الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th April,2005 العدد : 101

الأثنين 2 ,ربيع الاول 1426

مساقات
نَقْدُ القِيَم
14
(الفرق بين التذكير والتفكير )
د. عبد الله الفَيْفي

من الغريب أن تتحدّث (موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية)، (الرياض: دار رواح، 1421هـ 2000م)، عن أنها قد قدّمت (اختيارات نموذجية تتنخّل من التراث أطيبه، وتنتقي أقربه إلى ذوق الناشئة وحاجتهم، وتتلمّس ما يرونه صالحاً للحاضر ومفيداً للمستقبل) (1: 23)، وكأنما قد تلمّست بالفعل حاجات الناشئة، واستفتتهم في مايرون، ودرستْ نفسيًّا واجتماعيًّا ما يُصلح شأنهم في حاضرهم ومستقبلهم! في حين أن ما طرحته من قِيَم إنما اتكأتْ فيه على ماهو قارٌّ سلفاً في الأذهان، وما يؤيّده مما استخرجته من بطون الكتب وخزائن التراث، كما ذكرتْ هي من قبل! أي أن دورها كان بمثابة إنتاج نصّ أدبيّ جديد موسّع على النصّ العربي القديم المشتّت، بل بالأصح تجميع ذلك الشتات في صحائف ومجلّدات عديدة. وإذا كانت قد وُجدتْ في التراث العربي الفصيح تلك المدوّنةُ المطوّلة عن المثاليات والقِيّم، فإن نظائرها لمنبثة في التراث العاميّ في كل مجتمع، جُمعتْ أم لم تُجمع. أي أن دور التذكير في هذا العمل قد بدا غالباً على دور التفكير.
والوجدان العربي، بمستوييه الفصيح والعاميّ، حافل بتلك القيم سواء أمارسها الإنسان في حياته أم لم يفعل، لكن السؤال: هل تلك القيم التي يعيها عمل بها أو لم يعمل ماتزال صالحة للحياة أم أنها قد فارقت الحياة؟! وهل صورتها الذهنية في الأساس صحيحة أم أنها مختلفة، لأسباب تغيب عادة عن نموذجية النصوص التي حملتها؟ وهل تلك القيم تنبعث من واقع الحياة المعيش أم أنها تُبتعث من ذاكرة النصوص فقط؟ ثم هل تمكن المراهنة على الاكتفاء الذاتي القيمي، أم أن القيم تنتقل من ثقافة إلى أخرى، وتعيش وتتناسل، ثم تنقرض لتتجدّد من جيل إلى جيل؟
تلك أسئلة تثيرها (موسوعة القيم ومكارم الأخلاق)، لا بما جمعت من مادة فحسب، ولكن بما تبنّت من أحكام تغلب عليها القطعية، ورؤى تسودها النزعة الواحديّة.
إن دور (موسوعة القِيَم) الرائد بلا ريب لا يتمثّل في تلك الأحكام التي تضمنتها، والقابلة للنقاش والجدل، بمقدار ما يتمثّل في دورها الذي عبّرت عنه ب(عملية نخل التراث الأدبي) لاستخلاص القِيَم. لتكون تلك المادة الغزيرة التي جمعتها لأول مرة ميدان نقدٍ جادّ للقيم العربية والإسلامية. إذ يبدو أن ما استندت إليه من التراث الأدبي هو بيت الداء في التصوّر والسلوك؛ لما كان هنالك من انفصام بين ذلك المستوى المثاليّ الذي يحمله النص الأدبي، وذلك المستوى الواقعيّ الذي عاشه ويعيشه الناس، فلا الأول أمكن تنزّله في الواقع، ولا الآخرأمكن رفعه إلى المثال.
ولو أُخِذتْ قيمة (الكرم) على سبيل المثال، بوصفها قيمة عربية بامتياز، لتبين أنها قد تحوّلتْ بما أنها قيمة شعرية بالدرجة الأولى إلى مشكلة قيمية، تحيلها من قيمة إيجابية إلى قيمة سلبية. حتى لو اقتدى إنسان بالشعر في ممارسة الجُوْد لكان إلى السَّفَه أقرب منه إلى الجُوْد، ولانتهى به الحال إلى مضاعفات أسرية واجتماعية واقتصادية. فيما لو أمكن له ألا يتأثّر بالشعر لربما أدّاه الواقع إلى شُّحّ وإمساك.
ولعل هذا ما أراد له الإسلام معالجةً في النفس العربية حينما دعا إلى التوسّط بين الكرم والسَّرَف: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا}(سورة الإسراء:29)؛ {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (سورة الفرقان: 67).
وبذا فإن قيمة الكرم نموذجٌ دالّ على ما تؤول إليه القِيَم حينما لا تُخضَع لقانون الزمن والتطوّر، ولا تُجرّد عن شعريتها. ذلك أن المجتمع العربي ظلّ إلى اليوم يتبنّى قيمة الكرم، لا بمفهومها الإسلاميّ في الغالب لكن بمفهومها الشعريّ الزائف. وهو يفعل ذلك وفي ذهنه أصداء قصائد المديح لكرماء العرب، لا نُبْلاً غالباً ولا حُبًّا في الصِّلَة والإيثار. بل ربما وظّف العربيّ الكرم سلاحاً ضدّ الضيف أحياناً، إحراجاً، واستعلاءً، وكسباً للصيِّت على حسابه. في حين يمكن القول اليوم إن القيمة الحقيقية النظيرة للكرم حسب مفهومه القديم هي قيمة (حُسْن الاقتصاد والتدبير). وقس على هذا كثيراً من القِيَم الأخرى.
إن الموسوعة على الرغم من إضافتها صفة (الإسلامية) على عنوانها، وتضمينها إيّاها في عباراتها، قد تبنّت التيار العروبيّ، فظل واضح القسمات ضمن خطابها العام. فما تفتأ تلحّ على (أهمية المحافظة على تقاليد العرب، والحرص على كسب ثقافتهم، والانضباط وفق نُظُم المجتمع، ومثله، وقيمه الخالدة) (1: 21 22)، وأنه (كان من المهم أن يُبحث سبيل تفعيل الثقافة العربية الأصيل بكل الوسائل الممكنة) (1: 22)، (لتكون مناراً يهدي إلى التقاليد وإحياء العادات المُثلى)؛ ليجسّد ذلك كله (أفعالَ العرب، وأقوالهم، وأعرافهم، عبر العصور السابقة) (1: 24). كيف لا (خصوصاً في هذا الوقت الذي تتمسك الأمم فيه بتراثها تنشره وتدافع عنه) (22:1).
وهو خطاب في الوقت الذي يتبنّى فيه فكرة تفوّق العنصر العربي، يوشك أن يوصد أبواب الذهن عن التحوّل الهائل الذي أسّسه الإسلام، من النظرة الضيّقة إلى الفضيلة على أنها عربية إلى النظرة إليها بوصفها إلهية إنسانية، من حيث جاء الإسلام نوراً للعالمين لا للعرب وحدهم.
بل لقد اتخذ القرآن من عادات العرب وتقاليدهم، التي تمثّل (أدران الجاهلية وأوضار الوثنية)ن نموذجه لنقد الإنسان أينما كان، على أن نقطة الافتراق الأخرى بين الثقافة الإسلامية والثقافة العربية تتمثّل في تقليدية الأخيرة، لا للسلف فحسب، ولكن للآخر، غير العربيّ، أيضًا، وهي المفارقة التي تنكشف بين الذاتية القومية الرافضة للجديد بوصفه محاكاة للغرب وهو ما يظهر خطاب (الموسوعة) تبنّيه وبين ما عبّرتْ (الموسوعة) نفسها عنه من احتذائها الأمم التي تتمسك في هذا الوقت (بتراثها تنشره وتدافع عنه).
وذاك التلميع لوجه واحد مشرق من التراث، هو الوجه العربي، ومن ثَمّ جعله نبراساً وحيداً وأخيراً لقِيَم توصف بأنها (خالدة)، لا يتعارض مع روح الحضارة فحسب ولكنه يتعارض كذلك مع روح الإسلام، المنفتحة، الشمولية لجميع الأمم والثقافات، بل لعالم الغيب والشهادة. ولولا الوجه الإسلامي لكان العرب عرقاً كأشدّ الأعراق عصبية وعنصرية، ولما خرجوا إلى بناء حضارة إنسانية عالمية. أفلا تكون نبرة الخطاب القيميّ بهذا الاتجاه قد ارتدّت فكريًّا إلى ما قبل الإسلام أو ما قبل الحضارة؟
وممّا يكشف عن المنزع المُعْلي من الإرث القِيميّ العربيّ، المحكوم عادة بالمصلحة المادية والمنفعة الذاتية، أن ترى في أثناء الاستشهاد بنصّ يعبّر عن منظور مثاليّ إسلاميّ الحرص على إحاطته بسياجٍ يطوّعه لمنظورٍ قيميّ خاص. وذلك مؤشرٌ جليٌّ على أن مثالية القِيَم التي أراد لها الإسلام أن تسود ماتزال تتنازعها ميولات تعود في بعضها إلى قِيَم ما قبل الإسلام.
(غير أن مساحة هذا المساق قد انتهت، فالمناقشة مرجأة إلى المقبل، بإذن الله).


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved