الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th November,2003 العدد : 36

الأثنين 15 ,رمضان 1424

رائحة المكان
منصور الجهني

في الأوقات المزدحمة بالضجيج، وروتين العمل الممل، كنت أحلم أن أجد ولو بعض الوقت لكي أقرأ شيئاً، أو ربما أكتب، أحلم ان أخرج ولو قليلاً من تلك الدائرة الضيقة التي تلف خيوطها بإحكام، ليس حول أصابعي فحسب، إنما على امتداد هذا المحيط الذي يمكن أن يشكل فضاء للحركة.
حتى مساحة التفكير تضيق، مع تضاؤل الاحتمالات، لماذا النافذة إذن، إذا لم تكن تنتظر خطى قادمة، أو حتى غيمة عابرة؟.
لماذا الانتظار وليس ثمة مفاجآت متوقعة؟
كل شيء معد سلفا، الكلمات التي يجب عليك أن تقولها، الطرقات التي تسلك، الملابس التي يجب ان ترتدي، عليك ان تتذكر دائماً من أنت، ألا تخرج من إطارك، أو من ذاكرة الحواسيب التي تحاصرك.
* * *
هناك من يقضون أوقاتاً طويلة في مقاهي المدن البعيدة، المدن المسكونة بالضجيج والصخب والأحلام، ترى ماذا ينتظر هؤلاء؟
معظمهم خرجوا على المعاش كما يقولون.. هل خرجوا من أحلامهم أيضا إلى اللاشيء؟، حيث الانتظار الطويل، والملل، والذكريات؟.
أحدق في وجوههم، لا أصدق تلك النظرات المحايدة، الجميع هنا جاء لينسى، أو ربما ليهرب، المقهى يشكل ملاذا للجميع على تباين أحوالهم ومستوياتهم، وتوجهاتهم، لا يوجد مقهى للأغنياء وآخر للفقراء للمثقفين وسواهم، لليساريين أو اليمينيين، انه الهامش الذي يتسع للجميع، يمنح كلا مساحة الرؤية التي يريد، للشعراء ان يتركوا ظلالهم هنا.. ويمضون بعيدا خلف سراب الأحلام، للروائيين ان يفتحوا كتاب المدينة.. يقرؤون الوجوه، يتحسسون نبض الطرقات، يصغون إلى أصوات القادمين من أقاصي الحلم.. إلى تعب نهارهم الطويل..، للمنظرين أن يعيدوا صياغة العالم وفق رؤاهم، أو ربما أوهامهم، للمخبرين ان يتلصصوا على الجميع بهدوء تام دون ان يملك أحد حق الاعتراض، انها سلطة المقهى غير المعلنة، والتي يخضع لها الجميع برضا تام.
بمجرد دخولك إلى المقهى ينتابك شعور وهمي انك انتقلت إلى فضاء آخر، تخففت من كل أعباء الواقع وقيوده، شعور وهمي بالحرية التي يتيحها الهامش، أو ربما هي حيادية المكان، التي تجعله مؤهلاً لمحاكمة الواقع بكل سلبياته وتعقيداته، وحتى السخرية منه من خلال إطلاق النكات التي غالباً ما تتخذ طابعاً رمزياً، كنوع من التحايل على صرامة المتن ، الذي قد لا يسمح بالنقد، أو التعبير عن الرأي.
انه يشبه المسرح بالفعل، من حيث قدرته على استيعاب كافة التناقضات، واحتواء مختلف التوجهات والتيارات ضمن فضاء واحد.
كل ذلك يجعله مكاناً مفضلاً بالنسبة لكثير من المثقفين والأدباء حول العالم.. لممارسة الكتابة والإبداع، وتبادل أو سعدي يوسف.
حتى المشردين والصعاليك والمجانين يجدون في هذا المكان، ما يتسع لفوضاهم، يجدون سقفاً بارتفاع أحلامهم الخرافية، وأفكارهم التي تسخر من منطق الأشياء، لتؤسس لغة خاصة، لا يفهمها سواهم.. ربما لأن الآخرين مجانين.. أين نبحث إذن عن عقلاء في هذا العالم المجنون؟!.
تأتي بائعة الورد الصغيرة.. يأتي ماسح الأحذية، ويأتي السماسرة، وتجار المخدرات، وال .... كلهم يأتون.. لكن لا أحد يستطيع ان يصادر هوية أو استقلالية المقهى، انه للجميع ولكنه ليس لأحد، ربما هذا ما نحلم ان يكونه الوطن!!
هذه الكراسي والموائد غير المرتبة، التي تطل على كل الجهات، وكأنها في حوار أزلي مع الكون.. تعطي انطباعاً بالتعددية والانفتاح، وقابلية الحوار والاختلاف، ثمة أكثر من لغة، وأكثر من معنى، لماذا إذن نحرس هذه المرآة الوحيدة.. ونمنع ظلالنا ان تخرج إلى الضوء؟
أنت هنا على حافة العالم، كأنك بين مكانين، أو بين زمانين.. هذا يجعل المقهى شبيهاً بمحطة قطار، أو صالة مطار.. حيث الانتظار مشوباً بالقلق والتطلع لما سوف يأتي، لكنه سفر مختلف هنا.. ربما هو سفر صوفي، حيث تأتي إليك الأماكن، تعبر الأزمنة، وأنت لم تبرح مكانك.
لم تعد معنياً بكل هذا الضجيج، كل هذا التلوث، وكل هذا الجنون العابر للقارات الذي يجتاح العالم.. تمضي بعيداً عبر الزمان.. حيث التاريخ يطل بثقله من خلال الجدران القديمة، من خلال الصور، والديكورات وحتى من خلال وجوه بعض الجالسين الذين داوموا على الحضور منذ سنوات بعيدة.
هناك ما يشير إلى ذاكرة المكان الثرية، ربما ذلك ما يجعل للمقهى هناك طابعاً خاصاً، ثمة نوع من الحميمية في العلاقة، نوع من التواصل بين المقهى ومحيطه، يمكنك ان تستعير ذاكرة المكان، ان تترك ظلك هنا وتمضي بعيداً.. تطل من ثقوب المشربيات القديمة، على مشاهد الدمار التي تجتاح العالم.. هناك يمكنك ان ترتب الأحداث بطريقة ما، ربما خارج سياق التسلسل الزمني، بحيث تختلط مشاهد الدمار والحرائق والجثث الملقاة على الطرقات، فلا تدري أهي خيول التتار الهمجية، أم صواريخ رامسفيلد، وشارون الذكية، لكنك في كل الأحوال تستطيع ان تتبين قامات النخيل الباسقة، والمآذن، والنهر، وأشجار الزيتون، ورائحة الكتب المحروقة.
ومع ذلك يمكنك في هذا الفضاء الأثيري ان تهرب إلى زمن آخر، لتنسى كل هذا القهر، ان تطل على عصر صلاح الدين، لتستعيد بعض الأمل.
لكن محطات البث الفضائي ترفض ان تمنحك حتى هذه الفرصة الوهمية، ففي كل لحظة تغرس في أحداقك صور الموت، وجثث الأطفال المشوهة، لم تعد هناك خصوصية لأي مكان، إنها العولمة كما يقولون، تتسلل حتى إلى المقاهي والأحياء الشعبية.. ومع ذلك تبقى للمقهى هناك رائحته الخاصة، ليست رائحة التبغ والقهوة، إنما رائحة التاريخ أيضا.
الأمر هنا مختلف تماماً، فالمكان يبدل ذاكرته كل مساء، أو كلما فتح صفحة جديدة لحسابات اليوم، كل شيء عابر عنا بدءا من النادل الآسيوي، إلى قهقهات الرواد غير المعنية بأي شيء.. سوى نتائج مباريات كرة القدم، ليس المقهى أكثر من صالة عرض، وليسوا سوى متسوقين يمارسون عاداتهم الاستهلاكية، لا شيء يشير إلى هوية المكان سوى رائحة المعسل و«الجراك» المحترق.
قد لا تكون مفارقة ان تقع معظم المقاهي هنا عند أطراف المدن، وعلى جوانب الطرقات السريعة، تماما كما تقع عادة تجمعات الغجر في كثير من المدن البعيدة.
ثمة نوع من الاقصاء الاجتماعي للمقهى، ربما باعتباره يمثل «ظاهرة» طارئة لا يمكن ربطها بأي ذاكرة جمعية، أو أنماط سلوكية أو تقاليد متجذرة في الحياة الاجتماعية.. خاصة تلك المستندة إلى فضاءات الصحراء والارتحال الدائم خلف المستحيل، لم تكن هناك مقاه ولا حانات.. ومع ذلك قد لا تفاجأ إذا ما لمحت بعض البدو هناك في حانات المدن البعيدة.. بدءاً من امرئ القيس وطرفة وصولاً إلى سليمان الفليح.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved