Culture Magazine Monday  10/09/2007 G Issue 215
عدد خاص
الأثنين 28 ,شعبان 1428   العدد  215
 

ألق الكلمة وديمومة الحضور الجميل
د. علي القيم

 

 

الكتابة عند شاعرنا العربي الكبير الأستاذ سليمان العيسى بقاء فهو ما زال يكتب ويمارس الأرق بكل حيوية ونشاط وشوق إلى ملاعب الطفولة.. ما زال يواصل رحلة البحث المستمر عن ألق الكلمة وديمومة الحضور الجميل والمشرق في حياتنا الأدبية والثقافية.

ما زال يكتب عن موضوعات شتى، يعود فيها إلى ذكرياته وملاعب طفولته، ويسجل ملامح من رحلاته وأحاسيسه وانطباعاته المشرقة، معها بكل ما فيها من علاقات إنسانية، ووميض إبداعات لشاعر كبير خبر الحياة والناس.. في دواوينه وكتبه الأخيرة.. عودة إلى الطفولة وعناقيد الدالية، وإلى الزمان، ليقوم شاعرنا الكبير بعصر بعض النغم، ليقول لنا: مزامير البوح لا تنضب ولا تتعب، تخبئ جمراتها في الرماد، ويهفو الفؤاد، وينهمر المطر المستعاد.. وتبقى الدروب، الصغيرة، تضيق بأقدامنا الحافية إنها الينابيع المستمرة الجريان.. سليمان العيسى تنازعه الطفولة في كل حرف كتبه، لأن في يمينه قلب طفل، يضمن فيه الأرض والسماء.. ما زالت تشدّه ملاعب الطفولة ويشدّه الحنين، فيوقظها في كل زاوية، ويحمّلها بقايا حبه القديم، وشوقه الذي ينثر الذكريات التي ترسم الخطوات لتكون في البال، قصيدة حالمة كتبت على دروب الجمر والعذاب..

لقد حمل شاعر (العروبة) الشمس في أشعاره، فإذا البوس نشيد عطر.. لقد أيقظ الأغاني التي دعت (الوضاءة) لتستحم في مياه العاصي الرقراقة، الشاردة جداول هنا وهناك بين العشب والشجر، أشبه بقصيدة رائعة النسيج والصور، انتشرت أبياتها أشطار، وظل كل شطر يصدح، يردد نشيده الخاص في فوضى من البهجة والجمال.. إنها متعة الصغار الأولى التي لا تزال حية نابضة في أعماق الذاكرة والحنين.. في أعماق الشاعر الكبير..

ما زالت ملاعب طفولته، أرض الجمال البكر، والألق العتيق، الذكرى تحمل رائحة الرغيف الذهبي الذي كان يخرج من تنّور (أم محمد) في قرية (النعيريّة).. هو سرّ الحياة وحلم الورى الذي ما زال حلماً.. هي مسيرة كفاح مريرة لم تكن تخلو من حب وشعر وغناء ومرح وطموح إلى الأجمل والأرحب..

* * *

سليمان العيسى، كان خلال مسيرته الغنيّة الحافلة بالعطاء من المؤمنين باللحظات التي تشتعل في حياتنا، وتظل هي الأجمل والأغلى، يؤمن بالومضة التي تسع الحياة.. وتسع الوجود كله أحياناً.. يبحث في نبض التحدي والهوى، فتورق الأرض، ويخضرّ اليباب كلّما رفّ على الدرب حبيب وحبيبة.. يقول للشعراء وللكتّاب: اكتبوا خذوا القلم واكتبوا، أنتم الآن مع صفاء الفجر، وصفاء السماء.. قولوا شعراً سيأتي الينبوع سخياً دافقاً.

إنه الشاعر الذي غنّى وأعطى، ما خبا.. الهوى عنده باقٍ.. في جذور الضوء كان راسخاً.. كان للشعر ولم يزل شلاله الآتي قصيدة خضراء فيها يصهل البيان وينتشي بعطرها نيسان.. لقد كتب أغلى الكلمات للتي أحبّها.. اعتصر المحال.. كتب للنضال، وللواحات والرمال.. كتب للنساء والرجال.. كتب للأطفال.. وما زال الظامئ يبوح ويبوح..

شاعرنا الكبير ما زال يفتح دفتر الوهج العتيق، يرنو إلى الماضي البعيد والقريب، يستعيد الأحلام القتيلة، الظمأ القديم باقٍ معه وما زال يبحث عن نجم جديد كل يوم.. صحيح أن الحلم العربي انكسر وضاع وتبدد، لكن شاعرنا الكبير ما زال يحلم بفترات العز والازدهار التي عاش العرب فيها أجمل أحلامهم القومية.. كلماته وشعره ما زالا يحملان في مضامينهما وآفاقهما المشرعة على المستقبل كل الحب والحماسة والتوق إلى غد مشرق عزيز.. لقد كافح بلا هوادة، لكي يتحرك الجسد العربي، وتبعث فيه الحياة، وكان في أعماق أمتنا العربية صرخة تتشظى، لا قصيدة تقرأ فقط..

سليمان العيسى ما زال عمره بالطفولة معشباً.. ما زال نهر عطاءاته يفيض بالجليل والجميل، من الشعر والنثر، ليعبّر عن هموم الأجيال العربية منذ أكثر من ستين عاماً.. ما زال يغرس أشجار التفاؤل في النفوس، ويزرع البيادر من قمح وغلال في مشارق الوطن العربي ومغاربه، لتتحول إلى مصباح ينير درب الأجيال.. أحلام سليمان العيسى تبدأ من الأرض التي ترتبط بأعوامه المديدة، يعانقها رعشة رعشة، من قريته الوادعة في اللواء السليب على ضفاف نهر العاصي، في قرية (النعيرية) إلى جزيرة (السندباد) في البصرة العراقية، التي أملت عليه ديواناً كاملاً أسماه (أغنية في جزيرة السندباد) ووضع على لسانها ما لا يُعد من القصائد والأغاني، في دمشق وحلب وبغداد وصنعاء والقاهرة وتونس، وأعالي قمم الأوراس، وشواطئ امتدت عبر العمر كله من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.

كانت الأرض نسيجاً واحداً من الذكريات والشعر والحب والتاريخ.. نسيج واحد يترقرق إحساساً ناعماً يملأ الجوارح والأفئدة، ليتصل الحلم بين شاعرنا وبين التاريخ والأمكنة، التي طوّف بها وزارها، وجميعها كانت ترتبط أبداً بالنسيج الأول، بالأرض التي درج عليها، وزرع فيها أعوامه الأولى، وأحلامه الأولى.

* * *

سليمان العيسى من جيل كان الحلم العربي محور حياته وشعره، أحلامه كانت وراء كل كلمة قالها في حياته، ولا يرى لحياته معنى من دون حلم يقول: (قد تُنسف أصابعنا، وتحترق أحلامنا، لكن الحياة لا بد أن تستمر، ولا بد أن نملأها بشيء يسوغ وجودها، ويعطيها معنى، وهل هناك شيء يحركنا، ويحمل العزاء إلينا، في أمرّ الهزائم، وأقسى الانكسارات مثل الحلم؟! هذا الحلم الذي صبغ حياته، ولوّن نتاجاته، وأعطاه نكهته التي عرف بها.

لقد غنى وكتب من وحي حلمه العربي للأطفال، فأورق قلمه على دفتر العشب، لأنهم حلمه الأعذب، ونبعه المخضّب، فحملهم نغمة في فمه، تفتحت في فضاءات العطر أغنيات وأصبحت معروفة الدهر على صدر الزمان، وباقيات في سفر الضياء، ما بقيت الشمس تضحك والقمر.. في أوراقه الشخصية، يقول للإخوة والأصدقاء الذين قرروا ذات يوم أن يجمعوا نتاجاته في كتاب:

(اذكروا أني عشقت الأرض

أحببت الحياة

وترشفت ثُمالات الغروب

وأنا أبحث عن أولى زغاريد الصباح

اذكروا أني كالأطفال غنيت

وطاردت الفراشات طويلاً

وتسلقت الشجر..

وقطفت التين والرمان من بستان جدي، والقمر

كان جدي عاشقاً للقمح والرمان

والأرض التي تعطي الثمر

اذكروا أني وإياها نسجنا

مثلما شاء الهوى أيامنا

وزرعنا خلف أسوار الدجى أحلامنا

وجعلنا الحب قنديل خطانا وسُرانا

وقنعنا بالحكايات التي يخضرّ فيهن السحر).

* * *

سليمان العيسى، لم تسكت أغانيه وقصائده السنون.. ما زال يطارد اللحظات الهاربة، يقبض عليها بكلتا يديه، فيختصر الوجود، في فضاءات المستحيل، ويحمّل الحب جناحين، ويوقظ الجمرة في الصقيع، ويدعو الربيع من آخر الدنيا، إلينا عشب وريحان ولوز ورمان.. إنه يؤمن بالعشب فاكهة المجهول التي لا يبدعها سوى القلق، ويبقى الحلم والأمل فيكتسب ويكتب:

(فمن صخرة في سفح قسيون(1)

جئنا.. ونبقى

ويبقى ظل قسيون

عروبة تتحدى.. ترسم الزمنا

نجماً على قبة الحمراء

وعبقة من شذا الفيحاء(2)

تنساب بين غروب الشمس والصين)

في جذور سليمان العيسى، كل أحلام الشجر، زاده الأرض العتيقة، والسماء البكر، يقيم في أرض العرب، لم يخلق ليتحجر في صفحات كتاب.. هو الصوت الذي يترقرق حنيِّا كينابيع الفردوس، ويزأر حنيِّا كعاصفة، يتحرّك ويحرّك.. يملأ القلوب والأسماع، حركة وحياة وتمرداً على البلادة واليأس والخمول.. ينظر في المدى، ويبحث عن رحيق الحرف، في الشعر الذي يهب البشر، معنى البشر.

هي العروبة التي أعطته كل هذا الحب المعمور.. هي العروبة التي غنّاها في شعره ونثره.. هي العروبة نسيج حضاري هائل، ضارب في أغوار التاريخ.. تشابكت فيه ملايين الأصول والفروع، لتعطي الإنسان أكرم ما أعطاه شعب على وجه الأرض:

(وأبعد نحن من عبسٍ

ومن مضرٍ، نعم أبعدْ

حمورابي، وهاني بعل

بعض عطائنا الأخلدْ

لنا بلقيس، والأهرام

والبرديُّ والمعبدْ

ومن زيتوننا عيسى

ومن صحرائنا أحمدْ

ومنَّا الناس - يعرفها الجميع - تعلموا أبجدْ

وكنّا دائماً نعطي

وكنّا دائماً نُجحدْ)

سليمان العيسى، بك تستضيء الساحات والشرف، خليّ الشعلة في يُمناك، يا من ملكت سرّ الشعر والعطر والحب، ستواصل الأجيال الطريق معك إلى الشعر والحب والحياة، وستبقى الأحلام زاهية أبداً، عساك تزرع في الصحراء ظلاً لوردة.

1- قسيون هو الجبل المطل على دمشق

2- الفيحاء هي مدينة دمشق


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة