Culture Magazine Monday  10/09/2007 G Issue 215
عدد خاص
الأثنين 28 ,شعبان 1428   العدد  215
 

مفكّر يكتب للأطفال
د. مصلح النجار

 

 

قبل زمن ليس بقريب، ولا ببعيد أيضاً، مُنحت جائزة الشعر في مدرستي، وكانت مجموعة من كتب الأطفال، ملوّنة، وذات أغلفة سميكة، ومن بينها كتاب وقع في نفسي موقعَ الإجلال، وعنوانه (المتنبّي والأطفال)، من إصدارات السلسلة الشعريّة عن دار ثقافة الطفل بوزارة الثقافة ببغداد. وهو كتاب جميل، ذو مهابة آنذاك، وأما اليوم، وما زلت أحتفظ به، فأنا أراه كتاباً عبقريّاً. يبادرك الكتاب بصورة رجل حادّ الملامح، مرفوع الرأس، يكاد عرينه يطاول السماء، تلك صورة ظلّت في فؤادي لمفهوم الأنفة، وعزّة الرجل.

قرأت الكتاب بفهمي المتواضع آنذاك، فطالعني شاعرنا بكلام كبير على العروبة، والإنسانيّة، والعبقريّة، والتميّز. نعم، كان سليمان العيسى يثق بالأطفال وثقافتهم، ويعمل دائباً على الارتقاء بهذه الثقافة.

في اللقاء الأول بين المتنبي والأطفال حدّثنا شاعرنا عن العِلم ومستقبله، وعن الأمل والقيم، ثمّ ارتفع صوت المتنبي بخيلاء يقول:

أنا ساكب النار في كلّ قلب

أنا زارع الشمس في كل درب

أنا المتنبي

ولأنّ مفردة الخيلاء مهمة وصعبة، وجدنا الشاعر يشرحها للأطفال، بقوله: الخيلاء يا أطفال تعني الكبرياء والاعتزاز بالنفس.

فإذا ما مضينا إلى الداخل، ألفينا سائر الملامح التي ركّز عليها سليمان العيسى من شخصية المتنبي هي تلك الملامح التي نتطلّع إلى أن يتمثّلها الأطفال العرب، من زهو، وشموخ، وأمل في الحياة، وتمسّك بالهويّة، وبالقيم النبيلة الثابتة التي لا تتغيّر بمرور الزمن. ركّز العيسى على فروسيّة المتنبّي، ورجولته، وقيم البطولة، والقوّة، والتطلّع إلى المستقبل، والنخوة، والتعالي على الصغائر، والحرص على الوطن، والحنين إلى المكان والارتباط به، وأخذ العبر من التاريخ، فضلاً عن قيم الجمال والبراءة والتحضّر، والحياة العصريّة، ومحاربة الشر، والتغيير إلى الأفضل، وتمثّل الشعر، بوصفه سجلّ القيم والمآثر، والباعث على اجتراح كلّ فضيلة.

لم يترك سليمان العيسى من شخصيّة أبي الطيّب تفصيلاً إيجابيّاً إلاّ استثمره، ليصوغ منظومة القيم المنشودة التي يتطلّع إليها الآباء. وينسجم مع ذلك أنّه كان يختار من شعر المتنبي من اختيارات موفّقة، تتوافق وذلك الهدف التربوي المنشود، فضلاً عن هذه الثقافة التي نتطلع أن تكون مبثوثة بين الأطفال العرب. فها هو يبدأ تلك الاختيارات بقول أبي الطيّب:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

هذا فضلاً عن أنّه اختار بعض الأبيات، أحياناً، وشطّرها تشطيراً عصريّاً، راعى فيه المتلقّيَ المستهدف، كقوله:

أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر

وحولي جيشان الطلائع والفجر

في الداخل، بدأ الشاعر باستثمار حياة المتنبي، وملابسات يوميّاته، ليطرح المفاهيم الثوريّة، وقيم التحرّر، والحب، والبشارة بزوال الظلم. كان يتحدّث عن شخصيّته القويّة الناضجة، وعن الأشرار الموجودين في كلّ مكان، وعن النصر الذي سيكون حليف الخير، وحليف الصغار الذين يتمسّكون بذلك الخير، ليبزغ الفجر.

إنّ المفاهيم التي ينطلق منها سليمان العيسى في كتابته إلى الأطفال هي مفاهيم المسؤوليّة، والحاجة إلى قيم ثابتة نربّي عليها النشء.

كان سليمان العيسى يراوح بين موقعين أساسيّين: الشاعر، والمفكّر، ذلك المفكّر الذي يمتاز بالوعي الحضاريّ، والقادر على أن يهندس نشأة جيل، أو أجيال من ناشئة العرب. كان يكتب للأطفال وكأنّه طفل منهم مرّة، أو صديقهم الكبير مرة أخرى، يكرّس قيم العدالة والمساواة والحريّة، ويكمّل للأطفال ما ينقصهم وينقص ثقافتهم. كان يرصد النماذج السلبيّة التي قرّت في الثقافة، ويعمل على تكريس نماذج مضادّة مدروسة. كانت نتاجات العيسى موجّهةً، تَعتمد في إنتاجها عناصر الحرّيّة، والتوعية ضدّ الظلم، وصوره، وتعريف الذات من زاوية غيرِ زاوية كوننا مظلومين، استبعاداً لاحتمالَي الحقد والتعصّب، أو الدونيّة. ويمكن تحقيق ذلك كلّه من خلال تأكيد الذات، وتنمية ملَكة نقديّة تساعد في بلورة آليّات لرفض آثار مجتمعات القهر، وتتميم حقوق الإنسان، وقيم الحرّيّة، والعدالة، والمساواة، بعيداً عن المسلّمات التي تفضي إليها المعتقدات الخاطئة حول اتّجاه حركة التاريخ ضدّ الضعفاء، لتزيد ضعفهم، وضدّ الفقراء لتبالغ في فقرهم.. مما يؤدّي إلى اضطراب في التعاطي مع هذه المسلّمات، والمعتقدات، والحركيّة، والتاريخ، ورُكّابه. فثمّة طاقة تنبثق من الضعف يمكنها أن تنقل أصحابها إلى محطّة على الضفّة المقابلة، شريطة ألا يكونوا قد وطّنوا أنفسهم على تقبّل واقعهم، وعلى الخوف من التغيير، مع ضرورة تربية الأفراد في هذا الفريق على ألا يتبنّوا أفكار الفريق المقابل، ومواقفهم، من باب الانبهار بهم، أو بنموذجهم المتفوّق، في طريقهم إلى مواجهة الظالمين بحق أمتهم، وتعدّياتهم على حقوق المظلومين. نعم هو ذا سليمان العيسى، الشاعر المنوِّر، بدأ مشروعه الكبير في رسم ثقافة الطفل العربي بعد نكسة 1967 ليطوي صفحة الهزيمة، ويفتح للأطفال أفقاً من الأمل، ويقول للكبار: إنّ مستقبل هؤلاء الصغار ينبغي أن يكون مختلفاً، فنحن نربي لمستقبلٍ لا مكان فيه لليأس، والضعف، والجهل. كان سليمان العيسى يعي خصوصيّة المرحلة التي يكتب فيها، ويعرف من هم متلقّو أدبه، وما قوى الظلام التي تقابله.. آمن العيسى بأن الحاجة إلى ثباتيات القيم تزداد حين تكون الأمّة في حالة نكوص حضاري أو ثقافي، بعد هزيمة قاسية على المستويين العسكريّ والسياسيّ، مما يؤثر بوضوح في الجانب الثقافي. إنّه مفكّر يكتب للأطفال، ويعي حاجاتهم، ويحترم عقولهم، ويوكّل نفسه بصياغة مستقبلهم.

- عمّان


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة