Culture Magazine Monday  10/09/2007 G Issue 215
عدد خاص
الأثنين 28 ,شعبان 1428   العدد  215
 

الإنسان الشاعر
د. راشد المبارك

 

 

الشاعر سليمان العيسى في قامته ومكانته يهضم حقه من يظن أنه يمكن أن يرتاد أبعاد إنسانيته أو يُلمُّ بذيول شاعريته فيما يُختزلُ في مقالة أو يُعتصرُ في رسالة، لذلك فإن ما أكتبه في هذه السطور لا يعدو أن يكون شذرات من خواطر عن المحتفى به.

اخترت أن يكون عنوان حديثي عن أبي معن هو (الإنسان الشاعر) مع معرفتي أن الجرس اللغوي الأنسب أن يكون (الشاعر الإنسان) إلا أنني قدمتُ صفة الإنسان فيه على موهبة الشعر عنده، مع معرفتي بموهبة لديه تجعل الكلمة تورق بين يديه، لذلك سيكون حديثي عن أبي معن الإنسان وأبي معن الشاعر.

أ - أبو معن الإنسان:

عرفت الأخ الصديق سليمان العيسى منذ أكثر من ثلاثين عاماً، عرفته فأحببته، وصحبته فألفته، وزادت هذه العقود الثلاثة المعرفة شمولاً والمودة تجذراً والألفة اقتراباً، وسبب ذلك ومنشأه صفات الإنسان فيه، أي الإنسان بصفاته المشترطه والمتمناه أظهر هذه الصفات ثلاث هي الإباء والوفاء والعطاء.

الإباء : أول ما يلمس العارف بالرجل منه إباء مستعلياً على المطامع وزهداً يأنف المغريات لذلك عاش سعيداً بكفاف المتصوفِ وشَظفِ حياة الزهاد، مع أن لديه من الأسباب ما يجعله يسبح في نهرٍ من الثراء، يحمل على الأكتاف ويحيط به ضجيج الأضواء وهتاف السوق، ولكن الرجل في معيشته وجدته تجسيد لقوله:

الشاربون سلافة ماذاقها

إلا فم بكروم عبقر زاهد

الوفاء : وفاء الرجل دوحة يمتد ظلالها على محبيه وأصدقائه ومعارفه، وهو وفاء لا يحركه طمع ولا يدفعه فزع، كما هو حنين لأرومته وجذوره ومنابت هذه الجذور وكما يحمل الأحياء في قلبه ومشاعره فإنه يحمل الراحلين منهم في ذاكرته وتصوره.

العطاء : عطاء مثله ليس مالاً وهو لا يملك منه إلا ما يقيم الأود ولكنه عطاء لما هو أثمنُ من ذلك، مشاعر تندى بالنبل وتفيض بالشعور الجميل، ولو شئت أن أوجز ما خبرته في أبي معن وعرفته منه لقلت أنه (الناسك)، فهو ناسك في استعلائه عن الغوايات وناسك في زهده في المغريات وناسك في وفاءه وعطائه، إذ هو حب لا يعرف الكراهية، وظني أنه لو سئل عن الكراهية لاضطرَّ أن يُفتش عن معناها في القاموس، إنه حب للإنسان ووله للإنسان كما يشترط له ويشترط عليه لا يفصله عنه ولا يحول دونه مذهب طائفة ولا توجه سياسة ولا تجذبه إليه مطامع حياة، وهو ناسك حتى عندما يتغزل فيمن يحب، وسترد شواهد على ما تقدم في الحديث عن أبي معن الشاعر.

ب - أبو معن الشاعر:

الواقف على شعر أبي معن يجد فيه ظواهر خمس، إن لم يكن انفرد بها فقد برع فيها:

الأولى: قدرة عجيبة على توظيف الكلمة توظيفاً جديداً، ونظمها في عِقد الجملة نظماً يجعل فيها إيراقاً ويمد لها افاقاً لا يصل لها أو يرقى إليها معنى الكلمة في القاموس.

الثانية: عاطفة نبيلة تجاه أصدقاءه وذوي مودته تجري في شعره مجرى الماء في جداوله.

الثالثة: حنين لا يفارقه إلى أرومته العربية وجذوره، وولعه بمنابت هذه الجذور نجد هذه الميزات الثلاث في كثير من شعره مثل قوله:

يابن الصَّهيل المستريح على الشذى

زمني بقربك جنة وعبير

قطرتم أغلى الرحيق شمائلاً

وشربت حتى اخضوضر التعبير

وكتبت ماذا بعض ما أملى الهوى

وأنا بذاكرة العرار أدور

وقوله :

يا ابن الجزيرة يابقية صهلة

من خيلنا وشذى شميم عرار

بلّغْ صبا نجد حنين طفولتي

رغم البعاد تمرَّدت قيثاري

وقوله :

عرار من الصحراء في الزمن الجدب

يمدُّ عليّ الظل يخضرُّ في قلبي

وأقسم ما زالت على الأرض نبتة

على يَبَس الآمال تومئ بالعشب

عرارٌ من الصحراء مازال عائماً

على شفتي في مقلتيَّ على الهدب

وقوله :

لك في جناحي خفقة يا شاعري

سبحاتها بين النجوم شوارد

إني لأبحث عن ينابيعي التي

تأبى الرحيلَ وأنت منها واحدُ

باسم العرار يعيش فيما بيننا

نسب على عبَق الأصالة خالد

نحن الذين تلقفتهم نغمة

من ناي راعية وبيت شارد

نخضرُّ في صدر القوافي مثلما

تخضر في صدر الربيع نواهد

وقوله :

يا صديقي ياشهقة الرمل في الصحراء

يا رملنا النقي الطعينا

سألتني الضفاف عنك فأطرقت

عذاباً ممزقاً وحنينا

فجأة تقصف الرؤى يا شباباً

كان ملء العيون زهواً ولينا

وقوله :

خلدون، فارسنا الجميل

أبوك أغنية شفيفة

طافت عبيراً في الشفاه

ونسمة ريا أليفة

عربية القسمات

يشتف الضحى منها رفيفه

كان الوفاء الأريحيَّ

وكان خيمتنا المضيفة

إني لألمح في الصديق

حديقة الحب الوريفة

وتظل أنت يظل جيلك

بسمة الأمل المطيفة

قل للرجولة يا صغيري الحلو

كان أبي ( خليفة )

وقوله :

خذي شفتي يا دار وليركع الحب

يسلم عند الباب بالدمعة الهدب

خذي شفتي أقرأ بقيا قصيدتي

يودعها سرب ليلقفها سرب

أليس لها يا دار في كل خطوة

خيال تلاقى عنده البعد والقرب

هنا وقفت يوماً هناك تحدثت

هنا ابتسمت لما التقى الدرب والدرب

هنا ارتعش الثغر الجميل متمتماً

بنصف صباح الخير حسب الهوى حسب

وقوله :

الصادقون يتامى في مدينتنا

في أرضنا يمضغون الليل والألما

الشرُّ يزرعه الشيطان في بلدي

مقنعاً لا ترى رأساً ولا قدما

الرابعة : تفاؤل يُصرُّ عليه ولا يفارقه بأن هذه الأمة رغم الليل الطويل والهوان الوبيل سيشرق عليها فجر جديد نجد ذلك يلح عليه ويتمثل في كثير من شعره مثل قوله:

تركت على مُرِّ الجفاف قصيدتي

وآمنت في أعتى المواسم بالخصب

دعوا لي بقايا نبرتي وطفولتي

سيُدفنُ جيش الرعب في نبرةِ الحب

عرار من الصحراء ما زال عائماً

على شفتي في مُقلتيَّ على الهدب

وقوله :

مع كل نبض من صحارى أمتي

لي موعدٌ وأنا القتيل الشاهد

و يمر من فوقي صهيل فواجعي

وأصر أن سراب رملي واعد

وقوله :

ولنا الجزيرة والتراب وجذوة

لم تنطفئ لليل ألف نهار

الخامسة : قدرة غير عادية على استنطاق الجماد وخلق علاقة حميمة معه يجعله يبثه ويطارحه، وقصيدته عن شجرة الغريب في اليمن من النماذج الفريدة في ديوان الشعر العربي والتي منها قوله:

ما أنت حارسة للدهر أم خبر

يعرى ويورق لا يُدرى له عمر

ما أنت سر من الماضي يطوف على

شط الزمان بجلبابيه يأتزرُ

ما أنت ملحمة غراء أونة

وتارة يتفيا ظلك القمر

يقال أرسلت في فجر الصبا غزلاً

إلى أبي الهول والأسرار تنتشر

احكي لنا كيف دار العشق بينكم

وكيف طبَّق مصر الحلوة الخبر

بنت الزمان سلاماً إنني تعب

وها مرافئك السمراء تنتظر

يادوحة الأزل المزروع في بلدي

شعراً وخمراً واستسقي وأعتصر

لم تنبسي حين حييناكِ عن شف

لم الكلام يجيد الضجة البشر

هذي أنا .. قلت لي شمطاء باقية

على العصور وعندي اللون والزهر

عندي الفصول كما اختار عارية

مكسوة، عندي الأحلام والصور

أنا الحياة أنا الأم التي ولدت

تاريخكم يزدهي حولي وينكسر

ألفان مما عددتم عمر قافيتي

لم يتعب العود في كفي ولا الوتر

إن تعابير مثل : الصهيل المستريح على الشذى وتقطير الشمائل رحيقاً، واخضرار التعبير، وذاكرة العرار، وبقية صهلة خيل، وصهيل الفواجع، ومضغ الليل وما إلى ذلك من توظيف الكلمات توظيفاً يجعلها تورق وتزهر، يرسم منها لوحة قد لا تصل إليها ريشة رسام أمر قد انفرد به أبو معن أو برع فيه وأما العاطفة نحو الصداقة والصديق والحنين إلى الجذور، والتفاؤل بالمستقبل واستنطاق الجماد مما تمثله الشواهد السابقة والتي هي أغصان من دوحة متعددة الفروع فهو أمر لا يحتاج إلى مزيد من بيان، وقد يقال أن بعض ما جاء من التعبيرات لا يعدو كونه استعارات، والجواب أنها كذلك ولكنها أبعد من ذلك، لما تبعثه في نفس المتلقي من نشوة لا يبعثها كثير من ألاف الاستعارة والتشبيه، وكم في ديوان الشعر العربي من استعارات لا تبعث نشوة ولا تُحرك وتراً، ولا أظن دفاتر الشعر العربي فيما وقفت عليه عرفت معشوقاً أكثر خفراً ولا عاشقاً أكثر قناعة ممن قال عنهما:

هنا ارتعش الثغر الجميل متمتماً

بنصف صباح الخير حسب الهوى حسب

كما لا أعرف أن جملة (صباح الخير) اكتسبت جدة في معنى وأن اختزال الشيء إلى نصفه يمد في معناه إلا في هذا الاستخدام الذي انفرد فيه الشاعر وقد يبقى محتفظاً بتفرده فيه.

وبعد فهذا هو أبو معن الإنسان الشاعر في موهبته شاعراً وفي إبائه ووفائه إنساناً وفي هذا المجال لا يجوز أن نغفل جهد وفضل قرينة روحه ورفيقة دربه التي صحبته في مشواره الطويل معينة له على عطائه ومترجمة عنه وله، وهي عقيلته الدكتورة ملك أبيض أستاذة علم التربية في كل من جامعة دمشق وجامعة صنعاء وقد كانت موحية له في كثير مما أينع وأبدع، وهي التي وجَّهَ إليها هذا القول الذي استجمع فيه بعداً من أبعاد الكون، كما جاء في الجزء الأخير الذي لم ينشر بعد من شعره الذي سماه (الثمالات) وهو قوله مخاطباً لها:

إذا انفجر الكون الغبيُّ وحطمت

شظاياهُ أعشاش الطيور على الأرض

خبأتكِ في بيتٍ من الشعر حالم

وتهنا معاً في همسة منه في نبض

لقد حمل سليمان العيسى منذ حداثته هم أمته وحلمها، عاش مهموماً بالأول وحالماً بالثاني، لقد همه وأحزنه أن يجتمع عليها الأسوآن الفقر والقهر، وحالماً بوحدتها وعزتها وتحقق العدالة فيها، ومع أنه صحب الهم والحلم أكثر من سبعين عاماً ولم يُرِه تطاول الزمن وتغيير الأحوال إلا مزيداً من تراكم الظلمة في أغلب أجزاء الوطن العربي وأنه لم ير من تحقق حلمه إلا بعداً عنه لا قرباً منه، وأنه لم يتحقق من الوحدة إلا زواج كريمته د. بادية، الدمشقية المشرقية من الأستاذ فايز الشرقي الجزائري المغربي، وذلك قول يردده أمام خلصائه ومحبيه، فإنه لا يزال على إصراره في التعلق بحلمه وثقته أن أمته ستصل إلى فجر جديد، يعبر عن ذلك الموقف ويترجمه قوله في قصيدته (خذني إلى الشجن الحميم) التي وجهها إلى كاتب هذه السطور حيث يقول:

ويمر من فوقي صهيل فواجعي

وأصر أن سراب رملي واعد

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة