الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th November,2003 العدد : 36

الأثنين 15 ,رمضان 1424

الرجل الذي أدار ظهره للحظير
ريمة الخميس
الطريقة الاستعراضية الصادمة التي أعلن بها صنع الله إبراهيم رفضه لجائزة الرواية الكبرى تثير عديداً من التساؤلات، أولها أن تلك هي شخصية صنع الله إبراهيم منذ بداياته، فروايته الأولى والشهيرة «تلك الرائحة» كانت بمثابة قنبلة شديدة الانفجار، من قبل مجهول إذ لم يكن أحدٌ قد سمع باسم صنع الله إبراهيم، وفجأة لم يعد غير اسمه على كل لسان، وكتب عن تلك الرواية عشرات المقالات يومها وبعد ذلك ولكن أحداً من الذين كتبوا لم يلتفت إلى تناول الرواية باعتبارها «عملاً فنياً»، أو يقدم تناولا نقدياً جاداً لها على صعيد الشكل أو المضمون، أو أن يضيء فيها جانباً سلبياً أو إيجابياً، كل الكتابات استهلكت نفسها عند شجاعة الرجل في طرح موضوع هو من واقع الحياة الإنسانية وإنما يأنف الناس منه ومن مجرد ذكر اسمه صراحة أو تلميحا، فالرائحة المعنية هي لحظة اندفاع الغازات من البطون.
من يقرأ دوريات الستينيات في مصر يكتشف سريعاً هذه الحقائق فيما كتب عن تلك الرائحة وصاحبها، وبغض النظر عن القيمة الفنية للعمل فقد استطاع صنع الله أن يلوي الأعناق قسراً لتتجه إليه أنظار الجميع، وليتفقوا أو يختلفوا بعد ذلك لا يهم، فهل يمكن أن يكون رفض صنع الله للجائزة المُغرية هو قنبلته الثانية؟.. ثاني التساؤلات حول ذلك الموقف الغريب بين المثقف والدولة إذا أحجمت عن تشجيع الأدباء والفنانين انطلقوا ينعون الحظ ويفرطون في اللوم، ويلبسون مسوح الشهداء، وان أبدت بادرة للتشجيع لم يعد عليها ذلك إلا باتهام بسوء الظن، وخيبة الأمل، وكسر الخاطر، فما المطلوب إذن؟!.
وفي محاولة للوقوف على شيء منطقي يجيب عن هذين التساؤلين، قد لا ينبغي أن نقف عند الحادثة المفردة دون النظر إلى السياق كاملاً، ومن ضمن هذا السياق أن صنع الله إبراهيم كروائي قد أحبط كل كتابات الذين لم يروا في روايته الأولى «تلك الرائحة» إلا رغبة من الظهور والإعلان عن الذات بأعماله الروائية بالغة الرقي والتميز شكلاً وموضوعاً وانتماءً عربياً أصيلاً مؤججاً بهواجس العروبة والتاريخ، ومعذباً بتردي ذلك الواقع، ويكفي الرجوع إلى روايته «نجمة بيروت» كبعد عربي، و«اللجنة» كبعد محلي.. ومن ذلك السياق أيضاً أن صنع الله في رفضه للجائزة لا يمثل خرقاً لقوانين الذوق أو اللياقة، قدر ما يمثل امتداداً لمواقف الشرف والكرامة التي سبقه بها أدباء ومفكرون رفضوا بإباء جائزة نوبل العالمية، ومثله، أعلنوا الأسباب، أو رفضوا جوائز عربية كبري على نحو ما فعل يوسف إدريس في بيروت في السبعينيات، الأمر كله يتوقف على مصداقية الأسباب أو فجاجتها، ومن ضمن ذلك السياق أيضاً ماتناقلته الصحف المصرية من أن رجلاً يقف على رأس جهاز الثقافة، ومفترض أنه محسوب بالحق أو بالباطل على المثقفين أوالفنانين، قد همس في أذن خاصة، ثم أعلن على جمع غير قليل، أنه يعرف كيف يسوق المثقفين إلى أن يدخلهم الحظيرة!.
وقد يكون من الخطأ أن يجابه هذا التصريح بتشنجات أو غضب، بل ربما العكس حين تأتي الإهانة من مصدر معين أحياناً تكون شهادة تقدير: وما أظن أن هذا هو السبب المباشرالذي جعل صنع الله يرفض الجائزة بشدة من يدافع عن شرف وجوده، وإنما أهمية هذا التصريح في أنه يعكس إحساس المسئول بالمثقف، وأنه يختزل كل إمكانيات المعنى والمغزى للجائزة في أنها تلك الصدقة التي لا يتبعها إلا الأذى!.
مائة ألف جنيه في ظل ظروف اقتصادية على الحياة، تساوي كنزاً، ربما لايستطيع أن يتعامل مع تل من أوراقه البنكنوتية شخص بسيط مثل صنع الله إبراهيم، بل ربما كانت تشكل اقتحاماً مفزعاً على دائرة أحلامه التي لا تتسع لورقة منها، ولكنه بقياس آخر يحتاج المثقفون إلى مائة عام كي يحظى مائة منهم مائة فحسب بهذا التكريم، معظمهم لن يتسلموه بأنفسهم بل ينعم به ورثة قد لايستحقون!.
وبقياس ثالث يرى المثقفون كيف تعد التظاهرة الكبرى للاحتفاء بواحد أصابه الدور لينال بنفسه مائة ألف، في الوقت الذي تمنح أضعاف هذاالمبلغ الملايين صمت لمن لايستحق من غيرالمثقفين، ربما لممثل هازل، وربما لراقصة شرقية، وربما لمشروع فاشل، هذا ما يفضي به المثقفون في كتاباتهم على الأقل، ولكنه لاشك يشير إلى طعم المرارة في حلوقهم، يأتي تصريح المسئول الكبير ليؤكد على مصداقيته.
في ظل هذاالجانب وحده من السياق العام، وبغض النظر عماأعلنه صنع الله إبراهيم من أسباب سياسية، هل كان من قبيل الاستعراض الفج أن يرفض الجائزة، أم أنه بهذا الرفض قد أمسك بجائزة كبرى، لايملكها راعي الحظيرة، ووزعها بالتساوي على كل المثقفين بفرح حقيقي؟ هذا على الأقل ما تقوله التحقيقات والتغطيات الصحفية التي تناولت الواقعة، فالروائيون الذين كانوا يتصارعون حول أحقية كل منهم عن غيره بالجائزة، وغضبوا حين توجهت إلى صنع الله إبراهيم، هم أنفسهم الذين حملوه على الأعناق بعد رفضه، وهتفوا بشرف الكلمة.
هل يشير هذا كله إلى واقع في ثقافتنا العربية؟
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved