الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th November,2003 العدد : 36

الأثنين 15 ,رمضان 1424

إشارات إلى بعض المآخذ الفنية على شعر التهاني
أحمد علي آل مريع *

أود قبل الشروع في الإشارة إلى المآخذ على تجربة أحمد عبدالله التيهاني في ديوانه «أماريق» أن أؤكد على أهمية استحضار قراءتي السابقة لديوانه، وهي منشورة على سبع حلقات في ملحق الأربعاء التابع لصحيفة المدينة، حتى يكتمل الموضوع، وحتى لا نتهم بالتحامل عند ذكر الهنات، أو المحاباة عندما عرضنا للحسنات فيما سبق..
1 إذا كان عنصر الكشف مما يسجل لتجربة الشاعر هنا، بحكم أن الشفافية سمة من أبرز سمات شخصيته، ولإيمانه بأن الإبداع فعل «تعروي» بالضرورة، فإن الإلحاح على المكاشفة لا سيما حين لا يكون ذلك وفق رؤية دقيقة واعية يُفضي إلى أن تكون بعض القصائد ذات مرجعية تأويلية محصورة في فلك حادثة أو مناسبة معينة بشكل دقيق. وهذا يُلغي كثيراً من حركية القصيدة في الوعي القرائي لها، ويُحجم من دور المتلقي في التجاوب معها وفتح مصاريعها حتى لأيسر الإسقاطات الاستشهادية. وهذا ما نجده في عدد من قصائد الديوان مثل «قصيدة غاضبة» حيث بدا لي الخطاب أول الأمر مُشرعًا متجهاً نحو تقرير وضع «مأزوم» يمكن أن يتعدد تأويله، ويتنوع فهم مقاصده: سيد النبل تأملْ كيف يشقى الأشقياء ْ عندما ينساب فيهم.. سمّ تأجيل اللقاء حين كان الصبح خطواً.. نحو ساعات الصفاءْ ثم صار الصبح جدعًا.. لعرانين اللقاء واستراح الناس منا.. بين تلويح الخناجر....، وتفاهات النساءْ لكن الشاعر لم يشأ أن نعيش «جمال الحيرة» بالتردد بين الخطاب والرسالة والمخصوص بها والمحتوى، وكأنه لم يشأ أيضاً أن يترك «لنا» وبالتالي للقصيدة تلك المساحة التأويلية فكبل «مفهومنا» وقيد حريتنا حين كشف الخيوط جميعاً ابتداءً من المقطع التالي: نصف ساعة من «صباح المملكة» عبر أجواز الفضاء في «خميس الاحتفال» يعتليها موج «خنجر» في أيادي الأغبياءْ فمحاها.. وتبختر!! ومضت كل الدقائق... شاحباتٍ مثل رقص الأغبياءْ.. تأكل الوقت، وضوء الأدباء ترفع العرضة «لا للأدباء» ولم يكتفِ بهذا فحسب بل وصل بالقصيدة إلى «درجة المباشرة»، حين أقحم فيها ألفاظاً لا تعرفها إلا أجندة العمل الإعلامي، وكأنما «إذا استبعدنا فكرة الهجاء!!!» يكتب تقريراً وظيفيًا، يعرضه على أحد المسؤولين ليعرف المتسبب في ضياع «ندوته» بين ما أسماه «تلويح الخناجر، وتفاهات النساء»: عندها.. أيقنتُ أني.. متُ قبل الموتِ... ماتت «ندوتي» تحت أقدام الخناجر بين أزياء النساءْ وهكذا تتراجع «القصيدة» التي كانت قاب قوسين أو أدنى من مستوى يؤهلها للتأويل المفتوح على المتلقي وثقافته، وكان يمكن أن تظل علامة سابحة في الديوان...
2 ومن المآخذ الواضحة إصرار الشاعر على أن يكتب كل شيء، ويستنفذ أسباب التركيب النحوي ولو كان فضلة، والشعر ليس مكان التفصيل بل إن الفن عموما هو انتقاء واختيار، اقرأ مثلاً المقطع التالي: «آه يا تيهانُ إني.. أرتمي في ذكرياتي.. بعدما تاه ضجيجُكْ.. في فراغات الوظائفْ وانتفى لونُ حَصَادِكْ صار شيئاً من كنوزِ الذكرياتِ ولنا أن نتساءل عن اللازم الفني لذكر «في فراغات الوظائف»، إلا إذا كان ذلك لهدف لغوي بحت، أو إشباع لرغبة في الثرثرة لا أكثر...
3 ومما يلحق بذلك اهتمامه بالتعليل و التحليل، والتعليل ليس من مهمة الشاعر، ولاسيما حين يكون مفروضاً من قبل العقل التحليلي، ثم يُرام قولبته على عجل في نسق متشاعر قبل أن ينصهر في بوتقة تجربة إنسانية، أو وجدانية خاصة: وطعم الذل كالسكرْ.. لأن الذات مقلوبةْ تُعلق قلبها المؤمنْ ولا أدري كيف يكون طعم الذل والعياذ بالله كالسكر، ولا كيف يتمُّ قلب الذات؛ إلا بتعسف شديد، ومثل ذلك «أعني التحليل والتعليل والشرح» مع محبتي للتيهاني، وإيماني بشاعريته القادمة مكانه مقالة في صحيفة أو فصل في كتاب. إن وضع الحلول ومناقشة الأسباب ليست من مهمة الشعر في شيء، وإن تبنى الشاعر وظيفة الريادة، واستلهم هموم مجتمعه وقضاياه، وحسب الشعر أن يشير عن بعد وكفى، أما الاستقصاء وضرب الأمثال وتتبع الأسباب وتعليل الأمور فهي من مهمة الباحث لا الشاعر، وبمجرد ما يحاول الشاعر ذلك فإن شعره يتحول إلى نظم باهت.... «ولنا وقفة أخرى في الحلقة التالية إن شاء الله تعالى».
4 ومن المآخذ التي نراها واضحة في بعض قصائد الديوان ونأمل من الشاعر ان يفطن لها ويتجنبها: التداخل الواضح بين الرؤيتين الشعرية الفنية والرؤية العقليةلدرجة تجعل النص أحياناً يتمزق بين واقعين في قصيدة واحدة، أحدهما يجره الى عالم الشعر والوجدان، والثاني إلى عام آخر ليس من جنسيهما، ومن ثم يعجز المتلقي عن التفاعل مع القصيدة والشاعر، هذا إذا ما وفق فتمكن من إدراك المعنى العام الذي يريده الشاعر. وكنموذج راجع القصيدة التي استشهدنا بها في قراءة سابقة «أماريق 4» تجد الشاعر بدأها باختيار مكان أليف في أبها، تمهيداً لتجسيد حالة من الائتلاف والاستغراق الجميل الوادع في مفردات الجمال المكاني، ولكنه للأسف لم يلبث ان اخذ يتشاغل عن رؤية الفن بسلطان العقل الذي فرضه على نفسه وعلى العمل وهو في ساعة المخاض الحرجة، حين انتقى بعض التفصيلات كعادته وهي هنا آثار الكتابة على المقاعد «ذكرى خالد ذكرى أحمد» مع فارق الزاوية التي ينظر منها، فقد حاكم شاعرنا هذا المعلم من خلال سياق عقلي صارم، ولذلك كادت تصرفه عن عالمه الجديد: «اقرأ تفضلا منك هذا المقطع، وهو الأول من قصيدة «مقعد في أبو خيال»، وابو خيال لمن لا يعرفه احد المطلات البديعة في أبها: وجلستُ.. على ذاااك المقعد. اتأمل آآآفاقاً تمتد أتأمل أبها ما أبها؟ عشقٌ في روحي يتجدد وكتاباتٌ فوق المعقد..: «ذكرى خالد» «ذكرى أحمد» تطر أشعاراً من افقي تقتل أبياتاً لم تُولد العقل لا يعترف بهذه الأمور لأنه يقيس الأشياء وفق قيم مختلفة عن الشعر والفن.. إن الكتابة على الرمل وخط اسم المحبوب على الماء، أو نقشه على جذوع الشجر أو أوراق النباتات مادة ممتازة لعمل مبدع ولكنه ضرب من العبث، وربما السماجة في مقاييس العقل، ومن الظلم حينئذ التحاكم اليه في مجال الفنون، ولهذا جاءت ذات شأن مغاير للحالة هنا، لأنها حضرت أو أُحضرت قسراً وفق نسق وعظي قد نقبله من المصلح الاجتماعي والمعلم ولكنه حتما لا يصلح للشاعر، ولا يحتمله الشعر، لأنه يقوم على رؤية تطوي الرؤية الشعرية او تمزقها، ولقد صدق الشاعر في أنها بذلك تحولت الى عامل إقصاء ونفي للجمال والرغبة في معاقرته «تطرد اشعارا من أفقي.. تقتل ابياتاً لم تولد».. ومن هنا وجد نفسه بعد هذا المقطع تماماً بحاجة لاصطناع دافع مسوغ للكتابة، حتى يتواصل تدفق القصيدة، ولكن الدافع يأبى ان يواتيه إلا من خلال إحساس ضاغط بأنه دافع متكلف، لا سيما حين تعاوده الفكرة نفسها في آخر القصيدة ويتحاكم مجددا للعقل الذي يدعوه للتراجع ولاعتراف باضمحلال المحرك الأساسي للشاعر: وجنين الحروف يناديني: أخرجني.. اهفو أن أُنشد. فالوطن الوادع يدعوني.. ان اتمرد ضد المرقد يدعوني.. ان اخرج حبراً أتمايل في الوزن الأخلد وتركت معانيها تسري.. كي تكشف أسرار المشهد.. ماذا يحوي ذاك المشهد؟ أسرار المشهد آفاق.. فيها اشعاري تتبدّد.
أسرار المشهد آمالٌ أحلامٌ.. تُلهمني.. تُسعدْ......... ماااا أشهى ألوان المشهد لو لا ما كُتب على المقعد هذه الازدواجية تعكر صفو الانسجام في النص، وتبعثر حالة التواصل، بل ربما تعصف بالقصيدة وتلغي وجودها أصلا حين تنجح بتسللها الى جو القصيدة وتحيلها الى نظم.
5 ومن المآخذ ايضا تكرار المحتوى الواحد بشكل مستمر دون محاولة جادة لتقديمه بصفة فنية مغايرة، وربما وصل الامر الى اجترار تعبيرات بعينها، ولا أدري السبب الرئيس في ذلك ولكني انصحه بألا يقع فريسة سهلة لتجاربه السابقة، وبالتالي يصعب عليه الفكاك من أسر تعبيراتها «الجاهزة».
6 ومن المآخذ ايضا ضعف بعض الصور لديه، وهو ناشئ عن أسباب عدّة منها: الخطأ في اقتناص الصورة، او التعجل في تشكيلها والقذف بها وهي خداج لم تكتمل لها مقومات الحياة، او المزاوجة عند عقد الصورة بين مستويين لغويين متباينين احدهما ينتمي الى عصر الشاعر والآخر ينتمي الى التراث، او للتعقيد، اوالثقل في التركيب اللغوي كتوالي الاضافات، او النمطية المفرطة احيانا، مثل الصور التالية: وراء بحار كثبان الجزيرة، سيول شوقي، يصفعني الطموح، آمال المخلص شلالٌ لا يهوي بل يصعد.. يصعدْ، من جبال الفخر أهديك الثناء وأريجاً.. من ربي تيهان قدْ يُسْجَد البحرَ خشوعاً للسماء..، وتذيب الناس في ماء الشعور..، اضحت فصول رواية رقد الكمي بوهمها محفورا، تعود بها الأطياف أوبة مسرع...
7 يقع أحيانا في التعبيرات غير الموفقة، بأن تكون تعبيرات غير صحيحة، او معدولا بها الى الاضعف بدل الاقوى مثلا قوله: يجندل كل قافية يراها فصار له لدى الاشعار ثار احسب التعبير ب«كأنَّ» أولى للمعنى باعتبار ان الشاعر هو الذي يجندل، ولو قبلنا «صار» لا ستوجب البيت ضرورة تعبيرية لا داعي لها!! إذ يكون الثأر حينئذ ليس للشاعر بل عليه، لذا قلنا ان التعبير ب«كأنَّ» اولى للمعنى وللجمال ايضاً... او تكون تعبيرات نثرية، او ذات صبغة علمية بعيدة عن عالم الشعر تماماً!! فمن التعبيرات النثرية التي لا نجد لإقحامها في النص أية ضرورة بل هي اقرب الى النشاز داخل نسيج العمل: «فختمت فخرا مرتين.. حتى ملكت مُليكتي..» ويشبه ذلك ألفاظ العلوم التي تتسلل اليه فتفسد أكثر مما تصلح، كما يبدو ذلك في قصيدته «احتاجك» حيث يقول في المفصل قبل الأخير: احتاجك.. همساً «حجلياً» «أبهيَّ» اللهجة يغريني.. ان الثم اصل مخارجه فأخالط شكي بيقني فعبارة «أصل المخارج» لا يتوقع دورانها إلا بين طلاب العلم عند دراستهم لعلم التجويد، او علم الصوتيات.. إن من الواجب على شاعرنا كي يتخلص من هيمنة تلك التعبيرات والتكرار، الاتجاه الى قراءة الشعر الحديث وتجاربه المميزة لدى عدد مشهور من الشعراء المبدعين، وهم كثر يعرفهم شاعرنا فلا داعي لذكرهم بالاسم.. أخيراً: لقد نجح شاعرنا في تجربة الأولى «أماريق» وأحدث «النتوأة الأولى» التي تمكنه بعون الله من أن يبني عليها كيانه الإبداعي ويستثمر الخصائص الأساسية المميزة في تجربته ويتعهدها بالنماء والرعاية ويسعى بها لتبلغه اقصى مدى إذا صدق مع نفسه، ونحن هنا نؤكد على عنصرين مهمين لم نتوقف عندهما ونعتقد جازمين أنهما مجال فاعلية الديوان القادم، ومجال خصوبة وشاعرية لصيقة بنفس التيهاني، وهما توظيف عنصري: السرد، والرسائل في شعره.
++++++++++++++++++++++++++
* الرياض كاتب وأكاديمي سعودي
++++++++++++++++++++++++++
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved