الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th October,2005 العدد : 126

الأثنين 7 ,رمضان 1426

العولمة: مراكز بلا أطراف
د. أحمد برقاوي*

احتلت الإمبريالية - كمفهوم - على امتداد قرن من الزمان المكان الأبرز في أي تحليل لفهم طبيعة العصر، هذا قبل أن ينتصر مفهوم العولمة السائد اليوم للدلالة على عالمنا المعيش. وفي كل محاولات فهم العالم عبر مفهوم الإمبريالية كان العالم غير الإمبريالي حاضراً في آراء الفلاسفة والسياسيين عبر مفاهيم دالة عليه؛ أي على عالم غير الإمبريالي وغير الشيوعي، أقصد بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية كالدول النامية أو المتخلفة أو دول العالم الثالث أو دول عدم الانحياز أو الدول حديثة الاستقلال أو المستعمرات القديمة.. إلخ.
لقد أخذ الخطاب السياسي والأيديولوجي هذا العالم بعين الاعتبار في خطابات المراكز. فالدول النامية حملت معنى مضمراً يفيد بأنها على طريق النمو وقادرة على تحقيق التنمية الاقتصادية أو قادرة على القيام بعملية التحديث التي توصلها إلى عالم أرقى يحاكي عالم المراكز. فيما عنى العالم المتخلف العالم الأقل تقدماً بالقياس إلى أوروبا الرأسمالية والشيوعية، وصار على هذا العالم تجاوز تخلفه عبر الخيارات الاقتصادية - السياسية المختلفة. وحمل مفهوم دول عدم الانحياز مضمون حركة عالمية مستقلة عن الصنفين ولها مكانتها في العالم كقوة ثالثة.
وفي كل الأحوال لم تكن الأطراف هامشية في العلاقة مع المراكز، بل إن نظريةً حاولت أن ترصد السبل لهذا العالم الذي تقوده إلى التحرر، ولقد انطوت الأطراف في الأصل على مفاهيم الثورة والتحرر والاستقلال والتنمية المستقلة والوطنية والاشتراكية.
هذه المفاهيم جاءت نقيضاً لمفاهيم الاستعمار القديم والجديد والإمبريالية والاستغلال، ولقد ترافق ذلك كله مع بروز حركات تحرر ورموز ذات بعد عالمي: عبد الناصر، نهرو، سوكارنو، غيفارا، تينو، المهدي بن بركة، هوشي منه، سيكانوري.. إلخ.
ولقد تأسست الدول الوليدة كثمرة ثورات تحررية من الاستعمار التقليدي، وبدا أن الآمال معقودة على السياسة الثورية لتغيير العالم، واحتل هذا العالم الذي سُمِّي بالأطراف عنصراً مهماً في تصور مصير الإمبريالية ذاتها.
لكن التاريخ جرى على غير ما تشتهي السفن، انتهت الحرب الباردة بزوال الاتحاد السوفيتي وحلفائه، وباءت الدول الوليدة التي جاءت ثمرة حركات تحرر بالفشل في إحداث التنمية المستقلة، والصين شقت طريقها الخاص متخلية عن الطابع الأيديولوجي الذي رسمه ماو، والمراكز الإمبريالية التقليدية تعيد بناء نفسها من جديد، وتبرز أمريكا قطباً واحداً قادراً على التحكم في دفة مسار العالم مستغلةً الفراغ العالمي لإنجاز ما يمكن إنجازه قبل أن تتحول المراكز القديمة إلى مراكز جديدة.
لقد ترافق هذا التحول في العالم مع نمط جديد من الرأسمالية أبقى على الطابع الإمبريالي لها، ولكنه أضاف إليه ثورة معلوماتية وتقنية عالية المستوى وشركات أكثر عبوراً للقارات تدخل مباشرة في شؤون ما سُمِّي بالعالم الثالث عبر رأسمال لا يجد أي عقبة أمام طريق تناميه.
كل ذلك اصطلح على تسميته بالعولمة، والأطراف التي انتصبت آمالها عراضاً لم تعد ذات شأن في هذا العالم، فإذا العالم مراكز بلا أطراف، لا بمعنى أن الأطراف صارت مراكز، بل بمعنى أن الأطراف فقدت أية فاعلية في هذا العالم وصارت نهباً للرأسمالية المتعولمة دون أية ممانعة تحاكي الممانعة القديمة، بكلمة واحدة: إن انقلاباً حصل في العالم هو العولمة حول العالم الثالث القديم إلى جسد تنشب أظفارها فيها دون الشعور بالألم والإحساس بالتمرد. ولو دقَّقنا في العولمة من زاوية فلسفة التاريخ لما خالجنا الشك بأن عناصر القوة المحتكرة في المراكز، وخصوصاً في الإمبريالية الأمريكية، ستستمر إلى أمد لا نستطيع تحديده في مسار التاريخ العالمي.
فالقوة العسكرية والفكرية والاقتصادية والعلمية والتقنية والإعلامية مجتمعة، التي تؤسس لأيديولوجيا توسعية أو المستندة إلى أيديولوجيا توسعية تعيد إنتاج الظاهرة الاستعمارية، هي التي تجعل اليوم مركزاً واحداً تقريباً هو المركز العولمي الأمريكي فاعلاً شبه وحيد على مستوى العالم.
أجل، كانت المراكز دائماً تحتكر الفاعلية، لكنها لم تُلْغِ في يوم من الأيام فاعلية ممانعة للأطراف. أما الآن ففاعلية الأطراف زالت: بالتجارة العالمية، بصناعة المعلومات، بفرض نمط الحياة والتدخل المباشر في تحديد سياسية الأطراف التي فقدت عقلها وإرادتها.
تُرى ما الذي جعل أطراف الأمس التي كان يؤمل منها أن تسهم في إضعاف الإمبريالية جسداً لا دماء فيه؟
إن الإمبريالية قد سعت دائماً إلى الحيلولة دون أن تحقق الأطراف أي تنحية مستقلة، فيما كانت الأطراف تستثمر ثقتها من انشطار العالم إلى قطبين متناقضين. أما وقد زالت هذه الواقعة فقد زال معها الأمل في التنمية المستقلة، ورضخت الأنظمة السياسية في أطراف الأمس - جلها تقريباً - لمنطق العولمة في السيطرة على السوق ورأس المال والسلطة، وبدا أن الأطراف هوامش تلهث وراء نمط الحياة السلعية، فتغيرت العلاقة القديمة بين الاستقلال ونزع التبعية؛ إذ صار بمقدور الرأسمالية المتعولمة أن تتحكم بالسلعة كقوة قادرة على تحديد ما يجب أن تكون عليه الدول الهامشية؛ إذ وجدت هذه الدول نفسها في حضن العولمة دون أن تؤسِّس أي قاعدة لدخولها مشاركة بها، بل صار بمقدور الرأسمالية المتعولمة أن تحول السلعة نفسها إلى وسيلة عقاب، وإن لم تنجح فالقوة العسكرية العقاب الأقصى، فمن كان يتصور أن تُحتل العراق قبل ثلاثين عاماً أو عشرين؟! أو أفغانستان؟! مَن كان يتصور أن تمسك أمريكا بجميع المشكلات في العالم وحلها على هواها وعلى هداها؟!
لقد دمرت الدولة التي نشأت بعد الاستقلال في الدول الطرفية، أقصد الدولة الوطنية، بل وتحولت إلى أداة في يد المركز الرأسمالي المتعولم الذي أشاع مفهوم زوال الدولة ومفهوم القرية الكونية.
ففي الوقت الذي ازدادت فيه قوة الدولة في المراكز المتعولمة وجدت الدولة في الأطراف نفسها وقد زالت كأطراف أمام ظاهرتين أيديولوجيتين متناقضتين في الشكل ومتشابهتين في المضمون: أيديولوجيا الدفاع عن العولمة وضرورة الاندراج في القرية الكونية، وهي أيديولوجيا السلطة العزلاء إلا من أدوات القمع، والأيديولوجيا الأصولية المعبرة عن عجز هذه المجتمعات العربية أو الإسلامية التي وجدت نفسها فريسة النهب والاستغلال وفقدان السيادة الوطنية. وإذ أقول: إنهما متشابهان في الجوهر، فأقصد أنهما أيديولوجيا وهم مطلق. فأيديولوجيا الدولة في العالم الهامشي لم تدرك أننا أمام رأسمالية جديدة تزيف سلوكها في الهيمنة عبر وحدة العالم والقرية الكونية، تزيف سلوكها لإخراج الجزء الأكبر من العالم من هذه القرية الموعودة وإقامة نظام عبودية جديد. والأيديولوجيا الأصولية لم تدرك أنها لا تستطيع مواجهة المد العولمي بنكوصٍ إلى تاريخ مضى.
ولما كانت أيديولوجيا التحرر قد وصلت إلى طريق مسدود عبر عشرات السنين من تحطيم المجتمعات التي حالت السلطة بينها وبين بناء شخصيتها السياسية والمدنية عاد الصراع الآن في صيغته الزائفة: بين سلطات هي في طابعها لا علاقة لها بالعولمة موضوعياً وتشارك في الحملة ضد الأصولية وبين أصولية تواجه واقعاً موضوعياً بفكرة نكوصية.
وهكذا اكتملت دائرة موت الأطراف، فإذا نحن أمام مراكز بلا أطراف!!


* رئيس قسم الفلسفة بجامعة دمشق

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved