Culture Magazine Monday  10/09/2007 G Issue 215
عدد خاص
الأثنين 28 ,شعبان 1428   العدد  215
 

سليمان العيسى و(المرأة في شعري)
فاروق شوشة

 

 

في الثالث من كانون الثاني (يناير) عام ألف وتسعمائة وثمانية وتسعين كتب الشاعر السوري الكبير سليمان العيسى هذه الكلمات مقدمة لديوانه المستقل الذي ضمّ كل ما قاله الشاعر في المرأة، قال:

(هي الجمال في أحلى صوره

وأبدع تجلياته

هي نبضة الشعر الأولى

منذ كان النبض وكان الشعر

هي التي وضعت الكلمات الجميلة

على شفتي أو محب؛ فأصبح شاعراً

هي الطفلة التي كبرت..

وما زالت الطفولة والأطفال سرها

ونحن جميعاً أطفالها

هي ملهمة - بكسر الهاء - وملهمة - بفتحها -،

وعاشقة، ومعشوقة

هي شريكة حياة، ورفيقة كفاح

هي الحلم، وهي الواقع في آن

هي القادرة على الحب، لأجل الحب

وعلى العطاء، لأجل العطاء

ليست ملاكاً ولا شيطاناً، كما يزعمون

إنها الأنثى كما يزعمون.. نصف كتاب الحياة

كم ظُلمت عبر التاريخ!

وكم وسعت الظلم والظالمين

دون أن تسأل، أو تحاسب - بكسر السين -

ومن حقها الأزلي أن تسأل وأن تحاسب

* *

ماذا قلت لها عبر شريط العمر؟

وماذا قالت لي؟

وهل انفصلت عن همي في يوم من الأيام؟

سأترك هذه الصفحات تجيب..

وأتمنى أن أكون قد رددت لها

بعض ما منحتني.. أتمنى).

صدر الديوان ضمن منشورات المجمع الثقافي في أبو ظبي محتوياً على أجمل قصائد الشاعر الكبير في المرأة، التي تناثر عبر دواوينه الشعرية التي تضمها أعماله الشعرية، والتي سبق نشرها في أربعة مجلدات صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت: مع الفجر، أعاصير في السلاسل، شاعر بين الجدران، رمال عطشى، ثائر من غفار، قصائد عربية، الدم والنجوم الخضر، رسائل مؤرقة، أمواج بلا شاطئ، أزهار الضياع، أغنيات صغيرة، كلمات للألم، أغنية في جزيرة السندباد، أغان بريشة البرق، وسافرت في الغيمة. بالإضافة إلى مسرحياته الشعرية: إنسان، الفارس الضائع، ابن الأيهم، الإزار الجريح، ميسون. و(ثمالاته الأخيرة) الأخيرة التي صدرت عن الهيئة العامة للكتاب في صنعاء بأجزائها الثلاثة، ثم بجزأيها الرابع والخامس، وهو الشاعر المناضل، الذي تقول لنا سيرته: إنه ولد عام 1921 في قرية (النعيرية) الواقعة غرب مدينة أنطاكية التاريخية. تلقى ثقافته الأولى على يد أبيه الشيخ أحمد العيسى، في القرية، وتحت شجرة التوت التي تظلل باحة الدار، والتي سيجعل منها الشاعر رمزاً لأحلامه وشعره، حفظ القرآن، والمعلقات، وديوان المتنبي، وآلاف الأبيات من الشعر العربي، وارتبط صباه المبكر بثورة (اللواء) العربية التي اشتعلت عندما أحسّ عرب اللواء بمؤامرة فصله عن الوطن الأم سورية، وشارك بقصائده القومية المبكرة في المظاهرات والنضال القومي الذي خاضه أبناء لواء الإسكندرونة ضد الاغتصاب، ثم انتقل سليمان العيسى إلى سوريا بعد سلخ لواء الإسكندرونة؛ ليتابع مع رفاقه الكفاح ضد الانتداب الفرنسي، وواصل دراسته في ثانويات حماة واللاذقية ودمشق، ودخل السجن مرات بسبب قصائده ومواقفه القومية، وأتم تحصيله العالي بدار المعلمين العالية في بغداد، وعاد من بغداد ليعمل مدرساً للغة والأدب العربي، وليتابع الإبداع الشعري والنضال القومي، وليصبح من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في سوريا عام 1969 وعندما حدثت نكسة 1967 يئس سليمان العيسى من الكبار، وقرر الاتجاه إلى كتابة شعر الأطفال، كما شارك مع زوجته الدكتورة ملكة أبيض، الأستاذة بجامعة صنعاء الآن، في ترجمة عدد من الآثار الأدبية عن الفرنسية، أهمها آثار عدد من الكتاب الجزائريين الذين يكتبون بالفرنسية. وقد حصل سليمان العيسى على جائزة لوتس للشعر من اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا عام 1982 كما انتخب عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق عام 1990 وبعيداً عن هذه السيرة الإنسانية والشعرية الحافلة فإن سليمان العيسى في عامه الثمانين الآن هو أكبر الشعراء العرب المعاصرين، وأغزرهم إنتاجاً، وأكثرهم التحاماً بهموم الإنسان العربي، وتحديات واقعه الراهن.

من هنا.. فإن شعره في المرأة، وعن المرأة، لم ينفصل أبداً طوال مراحل إبداعه الشعري عن نضاله من أجل الوطن والحرية. المرأة جناحه المحلق في اغترابه ومنفاه بعيداً عن موطنه في اللواء السليب، وهي رفيقة نضاله وكفاحه في ليل المواجهة، وصراع المستبدين الطغاة، وهي شريكة القلم في الكثير من آثاره القلمية، خاصة حين يترجم. ومنذ ديوانه الأول (مع الفجر) كان هذا العناق والالتحام في رحلة الحب والمصير:

هزتك عاصفة من الآلام

تزأر في نشيدي

هي من بقايا مهجتي

قطع تناثر في قصيدي

أنا ما نظمت الشعر بل

ذوبت رنات القيود

وعصفت إذ هتف الهوى

نارا على شفة الجليد

ثم نجده في صورة شعرية أكثر غنى ورجاحة حين يبدع الشاعر قصيدته عن فيروز مطربة لبنان وشادية الجبل، التي ارتبط صوتها في وجدانه بروائح الأرض والوطن والشدو والترنم . إن صوتها - كما يعيشه هو - يحيي في صدره الأمل، ويصور جيلاً قد انطلق إلى الحياة، مملوءاً بيقين الظفر والانتصار. يقول سليمان العيسى:

فيروز.. يا شبابة الراعي بسفح الجبل

غنت.. فللعطر بلادي كلها والغزل

تنقلي على القلوب كرفيق القبل

أمواج لحن.. نبعه الأول صدر الأزل

يفتح للأجيال والشعر كوى المستقبل

* *

تنقلي عبر الهوى من خاطر لخاطر

قصيدة عصماء لم تخطر ببال شاعر

من شفة الموج أطفري..

إلى الذرى النواضر..

إلى الكروم الخضر في أرضي

إلى البيادر..

* *

رودي الينابيع وغنيها نشيداً عبقا

أحسّ في صوتك جيلاً للحياة انطلقا

وعالماً أقفل عنه النور ثم انبثقا

يهدر كالشلال، مجنون الخطى محترقا

يحمل في أنشودة صباحه المؤتلقا

وعندما نشرت الصحف أن الأديبة الفرنسية فرانسواز ساجان ستزور الشرق العربي باحثة عن موضوعات جديدة لقصصها، وجه إليها سليمان العيسى رسالة شعرية هادرة، تتوهج بمشاعره القومية المتوهجة، وحسّه الوطني العالي، في لغة شعرية شديدة الصفاء والنقاء والتدفق:

لا تقدحي شرر الخيال الجائح

لا تسبحي في جلة الحلم البعيد الضائع

تتصيدين إذن حكاية

آلامنا دمنا غواية

لا تقدحي شرر الخيال

مري على أرض النضال

ستدق صدرك ألف غصة

ستهز وحيك ألف قصة

إن كان في تدمير شعب

تقتيله في كل درب

في ليل مجزرة ورعب

ما يستحق وقوف ساعة

وعناء فكر أو براعة

* *

لا تجهدي شرك الهوى المتصيد

مري بأرضي تشهدي

ما يصنع الظلم البغيض

ما يفعل الغرب المريض

إنا هنا.. تاريخ ليل أسود

وتنهد الفجر الندي

عنوان ملحمة طويلة

فيها البراءة والرجولة

والحب أحلام نبيلة

لا تقدحي شرر الخيال

مري على أرض النضال

ستدق صدرك ألف غصة

ستهز وحيك ألف قصة

لسليمان العيسى، في بعض صفحات هذا الديوان (المرأة في شعري) نثر جميل، نثر متوهج بكيمياء الشعر، ندي بماء الشعر، أو هو قصائد منثورة. وسليمان العيسى من الشعراء القليلين الذين يجيدون سكب روحهم في شعرهم وفي نثرهم على السواء، بل إن نثره في بعض كتاباته يزاحم شعره، ويطل برأسه، ويعلن عن موقعه، في مثل هذه اللوحة التي يصور فيها عذاب الوحدة وضجر المعاناة بعيداً عمن يحب، ويملأ عليه حياته ووجوده، وهو المدعو وحده للقاء شعري. لقد ظل أربعة أيام يتقلب على الجمر ويذرع غرفته في فندق مريح أصبح سجناً وعذاباً:

(الضجر يأكلني..

هذه آخر مرة أسافر فيها وحدي

ولو عدت من سفري بغنائم الدنيا

إنه قراري في هذه الأمسية

الهنيهة شهر..

والساعة دهر..

بدون من تحب..

يمر الوقت بطيئاً خاملاً، كثيفاً

كأنه يزحف على صدري، على أعصابك،

حتى يجمد في عروقك

ويعوقك كل شيء.

كنت أشتهي أن أسافر

وأنا أواصل حياتي المعتادة في البيت

أشتهي أن أرحل إلى أي مكان

أسوة بالجداول والعصافير

ولكني في هذه المرة..

أيقنت أن رحيلي وحدي

لا يعني إلا شيئاً واحداً:

أن أضجر وحدي..

وأمل وحدي..

وأتنفس بصعوبة وحدي..

ولو كنت معي أيتها الحبيبة..

لما وجدتني بحاجة إلى كتابة مثل هذه الكلمات

أتراني قلت ما لا ينبغي أن يقال؟).

ترى ما الذي أغرى الشاعر الكبير سليمان العيسى بإصدار هذا الديوان؟ هل هو حرص الشاعر الذي ارتبط بالكفاح والنضال والسجن معظم سنوات حياته التي وصلت الآن إلى شاطئ الثمانين؛ حرصه على أن يكون له وجه شعري آخر أكثرة نداوة، وامتلاء بالعاطفة الإنسانية، واقتراباً من لغة الهمس بديلةً عن اللغة الصاخبة في دواوينه المحتشدة بأناشيد القومية والحرية والوحدة العربية؟

أياً كان الأمر.. فإن سليمان العيسى يطل الآن على قارئه في نبرة شعرية جديدة ومتجددة، تماماً كرؤيتنا له عندما قرر أن يكتب للأطفال وحدهم، باحثاً عن الغد الذي لا بد أن يجيء:

أفتش عن غدي في أعين الأطفال، عن قدري

عن اللوح الجديد.. يضم قافلتي إلى البشر

رحلت بأعين الأطفال

إلى حلمي العظيم.. بأعين الأطفال

ونكتب لوح وحدتنا...

وينهض شامخاً وطن

وإن أنسَ فلن أنسى تلك الذكرى الجميلة التي جمعتني بسليمان العيسى ذات يوم في مهرجان زحلة الشعري الذي أنشد فيه من أعذب قصائده، استرجع فيها ذكريات الشباب، حين كان يزور ضفاف (البردوني) مع مَن يحب، ويقضيان معاً أماسيّ رائعة، مع ضوء القمر، وسقسقات الماء، وأغاني الميجنا والعتابا:

كانت معي.. وعلى جناحي ضحكة.. كنا هنا

يا سقسقات النهر لا تتعجلي.. يا ميجنا!

يا ليل، يا قمرا على صنين يبدع ليلنا

موال زحلة في ضلوع الأرض ممتد.. يلون عمرنا

في كل شارقة وغاربة.. يجدد عمرنا

* *

هي في يدي، والشعر، أهصرها شعاعاً لينا

هي في يدي.. وكروم زحلة كأنها أرجوحة جذلى لنا

والمستحيل على أصابعنا..

ونترك خلف نشوتنا الدنى

يا ليل.. يا قمرى على سمر الذرى.. هذا أنا

ورفيقتي..

ما زلت.. ما زالت يدانا نجمتين

تتسابقان لكي تعبا..

ليل زحلة.. عطر زحلة.. ساعتين

القاهرة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة