Culture Magazine Monday  10/09/2007 G Issue 215
عدد خاص
الأثنين 28 ,شعبان 1428   العدد  215
 

شاعر العروبة وأمير شعراء الطفولة
ياسر المالح*

 

 

غالباً ما تكون الشهادة للكبار ممن عاصروهم وعاشروهم قاصرة أو مبالغاً فيها. فالقصور يأتي من نقص المعرفة أو الرأي المخالف بلا تروّ أو من الحسد. والمبالغة تأتي من الإعجاب الشديد أو الحب الذي لا يَرى. وما أصعب أن تكون الشهادة عادلة موزونة بميزان! والشهادة العادلة لا تليق بوصف المبدعين الكبار لأنها تبدو جافة جفاف النص القانوني، فهو ينصف دون إمتاع، فكيف أشهد؟

سأحاول.. معرفتي بسليمان العيسى منذ أربعين سنة لا تكفي للشهادة له أستاذاً وصديقاً، فقد ولد عملاقاً قبل أن أولد. وكل ما أسمح به لنفسي أن أبدي بعض ما أكنّه له من إعجاب وحب وتقدير لما اجتمع له من صفات لا تجتمع لغيره.

* سليمان العيسى شاعر مبدأ وقضية. وحلم الوحدة العربية يسكن عيونه ووجدانه وأعصابه منذ كان طفلاً يحاول اكتشاف ما حوله.

* سليمان العيسى مقاتل عنيد. سلاحه الكلمة والنغمة الساحرة.

* سليمان العيسى يعرف طريق الخلود ويسير فيه. كثيرون شبّوا على ترانيم أناشيده، فسكن اسمه في مستقر الذاكرة لا يبرح. ودواوينه وأعماله تطل على الناس في المعارض والمكتبات الكبيرة، فتتناولها أيدي العشاق لتقرأها وتضمها إلى الصدور.

* سليمان العيسى طفل ذكي لا يكبر، لذلك أحب الأطفال وكتب لهم، وأحبه الأطفال وغنوا شعره.

* سليمان العيسى مفرط في رهافة حسّه. هو مطلٌّ أبداً بجوارحه كلها ليسمع ما يقال ويرى ما يعرض ويقدّر ما يخفى.

* سليمان العيسى بعينيه الزرقاوين ينفذ في عمق الأشياء، ويمتاح من الينابيع الصافية، ولا يلتفت إلى السواقي التي تجري على السطح.

* سليمان العيسى يعشق الجمال في كل شيء. ويرى في المرأة جمال العقل والروح قبل الجمال الزائل. والمرأة عنده شريكة حقيقية ومصدر إلهام وسكينة.

* سليمان العيسى صديق وفيّ. يحب الناس ويحبه الناس.

* سليمان العيسى عاشق الموسيقا والفن الرفيع تتحسسهما في شعره ونبرته.

* سليمان العيسى ليس ظاهرة مرتبطة بزمن ما ومكان ما. إنه حضور دائم ووجود كامل في القرن العشرين وما يليه من قرون.

* سليمان العيسى قيمة أدبية وفنية للعرب جميعاً.

* سليمان العيسى يعيش للعطاء ولا يمل العطاء. ولا ينضب ينبوعه حتى يحين الصمت الأخير.

وقصتي مع سليمان العيسى قصة:

أحببته قبل أن أراه، وقرأته قبل أن أسمعه، فلما رأيته أول مرة وسمعته أول مرة، أحببته أكثر، وأكبرته، وغرقت في موسيقاه.

حين لقيته أول مرة نظر إليّ بعينيه الزرقاوين اللتين يشع منهما البحر المحيط والذكاء الذي يعبر الحدود. فأدركت أنني أمام جبل رحيم، يحضن كل شادٍ ومغرّد كما يحضن قاسيون دمشق.

كان سليمان العيسى يحبّ العربية حبّاً لا مزيد عليه، فكانت تسري في شرايينه وأوردته، وكانت النواة التي تدور حولها الكهارب في خلاياه. وكان يحب كل من يحبّ العربية ويغار عليها. فالعربية عنده ساحرة فذّة، هي التي تجعل الحلم الأخضر حقيقة. والحلم الأخضر عند سليمان هو الوحدة العربية، وهي حلم كل عربي، يريد أن يعيش حراً كريماً مبدعاً منتجاً، ليسهم مع شعوب الأرض في صنع حضارة جديدة تليق بالإنسان.

رجل يفكر في هذا، ويناضل من أجل تحقيق الحلم الأخضر.. رجلٌ أحقّ أن يتّبع. فانضويت تحت لوائه، وهو ابن اللواء، وبدأنا نعمل معاً من أجل رفعة العربية، وأول ما دعانا إليه أن نصحبه في الدخول إلى عالم الأطفال.

وقال لنا: من هنا نبدأ.

كان ذلك في العام 1967 بعد النكسة. تلك النكسة التي أوجعتنا لكنها لم تحطّمنا. وأذهلتنا إلى حين قصير الأمد، لكنها أيقظت انتباهنا إلى أن النكسة لا تعني النهاية وإنما تعني البداية.

واجتمعنا مع شيخنا سليمان العيسى. وكان الموجه الأول للعربية في وزارة التربية، وأخذنا نفكر فيما سيأتي في ضوء ما حدث. شيخنا قال لنا وهو في ريعان شبابه آنذاك:

(هزيمتنا حالة وقعت. والحرب كرٌّ وفرّ.

وانتصارنا في المستقبل يبشر به أطفال اليوم.

إذا استطعنا في مناهجنا وكتبنا أن نزرع في أطفالنا حبّ الأهل والوطن والطبيعة الجميلة، وأن نرضعهم من لبن الحضارة الماضية والآتية، فإنهم سيصنعون الانتصار، ويحققون الحلم.

نحن اليوم أمام مهمة صعبة.. يجب أن نغير المناهج، أن نؤلف الكتب، أن نصل إلى الطفل من خلال المعلم الكفيّ الذي يعلو وجهَه الابتسام. فلنصل إلى الطفل بالشعر والموسيقا، والحكاية واللوحة، ولنلعب معه بالكرة الملّونة، حتى يعرفَ معنى الدائرة والكروية وألوانَ قوس قزح، وليعرفَ في أثناء اللعب بأن الكرة لا بدّ أن تصيب الهدف).

منذ ذلك العام بدأ سليمان العيسى ينشد للأطفال أحلى الأناشيد، وبدأنا نؤلف الكتب المدرسية للأطفال، وأناشيد سليمان تزين الكتب بما توحي من صور وما تحمل من إيقاع.

واستمرت اللقاءات اليومية مع أستاذنا، فقد كنا نعمل في وزارة واحدة. ولم تمضِ سنتان أو ثلاث حتى دخل عليّ يحمل قصائد مكتوبةً بخطه الجميل. وقال لي: أبا سامر، أرجو منك أن تكتب عناوين قصائدي هذه بخطك الفارسي الجميل، فقد عزمت على نشرها في أول ديوان لي للأطفال.

وخططت عنوان الديوان (ديوان الأطفال) وعناوين القصائد بخط (التعليق)؛ أي الفارسي، وشعرت بالفخر، إذ لامس خطي كلمات سليمان العيسى في أول ديوان يخطه للأطفال.

بعد أن غدت الكتب المدرسية بين أيدي الأطفال وفيها قصائد سليمان العيسى أحببت أن أختبر أسلوب إيصال أناشيد سليمان إلى الأطفال، فذهبت إلى معهد الحرية (اللاييك سابقاً ومعهد باسل الأسد لاحقاً)، واستأذنت مديره في أن أحضُر درساً يعلم إحدى القصائد، فرحب بذلك، ورتّب لي موعداً.

وفي الموعد دخلت الصف، فإذا المعلمة قد كتبت على اللوح قصيدة: (الرسام الصغير) لسليمان العيسى. فانتحيت جانباً أرقب ما يجري. كانت تعلم القصيدة بالطريقة التقليدية، فأستأذنتها في أن أحمل عنها العبء، فرحّبت. وبدأتُ أنشد قصيدة (الرسام الصغير) وأنا أضرب على الطاولة إيقاعاً مرافقاً. وطلبت من الأطفال أن يصفقوا ثلاث صفقات حين أقول كلمة (بالألوان) وجملة (أنا فنان). تقول قصيدة (الرسام الصغير):

أرسُمُ ماما

أرسُمُ بابا

بالألوانْ

أرسُمُ علمي

فوق القممِ

أنا فنانْ

أنا صيّادُ اللون الساحرْ

أرض بلادي كنزُ مناظرْ

دعني أرسُمْ ضوء النجمِ

دعني أرسمْ لونَ الكرمِ

أكتبُ شعراً

بالألوانْ

أحيا حرّاً

أنا فنانْ

سُرَّ الأطفال بهذه المشاركة بين الإنشاد والإيقاع، وطلبتُ منهم أن ينشدوها بالطريقة نفسها. بعد قليل مسحت ما على اللوح، فأنشدوها من ذاكرتهم وهم يوقّعون على مقاعدهم.

نظرتْ إليَّ المعلمةُ مذهولة، ونظرت إليها وقلت لها:

سليمان العيسى موسيقا كله. والأطفال يحبّون الموسيقا والإيقاع. ليتك تعلمين الشعر بالإيقاع والموسيقا.

ابتسمتْ معلمتنا ابتسامة غامضة. فشكرتها واستأذنتها وانصرفت. وذاع شعر سليمان العيسى في كل قطر عربي يردده الأطفال أداءً وغناءً. وصار الأطفال يحبون اللغة العربية، لأنها لغة سهلة مضيئة بالصور غنية في التعبير.

بعد سنوات من اللقاء اليومي بسليمان العيسى توطّدت صداقتنا، وصرت أزوره في بيته القبو. وتعرفت إلى زوجه ورفيقة دربه د. ملكة أبيض، فأدركت أن العبقرية تحتاج دائماً إلى يد امرأة حنون، تفجّر بلمسة واحدة مئة قصيدة. فكيف إذا كانت هذه المرأة العظمية ناصحة مساعدة مترجمة تدفعه إلى نشر شعره في أنحاء العالم؟

وكان لنا صديق مشترك هو ظريف الظرفاء المرحوم الأستاذ نجاة قصاب حسن المحامي الشهير، وكان أديباً شاعراً. فكنا نقضي أجمل الأوقات في المداعبات الشعرية المرتجلة بين سليمان ونجاة، وفي المزاح والتنكيت والغناء بمصاحبة عودي. وعرفت من خلال هذه الجلسات المتكررة أن سليمان أميرٌ من أمراء الظَّرف، وفنان متمكّن من صنعة العزف والغناء. ألم يكن يعزف على الشبابة في طفولته؟ ألم يكن يستمع إلى روائع الموسيقا العالمية وروائع الأغاني العربية؟ بلى. لقد استمع إلى كثير، واستقر في وجدانه كثير. منذ سنتين أكرمني فأهداني عشرات الأسطوانات النادرة من مكتبته الموسيقية، وقد جعلت ذلك كلَّه في موقع الصدارة من حجرة مكتبي، وما زالت بصماته وبصمات زوجته على كل أسطوانة، لم أمرَّ عليها حتى بقطعة مخمل حفاظاً على لمسات الحبّ.

وسافر سليمان العيسى بعدئذ مع زوجته إلى اليمن، واستقر هناك، وأنتج فيها من الشعر والحكايات المترجمة ما يعصى على الذكر لا الحصر. وكُرّم في اليمن تكريماً يليق به، فأطلق اسمه على بعض القاعات الثقافية العامة في جامعتي صنعاء وعدن.

وكُرّم في غير اليمن. كان يُكرّم أينما حلّ؛ لأنه أعطى كثيراً من فكره ووجدانه ومحبته. واستمرت الصلة بيني وبينه مسافراً وآيباً، وتأكدت المودّة بما يمنحني من ثقة لأنوب منابه في بعض الشؤون. وجلساتنا الأسرية تزيد في التحامنا، وتجعلنا أسرة واحدة، تشرب الشعر وتمزمز الثقافة وتحلم بالآتي المشرق. وسليمان العيسى هو من أقنعنا بأن الحلم الأخضر بوحدة عربية شاملة لا بد أن يتحقق.

تلك قصتي مع صديقي وأستاذي سليمان العيسى، واعتزازي بصداقته ولقياه لا يعادله اعتزاز.

* كاتب وخبير إعلامي- سورية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة