الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th April,2005 العدد : 101

الأثنين 2 ,ربيع الاول 1426

صورة وصدى..
عبدالعزيز بن عبدالله السالم

فيما يشبه الهمس الصامت، أو الإشارات العابرة بدت لي لمحات مغلفة بضبابية تنطوي على عدم البوح بسر لن يطول أمده، ومن طبيعتي عدم الإحراج، لذا طويت جوانحي على ما ستحمله الأيام القادمة من حل لهذا اللغز الذي دار حولي، وإذا بي أخيراً أجد مفتاح اللغز في تنويه حملته هذه الصحيفة في عددها الصادر بتاريخ 1621426هـ بأن مجلة (الثقافية) ستحتوي على ملف عن كاتب هذه السطور.
***
اطلعت على (الثقافية) في إصدارها بتاريخ 1821426هـ وقد تفضل الإخوة الكرام المشرفون على هذا الملحق الثقافي بأن أكون ضيف هذا الإصدار.. وعلى قاعدة: (وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها).. ولأني قد لا أبلغ رد التحية بأحسن منها فانه لا يفوتني أن أردها بمثلها، وفي ظل هذا الاعتبار فاني أُعرب عن بالغ شكري الجزيل لهذه الكوكبة المثقفة المشرفة على الثقافية وعلى رأسها رئيس التحرير.. كما أُعبّر في الوقت نفسه عن وافر تقديري للإخوة الأعزاء من فرسان الكلمة الذين تحدثوا عن أخيهم فأحسنوا به الظن حين رأوه بعين الرضا.
كما انعكست هذه النظرة على نفوسهم الصافية ورؤيتهم الأخوية الوضيئة وعواطفهم النبيلة.
وقد رأيتُ أن من المناسب أن أُبدي مشاعري عن صورة الكاتب لدى أصدقائه وصدى ما كتب. كما هو في ذهني وفي واقع الحياة كما عشتها، وهي في ذاتها تشكل ملامح تجربة ربما عايشها عديد من الكتاب.
***
يولد الانسان فرداً محتاجاً إلى سواه مستعيناً بغيره، ثم ينمو مع امتداد الزمن حتى يبلغ من العمر المرحلة التي يعتمد فيها على نفسه ويستطيع أن يشق طريقه دون وصاية من أحد عليه، ويكون بذلك قد تفتّحت آفاق فكره على أبعاد هذه الدنيا واسعة النطاق.
وفي هذه المرحلة العمرية تتولد عنده الرغبة للعمل على بناء مسيرته في المجتمع الذي يعيش بين أفراده، والإعداد لحياته المستقبلية.. وفي هذا السبيل يجند قدراته ويستنفر طاقاته، ويتجه بجميع أحاسيسه ومدركاته نحو بناء مقومات حياته، ولا يفكر فيما قد يواجهه من متاعب أو يصطدم به من صعوبات.. ما دامت الرغبة تحدوه والحافز يلح عليه والموهبة ترفده.. ومعلوم أن المواهب تكمن في ذاتية الفرد فهو ينميها أو يهملها بحسب نظرته اليها وإحساسه بها وتعهده لها واهتمامه بتفعيلها. ومن خلال هذه العوامل يتسنى تجسيدها في عمل معين أو في توجه محدد فكرياً كان أو مادياً.
وتتبين مواهب الفرد منذ بداياته الدراسية، وتبعاً لميوله تتحدد توجهاته، وتبدو معالم حياته من خلال خطوط رئيسيه يرسمها لمسيرته بغير قصد منه، وانما تنبع من ذاته استجابةً لمشاعر تهجس بها نفسه وتتبناها رؤيته، وهو يستوحي كل ذلك من الرغبة الكامنة فيه والحافز الدافع له، وفي ضوء هذا المسار ينطلق وراء الهاجس الذي يلح عليه والتوجه الذي يرتاح اليه، وفي ظل هذه الصورة تتكون معالم شخصيته التي تقوده الى ممارسة العمل الذي يتفق مع ميوله ويلتقي مع توجهه ويلبي طموحاته ويواكب تطلعاته، ويتناسب مع وضعه النفسي الذي يستجيب للإلحاح الذاتي في داخله، بصرف النظر عن العلم الذي يتخصص فيه، او المؤهل الذي يحمله.
والموهبة وحدها لا تفيد إذا لم يصاحبها كفاح وتوفيق، فقد تجري الرياح بغير ما يريد الموهوب، فيصاب بالاحباط والتراجع مما يؤثر على مساره، فلا يستأنف الصعود بعد الهبوط، ولا تنفعه موهبته لأنه لم يحسن استغلالها ولم يكافح لابرازها، والحياة ميدان كفاح ونشاط ومن تخلف عن مواكبة قافلة الكفاح والمثابرة على تحقيق النجاح، فإن موهبته تتلاشى تحت شمس الحقيقة فيصبح نسياً منسياً.
***
وبالنسبة لمن يملك موهبة أدبية وينشغل بسواها فانه يجني على موهبته لا سيما ارتباطه بالوظيفة التي تستبد بوقته، فإنها تصبح قيداً على حريته الثقافية، فتقيد عطاءه الأدبي لأنها تستهلك الكثير من وقته فلا يبقى له من هذا الوقت سوى أمشاج ضئيلة، يطويها مرور الزمان لصالح الوظيفة لا لمصلحة الثقافة، والكاتب الذي يتحرر من سلطة الوظيفة وسطوتها: يستطيع التفرغ للإبداع في انتاجه، لأن طبيعة الوظيفة أنها تستدرج الأديب للتفاني في وجاهتها وسلطتها، فلا يجد وقتاً لممارسة العمل الفكري انشغالاً بالعمل الرسمي، وربما تلوح في ذهنه فكرة مبتكرة او تستفزه كتابة معينة فيكتب تحت توهج ما دار في ذهنه، ولكن سرعان ما تلتهم الوظيفة وقته فلا يتبقى له من الوقت سوى لمحات باهتة لا تحقق غايته ولا تلتقي مع رغبته، والخاسر في ذلك هو الكاتب.
***
والانسان لا يملك عمرين: عمراً ينفقه في وظيفته وعمراً يمارس فيه هوايته، ولذلك عليه أن يختار وربما يحتار في التوفيق بين العمل الوظيفي والعطاء الفكري. أما بالنسبة لي فلو خُيّرت لما احترت، سوف أختار ممارسة هوايتي الأدبية، مكتفياً بما قدمته من خدمة في الدولة، أنفقت فيها كل قدراتي وزهرة شبابي وحيوية كهولتي، وعلى أن اختم حياتي الى نهاية الأجل على قاعدة: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.
ولمن لا يعلم فأنا لا أحتفظ بأي شهادة من مؤهلاتي الدراسية في جميع المراحل، من الابتدائية حتى الجامعية، وقد تجاوزت نصف قرن من خدماتي لم تكن الشهادة تمثل أياً من اهتماماتي، هذه نظرتي اليها وقد تكون هذه النظرة مني لما يحرص أكثر الناس عليه مما قد تحتاج الى تفسير، وإليكم التفسير:
***
حينما تخرجت من قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب بجامعة القاهرة كنت قد حصلت على تقدير يؤهلني للدراسة العليا التي كانت مناط طموحي للحصول على الماجستير والدكتوراه، والذي رشحني لهذا الطموح أن جامعة الملك سعود في بداياتها كانت تستقطب المتفوقين من الخريجين الجامعيين من البلدان العربية ومن مصر على وجه الخصوص، وكنت أعد نفسي لهذه المرحلة من الدراسة حتى إني طلبت من الكلية تزويدي بوثيقة تخرج، تشمل الى جانب تقديري درجاتي في المواد التي درستها في الكلية للتقدم بها إلى احدى الجامعات في بريطانيا، وتمت ترجمة هذه الوثيقة إلى الإنجليزية والمصادقة عليها من كلية الآداب وأصبحتُ مُهيئاً نفسياً وتأهيلياً للابتعاث الى هناك، ولكن كما قال فيلسوف الحياة الحكيم ابو العلاء المعري:
تقفون والفلك المحرك دائر
وتقدّرون فتضحك الأقدار
وقد دار الفلك ولم تشملني دورته، وكان للقدر مني موقف مماثل، فتبخرت الأحلام الوردية وتلاشت الآمال الشبابية، وكانت العقبة التي حالت بيني وبين تحقيق طموحاتي: هي الوظيفة التي قبلتها على أساس مدة عام أو عامين ثم أُبتَعث، وطواني التيار الوظيفي الصاخب حتى نسيت نفسي وأهملت طموحاتي، فوجدت أني تِرس يدور في جهاز يُدار، ومرت الأعوام سريعة مجهدة وهي تأكل من شبابي وتقتات من عافيتي وتحسم من عمري وتقبر تطلعاتي، فوجدت أني سأظل طيلة العمر سجين أسوار هذه الوظيفة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وأني قد وقفت أمام طريق مسدود، وحينذاك أدركت أن الدراسة العليا باتت مستحيلة فمزقت الوثيقة التي كنتُ أحتفظ بها كوسيلة الى الابتعاث الخارجي وأهملتُ الشهادة التي تربطني بالدراسة الجامعية، فأصبحت بلا وثيقة مكتوبة ولا شهادة منظورة، ولو تطلب الروتين الحكومي إبراز شهادة تؤكد أني جامعي، فأنا بلا شهادة سوى شهادة أن لا إله الله محمد رسول الله: هذه الشهادة التي عليها أحيا وعليها أموت وعليها أُبعث إن شاء الله.
***
ومن المصطلحات الفقهية مصطلح (الاستفاضة) وهي تعني: إذا فاض الخبر واستفاض أي ذاع وانتشر، وحديث مستفيض أي منتشر في الناس، والاستفاضة كما جاء في بعض الاقوال الفقهية أقوى من خبر الثقة وقد يُغني عن البينة، والمستفيض هو ما رواه ثلاثة فصاعدا وأقل ما تثبت به الاستفاضة اثنان، ومن هذه الاستفاضة أني درست أربع سنوات في مصر حسب سجلات البعثة السعودية هناك، فهل جامعة القاهرة لا تزال تحتفظ بشهادات الذين لم يسعوا اليها للحصول على شهاداتهم، أم أنها أتلفتها بحكم تقادم الزمن؟ ذلك أنني لم أهتم بالاحتفاظ بشهاداتي وأنا في نضارة الشباب. فكيف ألتفت اليها وقد أمسيتُ في خريف العمر وعلى عتبة الوداع؟!
فهل يكون الجواب على هذا السؤال لصالح موظف وجد نفسه بلا شهادة عندما أصبحتْ آماله محصورة في توديع الوظيفة يرى خطوط المشيب ترسم شهادتها على شَعْره، وتجاعيد الزمن تذكره بالماضي الدنيوي وتدعوه إلى الاهتمام بالمستقبل الأُخروي، ومِثلنا مما يحتاج الى التذكير بحتمية المصير لا سيما من كان منا مثلي يتعثر في خطوات الشيخوخة، ومن آثار هذه الذكريات أنها فتحت في داخلي هذا النزف الذي ترونه مسطوراً على هذه الصفحات.
وأسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعاً حسن الختام
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved