الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th October,2005 العدد : 126

الأثنين 7 ,رمضان 1426

مساقات
العاميّ الفصيح!
د. عبد الله الفَيْفي

تطرّقنا في المساقات الماضية إلى ما ذكره أستاذنا الفاضل وشيخنا عبدالله بن إدريس، حفظه الله، في العدد 1186، من صحيفة (الجزيرة)، الثلاثاء 12 صفر 1426هـ، في معرض حديثه عن لهجات الجنوب، في غضون ذكرياته عن زيارته لمنطقة جازان، سنة 1377هـ، وما وصفه ببعض الطرائف اللهجيّة الجنوبيّة، التي رآها عويصة.
ونستأنف القول هنا بأن ما رواه الشيخ من لغة جازان عربيّ فصيح، لا غبار عليه، سوى غبار اللكنة المحليّة. ناهيك عن أن يكون فيه ما يمكن أن يُعَدّ من فاحش القول أو عويصه، كما ذكر، إلاّ حين لا تُبحث العلاقة بين اللفظ اللهجي والأصل العربيّ.
لكن قبل أن أوضّح ما نقله الشيخ من لهجة بعض أهالي جازان - كما سمعها - أودّ أن أشير إلى أن هناك اختلافات لهجية كبيرة أحيانًا بين لهجات السراة، ولهجات تهامة جازان. ومع التشابه اللهجي بين لهجات الجنوب عمومًا، فقد لحظتُ قُرْبًا لهجيًّا لافتًا، ويكاد يصل إلى حدّ التطابق أحيانًا، بين لهجات جبال فَيْفاء، ولهجة قحطان في عسير، هذا فضلاً عن تشابه معروف في كثير من العادات والتقاليد، والأزياء، والأعراف الاجتماعية.
لهذا كنتُ أدهش حينما يتقمّص الممثل القدير عبدالله عسيري الشخصيّة اللغويّة والاجتماعيّة الجنوبية من تلك المنطقة، فأجد أن صورة الشخصية التي يتقمّصها أقرب انتماءً إلى الناس في ديرتي من أي صورة أخرى. لذلك سبق القول إن فَيْفاء بيئيًّا، واجتماعيًّا، وحتى لغويًّا، هي أقرب إلى عسير منها إلى جازان. بل لقد كان ارتباطُها تاريخيًّا بعسير وبالسراة من جهة، وباليمن من جهة أخرى، لا بتهامة جازان.
ولا غرو، فهي، وسائر جبال ما يسمى بساق الغُراب، جزء من تلك السلسلة الجبلية الممتدّة، يمنًا وشامًا. ومع وجود المشترك اللهجي مع أهالي تهامة، إلا أن الاختلافات تظل قائمة، لا سيما مع انفتاح مناطق المخلاف السليماني التهاميّة منذ القدم على مؤثرات لغويّة واجتماعية شتى، حتى إن الجباليّ قد يستعصي عليه قديمًا فهم التهاميّ والتهاميّ كذلك يستعصي عليه فهم الجباليّ، لا بسبب اللغة وحدها، بل بسبب اختلاف البيئة والثقافة أيضًا.
وقد مثّل الشيخ ابن إدريس على ما عده من عويص القول أو فاحشه بما أورده من أنه: (جاء أحدهم إلى قاضٍ نجدي في مهمّة فتأخر خروج القاضي إليه فخاطبه قائلا: يا مجاضي من أمْطلْ وأنا (...)(...) حتى تقنبرت على... في امعرسه)). قال: (ولولا وجود رجل آخر يفسر هذه الكلمات العويصة لكانت مشكلة!).
وعلى الرغم مما أشير إليه من اختلافات لهجية كبيرة أحيانًا بين لهجات السراة، ولهجات تهامة، فأحسب أن ما ذكره الشيخ من استعمال (امجاضي) مكان (امقاضي)، ليس بدقيق. نعم، قد يقلبون الكاف شِبْه جيم، من نحو ما هو معروف في لهجات نجد أيضًا، لكن القاف لم أسمعها تُقلب جيمًا قط.
والله أعلم.
أمّا قول الرجل (من امطَلْ)، فيعني: (من الفجر)، إشارة إلى أوان سقوط (الطلّ) أو الندى في ساعات الفجر الأولى في تلك البيئات. قال تعالى: {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} (سورة البقرة، آية 265) وقوله: (تقنبرت على...): أي (جلستُ على...) وتقَنْبَرَ، في اللهجة: أي جَلَس في شيء من التعالي. وقد لا نجد الآن المفردة مستعملة في العربيّة - ولكم أهملت المعاجم من لغة!- لكننا نجد ما هو أَثَرٌ منها.
فمن جهة معنى (التعالي) في الجلسة، يرد مثلاً في (الزمخشري، أساس البلاغة، (قبر)): (من المجاز: قولهم للمتكبّر: رفع قِبِرّاه، وجاء رافعاً قِبِرّاه، وهي الأنف العظيم، كأنها شبّهت بالقَبْر، كما يُقال: رؤوس كقبور عاد... وتقول: واكِبْراه، إذا رفع قِبِرّاه. وتقول: ثبوا على المنابر، فقد خلا الجوُّ للقنابر؛ جمع قُنْبرة).
وفي (الصاحب بن عبّاد، المحيط في اللغة، (قبر): (القِبِرّى- على وَزْنِ الجِرِشّى-: هو الأنْفُ، يقولون: أتاني رافِعاً قِبِرّاه: إذا شَمَخَ بأنْفِهِ. وقيل: هو العُنُقُ في قَوْلهم: أتاني نافِشاً قِبِرّاه).
والقُنْبُرة: فضلُ ريشٍ قائِمٍ في رأس الدجاجة ونحوها. ودجاجة قُنْبُرَانيَّة على رأسها قُنْبُرَةٌ.
(ينظر: الزبيدي، تاج العروس، (قنبر)). والقُبَّرُ، والقُبَّرة، والقُنْبَرُ، والقُنْبَرة، والقُنْبَراء: طائر يشبه الحُمَّرة). ينظر: ابن منظور، (قبر)).
وأورد (صلاح الدين الصفدي، أعيان العصر وأعوان النصر) قول شاعر:
أنا قنبر الأحزان أملأ طلحها
حزناً وفي السفلى غراب أسودُ
فهل (التَّقَنْبُر) في اللهجة مشتق من اسم هذا الطائر وهيئته، فيكون التَّقَنْبُر: الجلوس كالقُنْبُرَة على بيضها؟ ومعروف مشهد القُنْبُرَة في حكاية كليب بن ربيعة والبسوس.
أمّا من جهة معنى الجلوس على العَرْصَة، فإن الأرض القَبُور هي عرصة الأرض الغامضة الواطئة.
(ينظر: الأزهري، تهذيب اللغة، (قبر).
فتَقَنْبَر إذن يمكن أن تكون بمعنى: جلس على أرض قَبُور، أي واطئة. ولعل اشتقاق الكلمة من هذا أقرب.
وقوله (في امعرسة): الصواب (في امعرسته)، أي (في العَرْصَة)؛ لأنهم ينطقون الصاد سينًا وتاءً. والعَرْصَة: كلمة فصيحة معروفة، قال امرؤ القيس في المعلّقة:
تَرَى بَعَرَ الآرامِ في (عَرَصاتها)
وقيعانها كأنّهُ حَبُّ فُلْفُلِ
وقال (مالك بن الرَّيْبِ):
تَحَمَّلَ أَصْحَابِي عِشَاءً وغَادَرُوا
أَخَا ثِقَةٍ في (عَرْصَةِ) الدَّارِ ثَاويا
فمعنى كلام الرجل بوضوح: (يا القاضي، من الطلّ - أي من ساعة سقوط الطَّلّ فجرًا -، وأنا متْقَنْبِر - أي جالس في انتظارك -، في العَرَصَة - أي باحة المحكمة -).
فأيّ حِمْيَرِيَّة قديمة هنا، وأي كلمات عويصة في هذا؟ إلا حينما نحكم على لهجة بلهجة، لا بالأصل المشترك بينهما، وهو العربية الفصيحة؟! فها نحن هؤلاء نستطيع إعادة اللهجة إلى أصلها من العربية، حتى بالاعتماد على حدود ما سجّله منها أهل اللغة في معاجمهم، وهو لا يعدو جزءًا من العربيّة، التي أهملوا كثيرًا منها، كما تقدّم في مقال مضى.
وطبعًا، ليس كل الناس بفارغين (مثلي!) للتحليل والتأصيل والمقارنات اللغويّة، لكنّ القصد هنا أن ما قد يبدو ظاهره غريبًا، أو حتى غير عربيّ، يتكشّف باطنُه عن جذور عربيّة، هي أفصح وأعرق أحيانًا ممّا نظنه على ألسنتنا هو الفصيح. تلك التفاتة نشكر الشيخ ابن إدريس على التنبيه إليها، وحفزه على مناقشتها.
وهي تؤكّد ما ذهبتُ إليه في مساق مضى من أن دراسة اللهجات العربية هي في حقيقتها دراسة للفُصحى، إن صحّت الغايات، وتجرّدنا عن الأغراض والأفكار المسبقة.


* عضو مجلس الشورى
أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك سعود
aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved