وتفرده عن ذلك الحشد الهائل من الشعراء المتشابهين. كانت القصيدة، عند سليمان العيسى، فعلاً إنسانياً ينضح بالوعي والشفافية، ولغة جياشة بالأمل والغضب العظيمين. لقد علمنا أن نحلم ونغضب ونحب. وكان في كل ذلك شاعراً شديد الحيوية وإنساناً يقظ الضمير: نبرتان في صوت واحد، ملتحم، لا يقبل الانشطار أو التشظي، وعلمنا أيضاً أن نحلم بأفق أبهى وأكثر عدالة، وأن نسعى في طريق يفضي، على الرغم من وعورته الدامية، إلى فجر أجمل، ومجتمع لا بطش فيه. كانت قصائد سليمان العيسى، آنذاك، تشق طريقها إلينا بيسر وعذوبة لا نظير لهما، فتجرف ما كان يعترضها من مفاهيم تناقض ما يسعى سليمان العيسى إلى تحقيقه في الشعر والحياة. وحين كان بعض شعرائنا العرب يصغون، بدفء وحميمية، إلى أنين ذواتهم كان سليمان العيسى يرى في الشعر عملاً إنسانياً مغيراً. وحين كان هؤلاء الشعراء يغنون ليأسهم الجميل حيناً ولعزلتهم عن الحياة حيناً آخر كان العيسى ينظر إلى القصيدة على أنها عون للإنسان في عذابه وكفاحه العظيمين. في تلك الحقبة، كان بعض شعرائنا العرب يفصحون عن شكوكهم في الشعر وجدواه، أو في الشاعر ودوره، وكأنهم يجدون في كتابة الشعر قلقاً لا داعي له، أو أن الشعر، لديهم، عذاب مركب لا يخلف لصاحبه غير الموت ولا يثمر إلا الندم واللا جدوى: لمن تسكب الروح يا شاعر؟ أما لضلال المنى آخر؟ أللمجد؟ ماذا يحسّ القتيلُ إذا ازورّ أو بسم العابر؟ أللخلد؟ ماذا يردّ الذئاب إذا عضّها جوعها الكافر؟ في هذا الوقت بالذات، كان سليمان العيسى يشعل تلك الصحراء العربية الموحشة بقصائده، ليندلع صوته مجلجلاً أقوى من اليأس وأعتى من قوى الفناء والإحباط:

أمة العربِ لن تموتَ

وإني أتحداك باسمها يا فناءُ

وحين كان يرى الأزمنة العربية تنحدر صوب غروبها الموحش، والأمكنة العربية تتفتت بقعة إثر أخرى، كان يهب كرعد وحشي، ليملأ عروق الشجر الكالح برعشة الحياة، ويشد إرادة العرب، في كل مكان، بإيمانه الملتهب وقصائده الشرسة.

-2-

إن حاجة الإنسان إلى المكان حاجة أزلية؛ فالإنسان بطبيعته كائن مكاني: يألف الأمكنة بسرعة، ثم يتجاوز ألفتها الظاهرية العابرة إلى ألفة أكثر عمقاً وديمومة. هي ألفة الأعماق، ألفة الجوهر والحقيقة الكامنين وراء ما هو ظاهري وسطحي، وطارئ. وألفة الإنسان للمكان لا تأتي عبثاً، بل هي نتيجة لرغبته الدائمة وميله الغريزي إلى الارتباط أو الانتماء، إلا أن المبدعين يتجاوزون هذا المنطق غالباً، لأن الإبداع أكبر من المكان والزمان، معاً. إن المبدع يفيض على الأمكنة ويتخطاها بقوة الشعر وفداحة الوعي. وسليمان العيسى لم يكن حكراً على مكان بعينه، ولا منتمياً إلى فترة بذاته. إن دماء قصائده تفوح من كل صخرة عربية. وها هو صوته يندلع، كلهب خرافي، ليبدد ظلمة الأمكنة. لقد كانت حياته، كشعره تماماً، موزعة على بلاد العرب جميعاً، وما تزال خصل من قصائده الجامحة المهيبة عالقة بقلوبنا، وقصائدنا، وأسمائنا، عالقة بأعيادنا، وكوارثنا، وأغانينا. وستظل كذلك إلى قرون عدة مقبلة. إن مبدعاً كبيراً، مثل سليمان العيسى، هو جزء من هواء العرب الفسيح، وعنصر من عناصر إرادتهم التي لا تقهر، على الرغم مما يظهر للناظر والمعجل عن عوامل التفتت والانحدار. إنه، كأي مبدع أصيل، يضيق به المكان ويضيق به زمانه أيضاً. إن الأمكنة حين يعصف بها إحساسها بالنقص، وحاجتها إلى الاكتمال لا تجد ضالتها إلا في انتمائها إلى المبدعين عادة. وهكذا تشرف بالانتساب إليهم، وتزداد رقياً حين ترتبط بإبداعهم برابطة ما.

-3-

ولم تكن لغة سليمان العيسى وحدها هي ما يشدنا إلى قصائده ولم يكن إيمانه الجبار بماضي هذه الأمة ومستقبلها مروراً بحاضرها المؤلم. بل انفتاح قصائده على تراثنا، واحتشادها بجوهر هذا التراث المتألق كالذهب الكريم، فقد كانت هذه القصائد جسوراً من حرائق الروح المزهوة بماضيها والحالمة بمستقبل أكثر عدلاً وجمالاً. والتراث، لدى سليمان العيسى، ليس أقوالاً تحفظ في ثنايا الذاكرة وليس مرويات يعيد سردها علينا مرة أخرى. بل هو شحنة داخلية تتفجر داخل النص الشعري: تضيء ممراته المترعة بالمعاني الخفية، وتملأ نسيجه بقوة الروح، وتوهج الطفولة. حين تجلس إلى هذا الشاعر الكبير يدهشك ما يشتمل عليه هذا الجسد النحيل من جبروت، وتعجب من تلك الذاكرة المشحونة بأكثر المدخرات لطفاً ورهافة: ذاكرة مفتوحة على براري الماضي وينابيعه تغترف منها ما تشاء بمقدرة نادرة المثال. إن سليمان العيسى جسد يكاد يسيل ليصبح جزءاً من هواء المكان الذي يقرأ فيه قصائده، ويشف إلى حدّ الذوبان حتى نكاد نتوهم أننا نصغي إلى غيوم تحلق شفافة متوهجة، مطلقة براكين الحنين وحرائق المعنى. ومع هذا الانشداد إلى الماضي، وهذه المعرفة بالتراث فإن سليمان العيسى لم يقع أسير العابر أو الظرفي من ذلك التراث المزدحم بالتفاصيل. بل ذهب بعيداً، منفتح العقل والضمير، إلى ينابيع الجمر والدهشة وهبط إلى خفايا المعاني، وأنين التراث الطافح بالأسرار، والطفولة الأخاذة.

++++++++++++++++++++++++++++

شاعر العروبة والعرب

د. رياض نعسان آغا *

* وزير الثقافة في الجمهورية العربية السورية

* شاعر وناقد من العراق



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة