الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th April,2005 العدد : 101

الأثنين 2 ,ربيع الاول 1426

هل كان العواد تنويرياً.. ثورياً.. أم (ظاهرة)
سهام القحطاني
قد يقول قائل.. ليس من حقنا أن نحاكم (المواقف الفكرية)، بتاريخ يسبقها أو يلحقها، والأمر قد يكون صحيحاً، إذا لم نقحم تلك المواقف في أثرها على لاحقها، أو (هكذا أظن).
قبل قراءتي لكتاب (خواطر مصرحة) لأستاذنا رحمه الله العواد، لم أقرأه من منظور أنه كتاب تنويري، بل كانت قراءتي طوال الوقت من منظور (شكيّ).. هل هو كذلك.. أقصد يمثل شرارة أو مجموع شرارات تنويرية.. و(لماذا)؟
كما أعتقد أن النار ذات وجهين، إما أن تضيء فتزيل الظلام، وإما أن تحرق فتراكم فوق الظلام ظلمات أُخر، وذلكم يحتاج إلى ضبط لمنسوب درجة الاشتعال، وأستاذنا (العواد) رحمه الله، قد (أخفق) في ضبط درجة الاشتعال، فأراد الضوء لكنه جنى ظلاما..! (هكذا أحسب).. وإنصافا لأمره، أقول ليس بمفرد المبدع أن يتحمل دفع الضريبة، بل المجتمع أيضاً، (فالفرد يدفع ضريبة اندماجه الاجتماعي، وكلما كان المجتمع مختلاً في نموه، ارتفعت قيمة الضريبة) كما يقول الفيلسوف الإسلامي مالك بن نبي، لأن فكرنا ومعرفتنا للأشياء تحتمهما الأوضاع الاجتماعية والتاريخية التي تحيط بنا، وهو أمر ضروري أثناء السعي لإنتاج مجتمع، أي التكوين الكلي للحقيقة الاجتماعية، القادرة على خلق تكوين الوعي الاجتماعي، وإيجاد حركة من التنظيم والتحسين والإصلاح، وهذا لا يتم إلا إذا تبلورت فكرة الإنتاج من خلال (مشروع ثقافي) أي فاعل اجتماعي جمعي، يمثل قوة ديناميكية اجتماعية، لا مجرد نشاط ثقافي لمجموعة من الأفراد، وهذه من أهم الإشكاليات التي تواجه الثقافة السعودية على العموم، أننا منذ زمن العواد وحتى زمن شيخنا الغذامي عجزنا عن تكوين أي مشروع ثقافي منتج لأي خطاب نهضوي، وهناك إشكالية أخرى تواجه المثقف الذي يتبنى هذا النوع من الثقافة المتعلقة بتغير الأنسقة الاجتماعية، مشكلة التصادم مع السلطة، وخاصة السلطة الخفية (العقل الجمعي)، ولا ينتج المثقف موقفاً مؤثراً في هذا النوع من الثقافة إلا إذا كان يمثل مستوى ما من مستويات السلطة، وكون المثقف لدينا خارج نطاق سلطة القرار أو التأثير الثقافي، تظل مواقفه مهما بلغ بريقها النظري، فاشلة على تحقيق أي تكوين للوعي الاجتماعي.
عندما قرأت كتاب (خواطر مصرحة) تساءلت ماذا يريد العواد من هذا الكتاب، في مقدمة الجزء الأول، ذكر أن هدفه (الإبداع والخلق) إبداع الواقع وخلق المستقبل عبر طريقة الكتابة، وطريقة التفكير، وحدد لهذه المهمة ولاة الأمر وحملة الأقلام الجريئة.. أي كما ذكرت سابقا إنتاج تكوين كلي للحقيقة الاجتماعية، محدداً آليتها وأدواتها، خاصة أنه تنبه إلى دور السلطة في تفعيل هذا الإنتاج، ولعله كان يأمل من السلطة المشاركة في تغير المجتمع، لكن كما هو معروف أن أي سلطة تخاف من مشاريع التغير للعقل الاجتماعي، خاصة إن كانت السلطة مازالت في بدء التكوين، ولا أنكر أن تفكير العواد بهذا الشكل شرارة تنويرية أطفئت في مهدها، فظلت تحفظ له ريادة الثورة، لأنه لم يخلق من أفكاره مشروعاً نهضوياً، أو قل لم يصرّ على إنتاج مشروع نهضوي، لأن هدفه كان هدفاً آنياً، أو لعلها فورة الشباب، التي دفعت العواد إلى فوهة الثورة، لا إلى سفح التكوين، وشتان ما بين البداية من القمة، والبداية من السفح،
فأولهما بناء من الرأس، وثانيهما تأسيس للأصل.
إن قصدية العواد من كتاب خواطر مصرحة قصد ثوري لا تنويري، فنجده في خاطرة (من نافذة الخيال) الجزء الأول، في حديثه مع (هزازة) يعلن أنه أي الكتاب (تكوين ثورة فكرية، هي ثورة الجديد على القديم، والحرية على التقليد) إذن مقصده مقصد ثوري لا تنويري، ولا أعتقد بإمكاننا أن نؤول كلمة الثورة عند العواد، بمعنى التنوير، لأن العواد شاعر متمكن، عندما يستخدم أي مفردة، فهو ضابط لمسافات الانزياح التي تتحرك في محيط ناتج الأثر، فهو أراد الثورة بمعنى الثورة، لا التنوير، وهناك شيء آخر، هو تقييم العواد نفسه لخواطره في الجزء الأول فهو يرى أنها تحمل (طابعا عاطفيا تغلب عليها الارتجال) وإن كنت أظن أنه قسا على نفسه بهذا الوصف، الذي يحول أفكاره إلى أشبه بخربشات المراهقين لدينا اليوم فوق جدار مدارس البنات، فأفكاره تلك وفي ذلك العهد رغم كل شيء، ممثلة رسمية عن شجاعة وجرأة فتى هزّ عرش العقل الجمعي، وإن لم تصل درجة الاهتزاز إلى فعل الزلزلة بمقياس التكوين وإعادة إنتاج كلية الحقيقة الاجتماعية، التي بنى العواد أفكاره على قاعدتها.
أما الجزء الثاني من خواطر مصرحة، فكان الاختلاف واضحا بينه وبين الجزء الأول، وإن كانت المقارنة بينهما ظالمة للعواد، خاصة في ضوء غياب ضوابط هذه المقارنة، من حيث نضوج السن والتجربة الخاصة ومستجدات التجربة الاجتماعية والثقافية، وهذا ما جعل أفكار الجزء الثاني تبتعد عن زيّ الثوريّة والتمرديّة، فغلب (عليها طابع التفكّر والتأمل)، وحينها تتلمس بين سطورها روح انهزامية، أو لعل طابع التأمل الروحي الشفاف هو الذي يوحي لقارئ هذا الجزء بفكرة الانهزامية (ذلك جائز)، لكن المؤكد أن هناك تراجعا عن الهوية الثوريّة التي اتصفت بها أفكار العواد في الجزء الأول، ولا أدري هل الثوري يجب أن يظل ثوريا، أم أن الثورية مستوى ظرفي؟ أو أنه اليأس كما ذهب إليه أستاذنا الغذامي سبب هذا الانكفاء والارتكاس.. والهروب عن المنطقة الثورية، أم أن الأمر كله منذ البدء كان مجرد فورة شبابية، لشاب ذكي قرأ فتأثر، فحاول أن يطبق الأفكار العظيمة داخل نسيج اجتماعي متهالك لم يستعد بعد لخوض معركة ضد التخلف والتحجّر؟ وهذا أمر مهم فالأفكار الثورية لا تستطيع أن تبني خطابا تنويريا خارج إرادة المجتمعات واستعدادهم لذلك، وحتى على مستوى نبرة اللغة بين الجزأين، لو تأملناها، لاستنتجنا درجة الانكفاء ما بين لغة الثورة في الجزء الأول، ولغة اليأس، وإن كنت أحبذ استخدام لغة (التعقل) رأفة بأستاذنا رحمه
الله، أقول نستطيع أن نستنتج ذلك من خلال خاطرتي (من نافذة الخيال) مطلع الجزأين، فالساحرة (هزازة) في الجزء الأول هي ملهمة الثائر ثورته، يقول (رأيت في إحدى يديها مشعلاً نارياً، وسيفاً مسلولاً يبرق يضيء ولكنه يرسل شرارة.. مشعل من النار لأننا في ظلمات، وسيف الحرب لأننا في بدء تكوين ثورة فكرية هي ثورة الجديد على القديم والحرية على التقليد).. وفي الجزء الثاني أصبحت هي مضمّدة انكسارات الثائر المنهزم يقول (جاءت تقدم لي هذه المرة (قيما) مكلومة وأعطتني مباضع ومنبهات وأدوية)، إن السقوط من القمة للسفح مسؤولية يتحملها المجتمع المتخلف أولا ويدفع ثمنها المثقف.
هل كان العواد مصلحا.. تنويريا.. ثوريا.. مبدعا.. ستقولون جميعهم، وحسبما أظن أن الاعتقاد بالجمع المتعاطف لجميع تلك الأخبار، هي إشكالية العواد رحمه الله مع نفسه وإشكاليتنا الآن معه، وهذه التعددية التي حاول العواد أن يمارس تفريغ حمولاتها، أفقدته عمق الرؤية وتمركزه حول نواتها ليبذرها بطريقة صحيحة، لذا قال عبدالوهاب الآشي مقيّما خواطر العواد (فإنها وإن لم تكن عميقة غير أنها تستهوي القارئ، بما فيها من نظرات صائبة محكمة في الصتميم، وحقائق تؤلم العاملين والمترفين والمنافقين) إذن التأثير الوجداني للخواطر على القارئ كان آنياً، أو كانت تهدف إلى الوعي الآني، لا بذر الوعي المستقبلي، وإن كانت عمليتا الوعي الآني كتطهير والوعي للمستقبل كتكوين كلتيهما ضرورة تنويرية، فالعواد وقع بصورة غير مباشرة في الاعتقاد أن التنوير ينطلق من قيم الفرد، وهو ذات الخطأ الذي وقع فيه أستاذنا الغذامي عندما أراد أن يفرض مشروعه الحداثوي على المجتمع.
هناك بلا شك فرق بين المشروع التنويري والمشروع الثوري في الثقافة، المشروع التنويري مشروع إعدادي فكري، والمشروع الثوري مشروع إجرائي تغيريّ، والمشروع النهضوي في حياة المجتمع كمرحلة أخيرة يسبقه مراحل تراتبية، ولو قرأنا خواطر العواد في ضوء هذه التراتبية، سنلاحظ أن سبب الخلخلة في المشروع (التوعويّ) للعواد وهي صفة أفضلها أقصد (التوعوي) على صفة (التنويري)، تسابق مرحلة قبل مرحلة، أقصد تقدم مرحلة الثورة قبل مرحلة التنوير.
فالتنويري لا يبني منهجه على قاعدة الرفض بل (يحلل ويناقش ويمنطق) ويدخل دهاليز العقل الجمعي ويفككه، ومتى استطاع التنويري أن يتسرب بهدوء داخل منظومة العقل الجمعي دون أن يصطدم مع مألوفاته، ويستطيع التحرك بسلامة ضمن تلك المنظومة مفككا ما أراد تفكيكه معيدا تراتبيته، نجح في تمهيد البياض القابل لاستقبال الثورة والمشاركة فيها، وغير ذلك فهو عبث من الهذيان أو (هكذا أظن)، أما الثوري فهو من يبني منهجه على قاعدة الرفض فقط، إن الاختلاف ما بين الثوري والتنويري ليس المنهج بل القاعدة المبنية عليها المنهج، فهما مشتركان في المنهج مختلفان في القاعدة..
والعواد أراد أن يكون ثورة سوداء.. دون أن يتنبه أنه يمارسها داخل مقبرة سكانها من الموتى، لأن العقل الجمعي رافض مسبقاً منهجه، وأظن أن العواد وقد أدرك هذا الأمر ذاته، عندما وصف خواطر مصرحة في الجزء الثاني بأن طابع التفكّر والتأمل يغلب عليها، وهذه قاعدة بيانات مهمة تحمل إرهاصات التنوير، لكن يبدو أن إدراكها جاء متأخرا عند العواد.
لذا أنا أؤيد ما ذهب إليه أستاذنا الغذامي أن العواد غاية ما وصل إليه هو الشكل الظاهري لقضية التجديد، وإن كان أستاذنا الغذامي في مشروعه الحداثوي وقع في ذات إشكالية العواد إذ إنه مارس التجديد كذلك خارج الأنسقة فتساوى مع العواد في المحصول النهائي أو (هكذا أظن)!
عندما نناقش الأثر التنويري للعواد كما يزعم الكثير وسبق أن ذكرت فيما مضى أنني أفضل (الدور التوعوي) للعواد بدلا من التنوير، عندما نقول (أثر) خواطر مصرحة، فالمقصود بالأثر، هو حاصل الفعل الإجرائي، وهذا لم يحدث، أو (أعتقد ذلك) إذ إن التغييرات الاجتماعية (الشكلانية) التي حدثت متوالية بعد خواطر مصرحة هي تغييرات كانت ستتم حتمياً سواء وجدت صرخات خواطر مصرحة، أو لم توجد، لأن الدولة السعودية الوليدة في ذلك الوقت كانت تخطط لمواجهة تحدي الحضارة، خاصة بعد أن أصبح المجتمع السعودي مجتمعا مفتوحا على أثر اكتشاف البترول، وعندما طالب العواد بحقوق المرأة في المجتمع، كانت الصيحة تضج في السعودية وفي مصر وسوريا وحتى الغرب، أي أن الفكرة العامة مطروحة في الطريق يعرفها البدوي والقروي، ولا مفازة في الشاسع العمومي.
لقد طالب العواد بحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والإنتاج وقيمة العمل ونظرية تحويل النقد إلى راس مال للاستفادة منه كما قسم دخل الطوافة وحول هذا الداخل إلى تشيؤ، أي في صورة شيء يخلق العمل ويطور أفكاره والقضايا الوطنية وقضايا الأمة والتعليم وجميعهم أفكار مطروحة في الشاسع العمومي أيضا، وكون العواد كان قارئا للثقافات الأخرى، لا شك أنه أدرك أنها ثورة إنسانية عامة في ذلك الوقت.
للأفكار التنويرية مظهران: أولهما: إنتاج خطاب ثقافي يحمل ملامح هذا الفكر التنويري وهذا ما لم يحدث، فالعواد لا يمثل لدينا سوى ظاهرة أو نشاط، لم تنضج لتصنع خطابا، ثانيهما: أن نجاح المشروع التنويري في أي مرحلة يعني أنه استطاع على تمهيد المرحلة اللاحقة بعده لقيام مشروع تنويري آخر، أي قبول تراكم مشاريع تنويرية متلاحقة، وفشل مشروع الدكتور الغذامي الحداثوي، يعني أن مشروع العواد التنويري، ففشل اللاحق يعني فشلا للسابق في التمهيد، وفشل السابق في التمهيد يعني أن الأفكار التي قام عليها ما هي سوى رؤية ونشاط ثقافي لصاحبها، أو أفكار ارتجالية عاطفية كما وصفها العواد نفسه.
وأخيرا.. لاشك أن العواد ظاهرة إبداعية، يصعب تكرارها.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved