Culture Magazine Monday  10/09/2007 G Issue 215
عدد خاص
الأثنين 28 ,شعبان 1428   العدد  215
 
الأمل: يأسٌ يستنسخ أوصافه
د. إبراهيم الجرادي*

 

 

(تحقيق نقدي عن الشاعر سليمان العيسى)

(لا يفرح الشعراء كثيراً .. وإن فرحوا لن يصدقهم أحد)

الشك شهوة محتدمة، واليقين تفتت أعصابه مهزلة مزمنة:

البهلوان يعود إلى المسرح..

والممثلون يرتجلون الطيش، والجمهور في غبطة وذهول.

تصفيقٌ..

تصفيقٌ حاد..

تصفيقٌ متواصل (الكل وقوفاً).

بخٍ.. كيف يكتب شاعرٌ منعمٌ بالظن، يصارح اليقين بارتيابه، عن شاعرٍ راسخٍ في اليقين، يعكف على (آلامه وآماله) كالنسّاج، يحوك كبينيلوب رداء الغيّاب، بخيوطٍ تتدلى من شمس تغيب، هناك، في أفق المجاز، المجاز الذي نريد أن نوقظ به أسياد الغفلة والمكيدة.

بخٍ.. كيف يكتب شاعرٌ شكاكٌ، مريبٌ ومرتابٌ، ما زالت رائحة حزيران، وما استولد من حزيرانات، وكوانين، وتشريناتٍ، وآذاراتٍ.. في ثيابه وجلده.

بخٍ.. كيف يكتب شاعرٌ ينزوي في شوك يأسه كالنيص المذعور.. يدعو إلى الفوضى وحكمتها، يتأمل (مقيل) الضاد، ليرى ما يرى، ويسمع ما يسمع، ويكتب..

ليشطب، وتُشطب، ويشطبان عن شاعر:

إذا اعتكف، يعتكف في (بيت اليقين) وهو واسع كالحيلة.

وإذا انزوى ينزوي في مربض خيل الأهل، لا يرى العافية إلا في علة المعافى التي ستزول، حتماً، مع أول لمسة للتاريخ العظيم

سليمان العيسى!

اليأس كمثرى الوقت، نزهةٌ في زنزانة الرخام، طاغيةٌ يروض الشعر بسوط النشيج، ويعطي الألم - ربيب الأماني - حق أن يظلّ يقظان، كجندي يسهر على خوذةٍ مثقوبةٍ بطلقةٍ صائبة، لعدوٍ يتسلى بالأهل ويخرج من بينهم.. وعليك، علينا، أن نُدرك وتُدرك - إن أدركت وأدركنا - أن الأنين سيأتي محملاً بأشباهه.

بخٍ.. لماذا الشعر بردانٌ والمكان يَسْتَعِرُ بالحرائق..؟

عفواً.. عفواً أيها الشاعر. لقد استنسخ اليأس أوصافه!

(في الطريق إلى السماءِ، سماءِ أغنيتي

أنا ابن الساحل السوريِّ، أسكُنُهُ رحيلاً أو مقاما

بين أهل البحرِ،

لكنَّ السرابَ يشدُّني شرقاً

إلى البَدْو القُدامى

أورد الخيلَ الجميلة ماءَها

وأحبسُ نبضَ الأبجديَّة في الصدى، وأعودُ نافذةً على جَهِتَيْنِ..

أنسى من أكونُ لكي أكونَ جماعةً في واحدٍ، ومُعاصراً

لمدائحِ البحارة الغرباء تحت نوافذي، ورسالة المتحاربين إلى ذويهم

لن نعود كما ذهبنا

لن نعودَ ولو لماما!).

عاش في اليمن الشقيق (التوصيف الذي نستخدمه عادة منعاً للالتباس، للبلدان العربية التي نرحل إليها بأسباب (قصوى) ومشروعة!! ونطلقه دائماً، لأسباب مجهولةٍ على الفرق الرياضية والفنية.. إلخ.. إلخ!) حوالي عشرين عاماً (تزيد أو تقل ليس هذا هو المهم!) وكتب عن تاريخها وحاضرها، جبالها ووديانها، شيوخها وأطفالها، ومرة واحدة فقط، كتب عن أنا أناثيها.

يطلق عليه الدكتور عبد العزيز المقالح لقب: شاعر العرب الأكبر.

ويناديه ابني محمد (5 سنوات): جدو!

أما أنا فقد أطلقت عليه (ولذلك دلالة أيضاً) لقب شيخ مشايخ الشعراء العرب. وللدلالة، أيضاً، هذه الحكاية الدالة:

لقد أفنى الفتى الصغير آنذاك عبد الله الغذامي، القادم من (عنيزة)، لا من سواها، إلى الطائف عام 1962، ما كان يملكه من حر ماله! على دواوين سليمان العيسى: (رمال عطشى)، (رسائل مؤرقة)، (أعاصير في السلاسل)، (الدم والنجوم الخضر)، ولأن الفتى الصغير، لم يستطع حينها إقناع عمه بوجاهة تصرفه، لجأ، كما يقول، إلى العمل السري (1) وصار يشتري الكتب، ويدسها في فراشه إلى أن انتقلت إلى الرفوف والحيطان وزوايا الغرف والرأس، ليصبح (ابن عنيزة) بعد عشرين عاماً أو يزيد، واحد من أهم النقاد العرب ورائدهم في (التفكيك).

أما الدكتور خليفة الوقيان، أحد رواد التجديد في الشعر العربي في الكويت، فكان يقبل، كما يقول، وهو الفتى اليافع آنذاك، على قصائد سليمان العيسى بشغفٍ كبير، لأنها ذات نكهة مغايرة لسواها، تحمل وجبه فكرية وفنية لم يعهدها بنصوص أخرى، كانت تلامس جدار الشاعر قليلاً، ثم لا يلبث أثرها أن يتلاشى.(2).

أما الأكاديمي المعروف الدكتور حسام الخطيب، فيرى في سليمان العيسى أموراً ثلاثة لمسها بوضوح في تجربة سليمان العيسى من خلال (المتابعة والجيرة) التي استمرت سنوات في مدينة تعز اليمانية:

(تغليبه للعام على الخاص في الحياة والشعر معاً، والتماهي بين حياته وفنه في القيم والمبادئ، وتحفيزه للمشاعر القومية في أي مكان حل.)(3).

أما نور طفلة الخيال السماوي، الجميلة والذكية، التي كتب لها وعنها القصائد فقد كانت تقول لأترابها ما أن تراه، ذاهباً أو عائداً، إلى منزله في السكن الجامعي: هذا عمو سليمان.. شاعرنا. فيرضيه هذا ويمتدحها كثيراً عليه.

ويخاطبه الدكتور رياض نعسان آغا، قبل أن يصبح وزيراً للثقافة في بلدهما: (إيه من دنان شعرك وهي لا تنضب، ننهل ولا نتعب، ولا تتعب أنت.. فأنت تغرف من بحرٍ.. ولقد جاوزت شعر العرب إلى محيطات الشعر في الدنيا..)(4).

ويقول عنه القاص التعبيري خالد الرويشان صاحب (الوردة المتوحشة) بعد أن أصبح وزيراً في الجمهورية اليمنية: إنه أمة في واحد.(5).

ويقول الشاعر (العراقي)علي جعفر العلاق:

(صحونا على صوت الشاعر سليمان العيسى، ونحن ما زلنا صغاراً نتعثر بين جملة وأخرى، كأن صوته عميق، وساطع وشجاع وعصيّ على اليأس).(6).

شاعرٌ لا يتعثر بالألقاب، وهي في العرب (تتكاثر كالمكروبات في الهواء)، يسير متكئاً على عصا يقينه كي يصل إلى قمة الجبل، وينظر من علٍ إلى السفوح والوديان، يستدعيها إلى استثمار الطمي الهارب إلى أماكن لا تصلها البذرة.

وحدها الدكتورة ملكة أبيض، ظلت تناديه منذ عام 1950.(7). هكذا حاف: سليمان.. يا سليمان!

أورد كل هذه التوصيفات من مواقع أصحابها المختلفة ومشاربهم المختلفة، لأخفف عن نفسي عبء (التوصيف) الشخصي، وأصل معها إلى استنتاجاتي (الموجزة) كالبرقيات المستعجلة..!

شاعر يشبه شعره:

محبوك بلين، منضبط دون صرامة. عاقلٌ وعرفاني، معادٍ للزينة الفائضة وعزوفٌ عن مظاهرها، وشعره، عموماً مجندٌ (رابح) في معارك الخسران المتوالية، تلك (المعارك) التي لم يعرف توقيتها، ولم تسعفه نهاياتها السريعة في تسمية (رجالاتها)، الذين يلهثون، يلهثون فقط بمعارك النصر المؤجل، وقد أعيتهم المكائد، وقد أشرفت على حدود الاتهام، الذي لا يدق أجراساً، ولا يستوقف شعراً!

النصر: هزيمة مؤجلة.

والهزائم خارج الأعراف: وثائق على المآتم، و(الأمل) الشائع كالشبهات، خطبٌ طويلة تتسرب في بلاغتها كبول البعير في الرمال، إنها سطوة اللفظ وقد استبدَّ به الطنين الذي عمَّ الخليقة حتى عطل الحواس، الطنين - الطاغية الذي ينحدر إلى مخادع سلالاتهم المفضوحة بستائر فاسدة ملوثة بدم أبيض!!

إنه وشعره منذوران لغيرهما:

(لقد نذرت قلبي علانيةً للأرض العظيمة المعذبة وغالباً ما عاهدتها، في ظلمة الليل المقدس على أن أحبها، مع ما تحمل من عبء القدر، حباً وفياً، ودونما وجلٍ وحتى الموت، وعلى أن لا أقابل أي لغزٍ من ألغازها بالازدراء). (8)

لُغز - ازدراء: معنيان معقدان كالكيمياء وبسيطان كالكيمياء، يهيئان نفسيهما لمكانة متقدمة في بلاغةٍ مكسورةٍ وطمأنينة سوداء.

أية لغة ستبرم اتفاقاً مع الغبار، وهو يلفها في زوبعةٍ سوداء كالليل؟

أية لغة ستجثو على ركبيها كالعبيد، تطلب الغفران من سيدها الذي فرط باستخفاف فاجع بما ليس له، ليعيد للمكيدة الهازلة رونقها الباذخ.

أعلى الشعر أن يتعثر (بمزاياه)، في لغة مكسوةٍ بالجفاف، تحت السير إلى ينابيع سخطها؟

بخٍ.. بخٍ

سليمان العيسى: وريث النكبات وشاعرها، بدءاً من النكبة الأولى - كما يسميها -: نكبة اغتصاب لواء اسكندرون، أو ما كانت تسميه، ذات يوم الأدبيات السورية: اللواء السليب، وليس نهاية بالنكبة الثانية - كما يوصفها هو أيضاً - اغتصاب فلسطين، ليعطي في الحالتين للاغتصاب مدلولاً أخلاقياً لفعلٍ شائن، يريد له، أو كأنه يريد له أن يستنهض القيم المتوارثة التي سقطت (سهواً) بالاكتساب. ومُرغت عمداً بوصل المذلة.

وبين هاتين الصفتين، صفاتٌ: صفة من هذه وصفة من تلك، تستدرج، كلتاهما، المراثي التي تندلق كأحشاء القتلى في الشوارع العربية، وتغوي الشعر بصمتها الذليل، أو بكائها المكابرة، وكلاهما استرسال في عذوبة مُرّة. تشعل في حشائش اللغة مواقد العويل، الحاضر كالشهيق والزفير، وكلاهما لا يستدعيان في الشعر ما يكفي من (الأمل) كي ينجو من مواجهة خاسرة مع اليأس.

اليأس: طابور الواقفين على رصيف المحنة، بانتظار الرحيل إلى جهةٍ غامضةٍ.. جهةٍ لا يَسْتَعْذِبها إلا (الحالمون) بهجرةٍ اضطرارية، يشترطها العذاب المقيم، الذي لا ميثاق له إلا الأمل المثقوب كجوارب HAZIRA.. الأمل المضغوط الذي تتناوله الأيدي المرتجفة، كما يتناول الأرِق اليأسان أقراص (الفاليوم).

طاعنٌ في الأمل، يُغلِق باب التأويل على تفسير واحدٍ يفضي، كما يريد له، إلى بصيص ضوءٍ رخوٍ يتدلى من سقف ظلمته كالمشنوق.

(لنا نحنُ أهلُ الليالي القديمة، عاداتنا

في الصعود إلى قمر القافيةْ

نُصَدِقُ أحلامنا، ونكذب أيامنا

فأيّامُنا لم تكن كلها معنا منذ جاء التتارُ

وهاهم يُعِدُّون أنفسهم للرحيل..)

عبثاً..! عبثاً..!

أرض الأساطير، تسلم نفسها للحقائق!

ضحية الافتراس: عذراء تتخطاها الذكورة العربية، إلى ولهٍ مكبوتٍ في غاباتٍ، رائحتها من حيضٍ، ومفاتنها من سراب.

وحدها المرأة تعيد الحطام إلى صاحبه: الشاعر. فيصعد الشعر إلى سلم حنانها كي يعلق نفسه على مياهها، فتشفق على أعضائه اليائسة بالرذاذ الأنثوي، الذي يشعل بالدفء رؤوس الشجر:

(الشِعْرُ سُلَّمنا إلى قمرٍ تعلقه أناتٌ

على حديقتها كمرآةٍ لعاشق بلا أملٍ، وتمضي

في براري نفسها امرأتينِ لا تتصالحانِ:

هنالك امرأةٌ تُعيدُ الماء للينبوعِ

وامرأةٌ تقود النار في الغاباتِ

أما الخيلُ

فلترقُصْ طويلاً فوق هاويتيْنِ،

لا مَوتٌ هناك.. ولا حياةُ)

أامرأةٌ تعيد الماءَ للينبوع!

المرأة في شعر سليمان العيسى واحدة، وأظنها في حياته كذلك. وشعر سليمان العيسى يتحاشى (مصادر الغواية)، التي ألفناها في الشعر العربي القديم، وفي الشعر العربي الحديث، كما عند محمود درويش، وسعدي يوسف (9) وادونيس وغيرهم. ولا تظهر في شعره (شعر الكهولة والصبا أيضاً) أية استدراجات لمكامن التفتين الشعري، أو الإطاحة الأنثوية.. اليدان، فقط اليدان، تُظهران وجداً عالياً وحنوَّاً شديداً، يلفان الشاعر الملتحف، دائماً، دفئهما، ويرفوان جسده البردان دائماً، بخيوط شمسهما العمودية، ولا شيء غير ذلك، لا شيء غير ذلك تقريباً!! (وفي ذلك تفصيلٌ سيأتي في أوانه!)

في شعر سليمان وصاية. ليس على (الزمان)، بل على المكان و(ثرواته)، وليس على مصير جماعته البشرية فحسب، بل وصاية على (ثروات) المرأة. لذلك (ربما)، يظل حضورها متعالياً على جموح الشعر، وعلى وظائفه - أو بعض وظائفه، في اختراق العفة (المتعارف عليها)، وهي، وإن تبدت أحياناً، تظهر كضربة حجرٍ صغير في ماءٍ سائر.

إنه يزين وجده (بالظاهر)، وكأنه من سلالة الوصافين المعروفين بالتاريخ العربي (بالعذريين)، فالدور الأكبر في الهوى والعشق، هو غير الغاية في الكمال، ولا الموصوف بالبراعة وسواها، وإذا سئل العاشق عن حجته في ذلك ان لم تتم له حجة، كما يرى الجاحظ.(10).

وسليمان العيسى، على ما يبدو ن له في الوجد مقاييس ابتنت على أرضيته الخاصة،.. هو القائل:

يجيءُ الشعرُ..

لا يَجيءْ.

لا فرقً.. ما دامت معي،

إلى جواري

نكتةٌ، دُعابَةٌ تَطْفُرُ فيما بيننا

وحسبنا من هذا الدنيا

ومن حُطامها الوهاج.(11)

هذا سليمان العيسى في 11-2- 2002 م. وهو كذلك، منذ السابع عشر من أيلول (سبتمبر) من عام 1950م.(12)

سألته ذات مرة سؤالاً أعرف أنه لا يحبه، معتمداً على رحابته معي، عن موقفه من (اعتراف) الكاتبة العراقية الجميلة ديزي الأمير، في محاولتها المترددة بالتقرب منه، وكان ذلك في لقاء لها مع إحدى الفضائيات، فأجابني وكأن الأمر لا يعنيه - أو كأنه يؤدي واجباً قومياً، مع محاولةٍ واضحة لاختصار الموضوع..

- لم يكن لدينا وقت، كنا مشغولين بالقضية!

كل شيء يشيخ في الإنسان إلا ثلاثةً لا يشخن في سليمان:

* الأمل..

* والحب..

* والذاكرة..

الأمل ذَهَب اليأس! قلادة وحرز، يؤتمن عليهما وبهما، من الانحدار الأكثر جريرة، وهو عند سليمان العيسى، فوق ذلك، محاسنٌ تخفي العورة تلك الذي كافح سليمان العيسى طويلاً كي لا تكون دريئة لنيشان العلوج.

إنه شاعر يغوي الأمل، ويستدرجه ليكون مصيرا، ومن ذعرٍ يحتمي بنوافذه المحطمة، المشرعة لرياح الغريب، التي لا يريد لها أن تقتلعه من جذوره الضاربة في عمق الأرض والتاريخ!

أما عن الحب: فقد سألته مرةً، وكان مشغولاً بالشواطئ الإقليمية غير الآمنة، وبرؤوس شجر النخيل، وبغابات الجزائر، وبأطراف الخريطة التي تتآكل بفعل الحت والحيتان، وبانكماش الأمة على الملّة، والملّة على العائلة، والعائلة على جزعها.

- دعنا من هذا يا أبا معن.. أريد أن أعرف حضور المرأة فيك، من هي في نهاية الأمر..؟ من هن؟ في الصبا، في اليفاعة.. في.. قاطعني بصراحة واثقة وصارمة: ملكة أبيض، لا سواها، مدينٌ لها بحياتي، وبما أنا فيه، وبنصف شعري على الأقل! الحب إذن، معتكف في شرعته، ينظر من عليائه العاشق الأبدي، فلا يرى، غير ما يريد أن يرى.

نعم.. إذن كان في الشعر، وفي الصبا، طيشُ الرغبات، فإنه غائب عند سليمان العيسى في هذا وذاك.. بخٍ.. بخٍ!

سليمان العيسى، ليس حامل رسالة فحسب، بل لديه رغبة دائمة للتأثير في الناس، ولهذا يميل شعره دائماً، إلى معاناة، لأن المعاناة توسع مجاري التعبير، وهاتان الصفتان تصبحان، في أحيان كثيرة، معياراً لسلوكه الشعري، فهو يترك، في الكثير من شعره، للسجية أمر ترتيب أمورها الشعرية التي تمتلك حيويتها، عندما يكون المناخ العام مواتياً، ليقطف العيسى ثمار أصالته ويصبح شعره شعاراً، وتتبدى الصعوبة، عندما لا يتيح الإدراك المباشر للظواهر إمكانية النهوض بالشعار إلى سوية الحالة العامة.

وإذا يوازن سليمان العيسى بين المخيلة والوجدان، ينحاز للثانية ليجعل القضايا شريكاً في قصيدته، حتى تستطيع بلوغ وظيفتها، التي يحددها دائماً، بأنها وسيلة لهدف أهم، وهو بذلك يدفع قضية الشعر إلى صفتها القومية، محاولاً على الدوام إثبات أولوية التعبير، من خلال محموله لا حامله، ولهذا لا يسوغ المجازفات التي (تُعوم) المضامين، وهو وإن كان منفتحاً تماماً على الحداثة، يدين الشعر المصاب بمرض الفوضى، الذي ينشأ عن إدراك خاطئ لدور الشعر في أمةٍ محتلةٍ ومستهدفةٍ ومنكوبة وموزعة.. الخ.

إن سليمان العيسى يكتب ليرتاح يقينه، وهو يقين ثابت، لا تردد فيه ولا ترددات، بأن هذه الأمة ستحقق شروط وجودها الإنساني ولهذا يكثر في شعره من اللوازم الوسيطة التي تقرب الهدف، وتسعى إلى المعاني التي تحث في هذا الاتجاه الذي يقوم لديه، على مواصفات منها الوضوح والعفوية، والقراءة التي تنصف شعره، ليست قراءة في التكنيك، كونه دراسة في الوسائل، وإنما في الغايات، وثمة مدخلان، هما من أكثر المداخل إنصافاً لشعر سليمان العيسى، أولهما، أن ينظر إلى شعره، كما ينظر هو إليه، أداةً جماليةً، لهدف أعظم، أي أن أهمية الشعر ليست في طريقة قوله، وإنما في ما يقول، وثانيهما، قراءة شعره بالمعايير نفسها التي حددتها المعايير الأدبية التي نشأ عليها.

وفي النهاية: إذا كان هناك من تمرد على الأوصاف المعروفة لشعراء الكلاسيكية الجديدة في علاقتهم مع المحمولات للسياسة القائمة فهو سليمان العيسى.

* أكاديمي وأديب سوري مقيم في اليمن


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة