Culture Magazine Monday  10/09/2007 G Issue 215
عدد خاص
الأثنين 28 ,شعبان 1428   العدد  215
 

باقة نثر وهويّة
د. شهلا العجيلي*

 

 

يقول بيكاسو: (قضيت طفولتي محاولاً أن أرسم مثل مايكل أنجلو، ثمّ قضيت بقيّة عمري محاولاً أن أرسم كطفل). وأحسب أن سليمان العيسى الذي حفظ القرآن الكريم في السابعة من عمره، قد قضى حياته يكتب مثل طفل عبقريّ، وأمضى شعراء الأطفال العرب حياتهم يحاولون الكتابة مثل سليمان العيسى، الذي قد يكون أوّل شاعر عرفنا اسمه، وكثير منّا كانت قصيدته المحفوظة الأولى له، ليس في سورية فحسب، بل في الوطن العربيّ، حيث كانت المناهج مشتركة، أو متبادلة. في طفولتي، لم أكن أشعر بتمايز كلماته عنّا، أو مفارقة عبارته لمنطقنا في التفكير، وحينما كبرت، وقرأت لكثيرين وحفظت، ومارست الكتابة للأطفال أدركت صعوبة أن تكتب كطفل، أو أن تكتب لطفل.

على الرغم من أن ما حفظته من شعر سليمان العيسى عن ظهر قلب هو القصائد الموجودة في كتبنا المدرسيّة، كما فعل رفاقي معظمهم، فقد صاغ نثر سليمان العيسى حياتي بشكل أزعم أنّه مختلف!

(وائل يبحث عن وطنه الكبير) كانت حكاية طفولتي المحبّبة، ولكلّ منّا حكاية طفولة أثيرة، أمّي كانت تقرأها لي بصوتها العذب مراراً وتكراراً، ثمّ أقرؤها أنا محاكية لهجة أمي. حفظت القصّة عن ظهر قلب، وحتى الآن أتذكّر كلماتها مرسومة في مواقعها على صفحات الكتاب (باقة نثر) الصادر في دار طلاس، 1984، والذي بانت عليه مظاهر شيخوخة مبكّرة لكثرة ما قرأت فيه، وهو الآن بين يدي وأنا أكتب، أرسلته أمي من الرقّة إلى عمّان ومعه حفنة من ذكريات الأدب الأولى والانتماء، إذ ما يزال وقع الإهداء يطرب مسمعي ربما للمرة الثلاثين، وبعد زهاء ربع قرن.

(قصّة طفولتي أهديها إلى أطفال العرب) وأحسب أن الطرب أصابني من كلّ من الوقائعيّة والعروبة على حدّ سواء. في (وائل يبحث عن وطنه الكبير) عرفت معنى أن يكون المرء عربيّاً متمسّكاً بعروبته، وإنساناً يقف في وجه الظلم والعسف، وحرّاً ينافح في وجه الذلّ والتبعيّة، وعرفت عن أبطال العرب والمسلمين، خالد بن الوليد، ومحمد بن القاسم الثقفي، وعقبة بن نافع قبل أن أقرأ عنهم في سلسلة (الخالدون) وكتب التاريخ، وأعجبت ببيان المتنبي، قبل أن يصير بيتي الأثير:

وإن تك تغلبُ الغلباءُ عنصرَها ففي الخمر معنى ليس في العنبِ

وترنّمت باسم سلمى قبل أن أطالعه في دواوين العرب، وعرفت زكي الأرسوزي قبل أن يطلق اسمه على مدرسة في مدينتي، وأنّ لواء اسكندرون وأنطاكية جزءان سليبان من سورية قبل أن أراهما على الخارطة في كتب الجغرافيا... اليوم يمكن لي أن أصرّح بأن (وائل يبحث عن وطنه الكبير) وما جاء معها في (باقة نثر) فسّرت لي المعنى العميق ل (أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة) التي طالما ردّدها الأطفال كالببغاوات، في حين عجزت عن تفسيره كتب الثقافة القوميّة من الثالث الابتدائيّ إلى الثالث الثانويّ، فقد كانت تنظيراً يتناقض مع الممارسات تماماً خارج الكتاب، في الصف، وفي المدرسة، وفي الشارع، وفي البلد كلّه.

أحببت ما حكاه سليمان العيسى شعراً ونثراً، وشعرت بالانتماء إلى الوطن العربي الكبير، إلى اللغة والتاريخ والجغرافيا، بل مارسته، ولكن على طريقة وائل أو سليمان العيسى، ومنذ ذلك الحين، وإلى اليوم، ما تزال هزة هذا الانتماء تعروني كلما سمعت (فلسطين داري) أو (بلاد العرب أوطاني) أو (موطني) أو (نحن الشباب)...

عموماً، ومهما حصل، سيبقى من هذا الجيل، والأجيال القادمة مخلصون، ومؤمنون بالوطن الكبير الذي التقيته على كتف غيمة، وجناح فراشة كانت تدخل نافذتي وأنا طفلة، عبر قصيدة، أو قصّة لسليمان العيسى، فشكراً له، لشعره، ونثره.

* أستاذة الأدب العربي الحديث - جامعة حلب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة