الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th November,2003 العدد : 36

الأثنين 15 ,رمضان 1424

مشهد بقي من الليل الطويل لم يتخيل
أحمد الدويحي

شاورت أبنائي جميعاً بعد صلاة يوم الجمعة وعيني عليه بالذات، قلت لهم:
أريد من يرافقني منكم لنحضر مجلس عزاء العم (أحمد الطويل) رحمه الله..
نظر في وجهي لآخرمرة، وقال:
ياأبي أريد أن آتي معك للعزاء ومعرفة من لا أعرف من أقربائنا، لكن ثيابي غير نظيفة ولابد أن تعذرني..
نظرت في وجهه نظرة ذات معنى، وتركت لأمه أن تتولى زجره لسبب غير ذي قيمة وخرجت برفقة شقيقه الأصغر إلى مجلس العزاء، وحدثت المعزين عن شهر (قُصير) وثماني مرات من شهر شعبان، زرت فيها المقبرة و(حثونا التراب بها) كما قال شاعري الجميل. ومنها تلك الحرب الهمجية المصاحبة لرحيل الفنان الجميل (بكر الشدي) رحمه الله.
يوم أمس لا غير.. كنت مع المصلين أنتظر رؤية هلال رمضان في بوابة المسجد، وسمعت ضجيجاً (وحركةً لعبدالله) ولم أره لا بعد صلاة العشاء ولا قبلها، وشهد إخوته وزملاء له بأنه كان من بين المصلين ولو لم أكن قد رأيته، ولست أعرف ما إذا كان يعاقبني أم كان رحيما بي في اختيار تلك الطريقة ليودعني بها، أسمح لنفسي كأب مفجع أولاً في فلذة كبده وككاتب مسؤول عن حروفه ثانياً، برواية المشهد المميت بكل تفاصله المأسوية المحزنة للعبرة..
بقي لعبد الله (رحمه الله) شهران ويتخرج بشهادة كيمائي، وبين كتبه في المعهد البريطاني الذي كان سيكمل به نفس المدة دارساً على نفقته ومن مصروفه الجامعي دون علمي لئلا يجرح (مازحاً) غامديتي، وجد إخوته مطوية توزعها جماعات الدعوة تطرح سؤالاً يقول (تصور أنك تعيش آخر يوم في حياتك فماذا تفعل؟)، وقالت أمه لقد كان خلال اليومين الأخيرين كثير الأسئلة عن دقيق تفاصيل حياتنا العائلية والاجتماعية مع أنه شاب في الثانية والعشرين ويعرف منها الكثير، وظننت كأب أنه في هذه المرحلة العمرية لم يعد بحاجة لي وذهبت في دروب أخرى، وكأن الزمن صفا لي وحدي منه ساعة ونسيت ما حولي، ليأتي صوت منادٍ، لم أعهد مثله ينتزعني من بين أصدقائي في غمضة عين، عرفت أن عبدالله خرج بعدي تاركاً سيارته في باب البيت، وركب مع شابٍ في عمره ليس جاراً ولا قريباً لنا ولا زميلاً له، ليطحن روحه على بعد ثلاثمائة متر من باب بيتنا بين حديد السيارة المسرعة وعمود الإنارة في طيش ونزق وفي زمن لا يتجاوز دقيقتين..
وحينما مستني الفجيعة وصحتُ، نظر في وجهي بقسوة رجل الأمن الذي سلمني(شهادة الوفاة)، ورقة هي كل ما بقي لي من ابني قال: (افتح الصفحة واقرأ الأسماء)، فرأيت عائلة مكونة من أربعة عشرنفساً، قضت في حادث مروع تسعة منهم أبناء رجلٍ واحد فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وتساقطت دموعي، فقال شيخ الكناسين الذي لازمني منذ اللحظة الأولى (تذكر أننا نفقد سنوياً أكثر من أربعة آلاف نفس، وأكثر من خمسين ألف مصاب بهذه الحالة وكأننا نخوض معارك على الجبهات، وتذكر كم تخلق مثل هذه الحالات ولها أسبابها من مآسٍ اجتماعية واقتصادية وصحية وتعليمية وثقافية، أحمد الله يارجل واحتسب..).
رأيت والدي الشاب الآخر في عزاء ابني، فرأيت جزءاً من المأساة وصدقت قول شيخي، وقال كبير أقربائي من عفا وأصلح أجره على الله..
وكتبت زرقاء اليمامة مهنئة: (هنيئاً لك الشهر الذي شع بالهدى، وفاضت غواديه النديات بالبشرى، ونلت الذي ترجوه عتقاً ورحمة، ومغفرة ما أعظم الشهر والأجر)!.
فبعثت لها: (أكرر فقدت ابني رحمه الله).
فأسرعت رادة: (يا إلهي كم فجعني الخبر/المصاب.. حزنك يثقب القلب... كان الله معك وغمرك بفيض من الطمأنينة ورحم الراحل رحمة واسعة).
أمنت بالله ورضيت ب (المكتوب) أولاً وأخيراً.
وصحوت على صوت حائلي حنون بما فيه من جهورية وأبوية يعزي ويواسي، وأمسيت على وقع خطوات رجلٍ يحمل فوق كاهله قرناً من الزمان، دلفت عتبات باب بيتي المتواضع لتنتشلني من وحدتي القاتلة، وسمعت ورأيت معهما صوتاً وحضوراً لمئات من أرباب القلم والأقرباء وأصدقاء لي وزملاء ابني الراحل، بعضهم لم أره لأكثر من عقدين من الزمن وبعضهم لسنا على وفاق في أمور أدبية وفكرية، لم يخف عنهم فجيعتي خبر مظلم نشر بين أخبار العمال المفقودين والهاربين في صحف سلخت عمري بين أروقتها دون أن أنتظر منهم يوماً أجراً على تعب الكلام..
فالحمد لله، ورحم الله الشاب عبدالله، وشكر سعي كل من لبس حزني وفجيعتي، وشكراً جزيلاً و(خاصاً) للزملاء الأديب إبراهيم التركي، والشاعر حزام العتيبي، والصديق حمد العسكر، {إنا لله وإن إليه راجعون}.
++++++++++++++++++++++++++
«* »إشارة إلى الثلاثية الروائية (المكتوب مرة أخرى) الصادرة حديثاً.
++++++++++++++++++++++++++
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved