الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th November,2003 العدد : 36

الأثنين 15 ,رمضان 1424

استراحة داخل صومعة الفكر
المتبلورة زمناً
إبراهيم المشيني الغامدي
سعد البواردي
الزمن كالمطبخ.. انه ينضج تحت وهج ناره تارة.. ويحرق أخرى.. وعلى قدر احساسنا بقدرته، وقوته يمكن لنا التعامل معه وفق هذين الخيارين اللذين لا ثالث لهما..
حتى أولئك الذين يعيشون خارج دائرة الزمن انهم يحترقون دون نار.. ويتحولون الى ذرات من الرماد الغير مرئي رغم بقاء شحمهم ولحمهم وعظمهم معافى إلا من دسم الموات.. وسم الحياة..
مالنا وهذه الهرطعة! فبين يدي ديوان قليل الصفحات لعله كثير الصفحات التي توقظ النيام من سباتهم.. من غفوتهم وغفلتهم ان استطاعت الى ذلك سبيلاً.. لننظر.. ولننتظر..!
«فكر. وألم» أولى قصائد الديوان.. وبين الفكر الحاد والألم الجاد عشق رباطه الكلمة.. ومهره الصدق.. وبقاؤه ألاّ يتراجع عن وثاق عشقه.. ولقد اختار شاعرنا أمه ونعم الاختيار لعلها تثريه تجربة.. وتمده حنانا وحنوا ومساندة:
«أماه النفس تؤرقني
ولهيب الوحدة يحرقني
وفراق حصيرك يا أمي
مأساة تبحر في الشجن»
من أبياته أدركنا سويا لماذا استأثر بها دون غيرها..؟ والدموع تغالبه رغم جلده وصبره على فراقها..
«إن كنت أعيش بلا وطن
مجهول الخطوة في الزمن
فكثيرا كنت أجالسه
وكثيرا كان يعلمني»
دنياك بقايا من حزن
دنياك نسيج من فتن
لعله استعاض من وحدته ووحشته وغربته دون حضن رؤوم يحميه بزمن يجالسه ليستقي منه علم التجربة.. وتجربة العلم كسلاح يقيد شر الصدمة والصرعة.. هكذا تقول الصورة:
ولكأنما مغيب شمس أمه مرسوم وموسوم على جبينه وعلى مداد قلمه حين يتحدث عن «شمس الغروب»:
«تساؤلني حروف الأمس ماذا
دهاك اليوم يا خبرا يريب
رأيتك في دروب الكون شمسا
يبدل لون صفرتها الغروب»
لماذا؟ لأن أحزانه أخذته بعيداً الى زمن خطابه العويل والنحيب.. الليل فيه هو المستبد بجهامه وظلامه ووحشته.. ووحدته وهو الصغير الذي لا يملك إيقاد شمعة تكشف له ولو جانبا من دربه.. ويتحدث عن نفسه..عن الأحداث المحدقة به:
«أنا الاحداث تظلمني شجاعا
لتفتك بي.. وتقتلني الحروب»..
ملاحظتان.. أولاهما كلمة أنا ليست في محلها وحسنا لو ابدلها بكلمة «هي الأحداث.. ثانيهما مادمت تمتلك شجاعة الموقف فِلمَ الخوف من منازلة قدرية لابد منها لك ولغيرك.. فالحياة ساحة منازلة.. والهزيمة دون استسلام ضرب من ضروب الشجاعة الغير منتصرة لا عتب عليها ولا لوم.. ويختتم قصيدته ببيت سوداوي تشاؤمي:
«رأيت الناس أكثرهم شقاء
عظيم في شمائله لبيب»..
أبداً يا صاحبي من يملك عظمة الصفات والعقل الأبعد عن الشقاء بمفهومه الشقي.. لأنه حي بادراكه وحسه حتى ولو تألم.. بل إن الألم علامة رفض لواقع يعيشه ويتعايش معه دون هزيمة..
أما قصيدته «المستأسد حرفا» فإنها بدورها تشاؤمية. وضعيفة الحبكة في سطورها تفتقر الى صياغة أفضل في رسم الصورة الرمادية التي لازمت شاعرنا دون بارقة أمل..فهو بخياله المجهد يحاول تجميد النمو لدى الانسان مهما كان نامياً وكبيراً بدافع مرضي هو نظرة غيره اليه على أنه ما زال صغاراً.. ويبدو ان عقدة شاعرنا أثارت شيئاً من الفضول أحسبه نظرة بعض الكبار الى تجربته الشعرية بشيء من التصغير والتحقير.. هذا ما أمكن استخلاصه من أبياته:
«عجباً لأمر الناس ما أفكارهم
ما قولهم ان كان فكر يشترى
أم يحسبون حروفهم كحروفنا
شتان ما بين الثريا والثرى»
يا شاعرنا.. من راقب الناس مات هماً.. طاول الأمل بسلم الصبر ودرجات التحمل كما قلت:
«هذا كتابي والحياة متاعب
لن نبلغ الآمال حتى نصبرا»
اصبر.. وما صبرك إلا بالله.. وبصبره يبدو أنه تحلل من عقدة القنوط الذي لازمه ردحا من الزمن.. وخفق وجدانه للحب.. ما أحلى أن نحب:
«منقبة. فلا خلعت نقابا
لوجه الأمس. أو ردت جوابا
أكلم عينها الكحلاء شوقا
فتبدو حين تلمحني اضطرابا».
هكذا لغة العيون الصامتة تفعل فعلتها وتورث الارتباك..ماذا بعد هذا؟!
إنه يخاطبها هذه المرة بلغة الاشارة مشيرا الى الدرب مفروش بالأشواك وبالأشواق معا.. وان معركة الحب صعبة لابد من تحملها.. ويعود الى خياله من جديد كمن لا يصدق الرؤية:
«أنا ما زلت أعشق خيالا
يحول حرف أحلامي كتاباً»
انه كتاب لا يقرأ إلا حين يتحول الخيال الى واقع.. والحروف الى لغة ناطقة بالحب يستجيب لها من يُحِب.. ومن يُحَب.. وينهي حلمه الخيالي هكذا:
«فقد صارت دروب الأمس تلك
لجينا. بعد ان كانت تراباً!»
عجبا من هذا الحب الراعف الزاحف على قدميه وسط ضبابية الحلم. والخيال. والرغبة.. ثم لماذا مفردة «تلك» في آخر شطرك الأول إنها منقبضة في لفظها.. منكسرة في ايقاعها.. حسنا لو جاءت على النحو التالي:
«فقد صارت دروب الأمس عندي»..
هل ان شاعرنا «الغامدي» استفاق الى علمه بعد ان سرح في خياله طويلا.. أشعر انه يتحرك بعد ان أفاق من سدرة حلمه.. وإلا لما أطل من «نافذة غرامه» هذه المرة.. لعلها نافذة يبصر منها الواقع دون وَهم..
«الليل أروع ما يكون من السكون
وجمالك الأخاذ أجمل ما يكون
وبقرب نافذة الغرام شموعنا
والشعر في عينيك يسبح في الحنين»
الشعر لا أدري هل تعني به الشعر بفتح الشين أم بكسرها.. وفي كلتا الحالتين الشعر هو البحر الذي تسبح فيه الأشياء ويستغرقها بموجاته الموجبة والسالبة.. وليت ان بيتك جاء هكذا:
«والشعر في عينيك يلهج بالحنين»..
على أية حال تعود حليمة الى عادتها القديمة دون تغيير.. وإنما تغييب للحلم لتبقى معشوقته مجرد قصيدة باسمة فاتنة العيون.. ما هكذا أبداً يا عزيزي ينهزم الشعراء أمام من يحبون. حتى ولوكانوا يقولون مالا يفعلون»..
«النورس» تجربة جديدة بداية طاقية اخفاء تحجبه عن عيون الآخرين كي لا يراه أحد. ولا يتذكره أحد لماذا؟! لأن الخوف كما يرسمه خياله المجهد جدار من طين ومن بيت جاحد يتهدده بالقتل..!! أين النورس؟! مع شاعرنا ادلجنا سيرا نبحث عنه ووجدناه أخيرا أكثر من نورس واحد سوف تطير.. وستأخذه معها الى البعيد كي يعود الى ذاكرته من جديد ليعرف شيئا عن وطنه..!!
هل الوطن يا صديقي في حاجة الى نورس أو نوارس تذكربه..لا أظن.. وبعض الظن علم لا إثم.. نترك لشاعرنا شجره ما دامت أخذته النوارس معها الى حيث لا ندري ولا هو يدري.. ونودع ولديه وداعا لا جفوة فيه فأمامنا أكثر من لقاء، وبالذات في مقطوعته وعنوان ديوانه «المتبلورة زمنا» ماذا يقول فيها..؟ وعن ماذا تتحدث؟!
«ماذا أقول. وأي شيء لا يقال
ما سر حزن فوق رأسي كالجبال»
الحزن داخل النفس.. أما الرأس الأجدى ب أن يكون «ثقلا» أو «حملا». ثم أين علامة الاستفهام؟
«الصمت يجرحه الكلام بلا فم
والليل يقتله السكون بلا قتال»
من قال هذا يا صديقي؟ الصمت غير قابل للجرح لأنه صمت.. أما الليل.. والسكون فهما توأمان لا يتنازعان السلطة وإنما يكمل بعضهما البعض.. القصيدة لا تستحق أن تكون عنوانا لأنها ليست الأفضل لها في فصولها. ولا في فضولها.. ولا في قبولها.. ذاك أنها لم تأت بجديد تستحق عليه كل هذا الاكرام..
«أرض وأفلاك» مقطوعة من ديوان شاعرنا أحسست وأنا أقرؤها ان الأرض تدور.. غروبها يتحول الى شروق.. وشروقها الى غروب.. ومعها الزمن يمضي.. والظلال تهوي وتتقلص ثم تمتد من جديد.. كل هذا عرفنا عليه الشاعر.. وهو ليس بالجديد على معارفنا جميعاً.. أين هي الفكرة الجديدة والمحصلة التي نخرج بها من هذه المناداة أو المناجاة؟ لا شيء أكثر من هذين البيتين:
«كوني كطير يستعيد وثاقه
فرحا به. إذ ليس يدرك ما الهروب
فغدا حياة لا نبالي ظلها
ان كانت الأوراق يسرقها الهبوب!!».
يريد شاعرنا للشمس أن تستعيد كما الطير الوثاق.. ألا تتحرك.. لماذا؟ علم ذلك عند الله.. يا صديقي الشاعر لولا دورة الشمس لما كان نهار للعمل.. ولا ليل نسكن فيه ونرتاح اليه من هموم النهار.. دع الأوراق يسرقها الهبوب إذا كان ثمنا لايقاف دورة شمس شعرك..
وحتى لا يعاجلنا الليل نسارع الخطى لنقف وقفة مناجاة لأمه:
«أماه الناس بلا حب
قذفوني خلف القضبانِ
سلبوني أروع أزمنتي
رسموا لي وجه الشيطان
فرجوت النفس: أمِنْ قول؟
فأسرت.. أسكن أوطاني»
من أجمل ما قرأت لشاعرنا في ديوانه.. أبيات موحية.. وحوار هادئ.. ومضمون يوحي بنضج تجربة.. ومن أمه يأخذنا الى كتاب جده ليقرأه علينا:
«هذا كتاب ليس فيه مقدمة
صفحاته بيضاء غير مرقمة!»
إذاً ماذا سيقرأ والكتاب دون حروف ودون أرقام صفحات..؟ ربما نسمع جوابا لسؤالنا.!
«ما زالت الأيام تقرأ كاتبا
في عقله نور لدينا معتمة
بين الهوى والعقل سطر حالم
يهوى حياة لا تجاور مظلمة»
إنه يكره السواد حتى في رسالة جده.. اختار أن يكون عقله الباطن الناطق باسمها.. حسنا فعل.. «صمت الضياع» محطة مشابهة للكثير من محطات لا جديد فيها يستحق الوقود أكثر من ضياع الصمت في فصل الخريف! واحتراق الشمع في ليل مخيف.. واندثار الحب وانحدار الروح من سفح مخيف. قصة عنوانها «توهان ليل في مناجاة وقوف.! لا شيء أكثر من هذا.
وما دام «الحب للجميع» ليكن توزيعنا في حب لما تبقى من قصائده إن أمكن.. ولو باشارة عاجلة لما تعنيه وتدل عليه «شعر ونثر» تتوازعها التقريرية والمباشرة والتكرار دون ربط ودون نهاية توصل الى نتيجة وتلك هي محصلة جل قصائده لا كلها.. فهل «لعذراء قلب» نصيب أوفر من اخواتها..؟ الإجابة منه:
«الأمر ليل.. لا السماء ستحتويه
لا.لا. ولا أرض الشقاء سترتديه
والكوكب المسكين يلهث حائراً
بين النجوم. كأن شيئا يعتريه»
ما الحكاية؟! كل ما في الأمر مجرد استرجاع للحب القديم.. والأشعار التي تحتويه.. والعذراء التي لا يمسها ولا يراها أحد غير حبيبها الذي ترتضيه على سنة الله ورسوله.. وكأنما يخاطبها من وراء حجاب قائلاً:
«يا روعة الاحساس. روعة حالم
في الليل غني حرفه.. لا تقتليه»
لهذا.. ولما سبق رغب الى الشمس ان توثق قيدها وراء الأفق البعيد لأن الليل يستهويه كي يغني حروفه ويبث نجواه..
ما ان أفرغ من قراءة قصيدة من قصائد الديوان حتى اتنفس الصعداء على أمل ان أعيش الحلم. والأمل الضاحك معه بعيداً عن الليل والغروب. والدموع. والزمن الباكي. إلا أن الأمل اصطدم بصخرة الواقع الشعري لشاعرنا الذي أسره الليل الى درجة التخمة والقتل.. فذات مساء» احدى مقطوعاته أعاد الكرة من جديد دون جديد يتحدث دون كلل أو ملل الى درجة الانهاك عن كل سوداوي. أو رمادي.. دون بارقة أمل في الوان قزحية تخفف عنا عناء الرحلة.. سأكتفي بآخر بيت من مقطوعته «ذات مساء»..
«فسمعت صوتا من بعيد يهتف
إن الحياة تريد ليلا في سلام»..
يا سلام.!
ماذا أخيراً أعد لنا شاعرنا الكريم ابراهيم الغامدي في محطته الأخيرة كي يقدمه لضيوفه؟!.
أمام صالة المحطة النهائية لافتة تحمل هذا العنوان.. «زمن الفصول الأربعة» عنوان ضخم ومثير.. دعونا معا نقرأ ما بين السطور بعد ان تكشفت الأوراق..
«يسليني زمان قد تولى
يؤملني الحياة حياة بشرى
يسامرني فلا أرضى بديلا
فلا نجم. ولا قمر تجلى
يسامرني فيمنحني شتاء
فيهديني رداء ليس يبلى»
وبالمباشرة المغرقة في تكرارها يسامره ويسامره ويسامره وأخيراً يتذكر أمه:
«إذا ما المرء يوما عاش صفوا
فذاك اليوم يا أماه يبقى»
ويبقى سؤال مليء بالحب.. أين هي الفصول الأربعة..؟ عنوان بلا عنوان.. وديوان شعر يحتاج من شاعرنا الى اعادة نظر.. ان لا يتسرع في طرحه قبل أن يضرب أخماساً بأسداس مليئة بالتفكير والمراجعة.. والمتابعة.. إنه ان فعل هذا وما أخاله إلا فاعل سوف يقدم لنا عطاء قابلاً للحياة نحمده له.. ونشكره عليه.. انه جدير بكل خير.. له مني أطيب التمنيات في عمل قادم أكثر نضجاً.
++++++++++++++++++++++++++
الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321
فاكس: 2053338
++++++++++++++++++++++++++
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved