الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 10th November,2003 العدد : 36

الأثنين 15 ,رمضان 1424

مساقات
د. عبدالله الفيفي
1
إن انفراق العرب في العصر الجاهلي إلي فريقين، فريق يميل إلى فحولة الشعر وأعرابيته، وفريق يميل إلى الهلهلة والليونة والسهولة التي قد تنعت أحياناً ب«التأنّث» ، هو في جوهره انفراق اجتماعي ثقافي أكثر منه فني.
واللافت هنا أن (الشمّاخ) مثلاً الذي لقب بلقبه هذا لشموخه بالشعر؛ حيث كان شديد متون الشعر، أشد كلاماً وأوحش لغة ينتمي إلى آخر أجيال العصر الجاهلي مخضرماً بين الجاهلية والإسلام في حين أن مهلهلاً بن ربيعة الموصوف بالليونة والتأنث ينتمي إلى أول الحقب المعروفة من العصر الجاهلي. ما يدل على أن ما يفترض من تطور تاريخي في اللغة، من الوحشية إلى الحضرية أو من الخشونة إلى السهولة، قد انقلب بين (المهلهل والشمّاخ)؛ من حيث كانت طبائع النفوس ونواميس الثقافة أقوى أحياناً من طبائع العصور ونواميس التطور اللغوي. وهو ما يدل أيضاً على أن الحكم النقدي لا يأتي لدى النقاد خالصاً دائماً لوجه الفن الأدبي، وإن تلبس به، بل كثيراً ما يتأثر بمواقف شخصية، أو اجتماعية، أو عرقية، أو ثقافية، أو ربما حرفية، حال اللغويين في إعجابهم ب«شموخ لغة الشماخ». وهذا التحيز، الذي يعبر عن شخصية الناقد لا عن طبيعة الإبداع ودرجته الفنية، هو ما يحدث، وكثيراً، بين النقاد والمبدعين في عصرنا هذا وفي كل عصر، و«ما أشبه الليلة بالبارحة»!.
2
ومع أن مفهوم «الفحولة» أكثر تعدداً في دلالاته من أن يدرج تحت قسم واحد من بناء العمل الشعري، فإن ما يعني القراءة منه ها هنا ترادفه الجزئي مع لقب (الشماخ) ومن ثم إشاريته إلى ضد ما أشار أليه لقب (المهلهل)، أي إلى لغة جزلة وأسلوب بلاغي لا ليونة فيه ولا تهلهل، وتلك القيمة التي اتصف بها الأسلوب البلاغي لدى من التصق بهم لقب «الفحل» بصفة شخصية، ك(علقمة الفحل، ت. 603)، أو أطلق عليهم هذا النعت من لدن النقاد القدامى، كعموم فحول الشعراء. أما الابعاد الدلالية للقب «الفحل» فتتوزع على عدد من آفاق الرؤية الفنية والثقافية لدى العرب، من حيث كانت (الفحولة)، مبجلة حد التقديس في الثقافة العربية، بما هي أحد أقنومي الخصب في الحياة. ولمّا كان ذلك كذلك ولما لم يكن من غايتنا استقراء دلالات كل لقب في ذاته بمقدار ما نسعى إلى استقراء الجذور النظرية لشعر العرب ونقدهم من خلال الألقاب فسيكون أمراً لازماً العود إلى مناقشة تلك الأبعاد الدلالية للقب «الفحل» في مواطن لاحقة من هذه المساقات حول «ألقاب الشعراء: بحث في الجذور النظرية لشعر العرب ونقدهم».
3
ومن أساليب العرب في إضفاء الألقاب التصنيفية على الشعراء أن يلصقوا الغرض الذي اشتهر الشاعر بالنظم فيه لقباً له، فإذا كانوا ينظرون في أنواع من أنماط التقليب إلى كامل تجربة الشاعر، فإنهم ينظرون في هذا النوع إلى المعنى الذي تدور حوله معظم نصوص الشاعر. فمن ذاك لقب (كعب الأمثال). وهو لقب أطلق على الشاعر (كعب بن سعد الغنوي، ت. 612م)؛ لكثرة ما يورد في شعره من الحكم والأمثال. ولعلّ هذا اللقب لا يخلو من نقد ساخر؛ للمثالية المفرطة التي يعبّر عنها شعر كعب ولا تتفق من نقد ساخر؛ للمثالية المفرطة التي يعبّر عنها شعر كعب ولا تتفق مع واقع الحياة وطبائع الأشياء. كأنما في هذا تعليق ضمني على الشاعر حينما يتقمص شخصية العاقل الحكيم فيسقط بين لغتين، لغة المنطق العقلي ولغة المنطق العاطفي التخييلي الشعري، فإذا هو لا يرضي بعمله الشعر ولا يرضي بعمله الحكمة. ليكون عندئذ كالغراب، سيىء الذكر حتى وهو يسعى إلى تقليد الحمام! ولهذا أفردوا كعباً الغنوي بهذا اللقب دون سائر حكماء العرب من الشعراء، وفي أشهرهم (زهير بن أبي سلمى). ويؤكد على هذا ما يورده (المرزباني، (1960)، معجم الشعراء،. تح. أحمد فراج، (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية)، 341، حول كعب الغنوي، إذ يقول: إن بيتيه:
اعص العواذلَ وارمِ الليل عن عرضٍ
بذي سبيبٍ يقاسي ليله خَببا
حتى تموّل يوماً أو يقال فتى
لاقى التي تَشْعب الفتيان فانشعبا
قد غرّا خلقاً كثيراً؛ يتمثل بهما الرجل ثم يمضي على وجهه، فيُقتل ألفٌ قبل أن يتمول واحداً.. ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
وكأن قد كُتب على الشاعر إذن أن يظل عاطفياً حتى وهو يتكلف العقلانية والحكمة! فهل حقاً كان المتنبي مثلاً حكيماً، كما يحلو لنا نحن، أمة العاطفة والشعر، تلقيبه ؟! أم أن للحكمة الشعرية أحكامها، التي لا تختلف عن «الحكمة الإعلامية العربية» في عصرنا الراهن، حيث يساق أناس إلى حتف أنوفهم سوقاً عبر وسائلها، وعلى الهواء والأهواء مباشرة؟!.
الإجابة لدى (المرزباني)، ولكن بتحويل نموذجه (الشعري) إلى نموذجنا (الإعلامي)!.
وبالعودة إلى ألقاب الشعراء يتبين أن من الألقاب الشعرية نوعاً ينطوي على استحسان عمل الشاعر وآخر ينطوي على استهجانه، ما قد يصل في بعض الألقاب إلى مستوى نقدي لاذع في تعريضه بالشاعر وفنه، كما سيتبين في مقالات لاحقة.
قطوف
قد يبسم الوجه الكريم.. وقلبه يتفصَّدُ
قد يرقص الطير الذبيح.. إذا دَنَتْ منه يدُ
الموتُ يخنقُه ويُسْرف في الغناء ويُنْشِدُ
الشعر، صاحبه كئيبٌ بالوجومِ مقيَّدُ
هي حكمةٌ دوَّى بها ذاك المجلجل «أحمدُ»
عبر القرونِ شهيدةٌ أن الأسى لا ينفدُ
يشقى الأريبُ وذو الجهالة في الشقاوةِ يَسْعَدُ!!
وإذا كان الشاعر قد يستحيل إلى قصيدة من قصائده، بل ربما إلى بيت من أبياته، كما تقترح ألقاب الشعراء لدى العرب، فإن (بدر عمر المطيري)، في نبضه الأول بعنوان «للحب أكثر من معنى» (النادي الأدبي بمنطقة حائل: 1423ه)، يؤكد ذلك حين يراوح في شخصيته بين صوتين يتداخل معهما بحميمية، صوت رومانتي، يذكرك بعبدالله الفيصل، مثلاً، كما في قصيدته «احتراق»، وصوت فحولي يلوب حول نبرات أبي الطيب، وقد حملت مجموعة المطيري أكثر من نص شعري يتعلق بأبي محسد، وعلى الرغم من أن الشاعر قد يعمد في بعض نصوصه إلى توزيع النص على بياض الصفحة كما فعل بالنص السابق في مجموعته، وكأنه قصيدة تفعيلية إلا أن ايقاع العروض لديه يغلب ايقاع البياض. ليشفّ في النهاية عن صوت شعري أصيل، تغنيه حقيقة الشعر وأصالته عن شكلانية الكتابة وتقاليدها. تسليماً بأن الحب آخر الأمر أن يهب ب«أكثر من معنى» في أكثر من مبني!.
++++++++++++++++++++++++++
aalfaify@hotmail.com
++++++++++++++++++++++++++
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved