Culture Magazine Monday  11/06/2007 G Issue 202
فضاءات
الأثنين 25 ,جمادى الاولى 1428   العدد  202
 

مالم أقله في الأدب والسياسة والثقافة
حكم الرعيان

 

 

أصبح سعدون الراعي ملكاً على كرمستان ليمشي الذيب والعنزة سوا. ولكن بعض الأحداث التي لم يكن يتوقعها جعلته يفضّل الانسحاب إلى مرعى عنزاته، ويترك الشقا على من بقى. من هذه الأحداث ما رواه (منصور الرحباني) في مسرحيته الغنائية (حكم الرعيان)، ومنها ما لم يروه. وأنا أقص هنا واحداً من الأحداث التي طفّشت سعدون من عرش كرمستان، والتي لم يرد ذكرها في المسرحية.

من أوائل ما بدأ سعدون الأول به ممارسة سلطاته الملكية هو دعوته المغتربين الكثر من أبناء كرمستان إلى العودة من غربتهم إلى وطنهم، واستثمار ثرواتهم التي جمعوها في المهاجر في هذا الوطن، بعد أن أصدر تعليماته بإلغاء البروقراطية، وفتح باب الاستثمار على مصراعيه أمام رؤوس الأموال الواردة. كان المثري المغترب أبو دعاس، من قرية تلمين في المملكة الكرمستانية، أول من استجاب للدعوة الكريمة. عاد إلى الوطن، وإلى قرية تلمين بالذات، وفي جعبته مشروع لإنشاء معمل في مسقط رأسه، قريته هذه. المشروع يقوم على تحويل النفايات البلاستيكية التي تفرش بها الساحات، والشوارع، وتغطي أغصان الأشجار في كل مكان وطئه من محافظات كرمستان في زيارته السياحية السابقة لها، تحويل تلك النفايات إلى مواد عصرية مصنعة متعددة الأشكال والفوائد. معمل رصد له مبدئيا مبلغ ثلاثة ملايين من الدولارات، وهو واثق من أنها ستعود عليه بملايين مضاعفة في زمن قصير.

كان على (أبودعّاس) أن يحصل على موافقة زيوان بك، محافظ المنطقة التي تتبعها تلمين، لإقامة المعمل. استقبله زيوان بك أحسن استقبال، وطمأنه على أنّه سيتبع الأوامر الملكية بحذافيرها. لن تكون هناك عوائق بيروقراطية، ولا مراجعات كثيرة للحصول على الموافقة. قال له: أعطنا إضبارة المشروع، وعد إلينا في الغد لتجدها، أعني موافقتك، جاهزة....

وهكذا كان. في اليوم التالي وجد (أبو دعاس) إضبارة المشروع على الطاولة أمام زيوان بك. قال له هذا: الموافقة جاهزة، وإنما ينقصها توقيعي، وتوقيعي له ثمن... بصراحة أقول لك: كلفة مشروعك ثلاثة ملايين دولار، وثمن توقيعي ثلاثة ملايين! فغر (أبو دعّاس) فمه، وصاح ثلاثة ملايين دولار؟! قال زيوان بك: طمئن بالك. بل ثلاثة ملايين دوبيت... الدوبيت كما تعرف هو عملة بلادنا، مملكة كرمستان. إنها تعادل جزءا من سبعين من الدولار. ترى أن ثمن التوقيع ليس مرتفعا، واحد من سبعين من ثمن المشروع! أنا في انتظار قبولك، لأضع على الإضبارة توقيعي....

قال دعاس لأبيه، وهو الذي جاء مع والده من مغتربهما، ليتولّى إدارة المعمل العتيد: طلب السيد المحافظ غير معقول. ومقابلة صاحب الجلالة سعدون الأول ليست أمرا سهلا. أنت قلت لي إن رئيس وزراء المملكة من بلديّاتنا، أعني أن أصله من تلمين. قابله، وارو له الحكاية. سيكون في عوننا حتماً.

استنكر رئيس الوزراء، ذو الأصل التلميني، كل الاستنكار طلب المحافظ زيوان بك، وعدّه وقاحة وتصرفاً فاسداً، ولا سيّما حين يستهدف مواطناً تلمينياً، جاء من مغتربه البعيد ليستثمر أمواله في بلدهما: بلد (أبو دعاس) وبلد رئيس الوزراء في أن واحد. قال رئيس الوزراء: سأكلمه، سأكلم زيوان. وهو شخصية مهمة في نظام حكمنا، ولكن ما يطلبه منك يا (أبو دعاس) غير مقبول. عد إليه بعد غد وستجد أن الأزمة انفرجت.

وهكذا كان. عاد (أبو دعاس) بعد غد إلى مقابلة زيوان بك، تلقاه هذا بمنتهى الترحاب، وقال له: الإضبارة أمامك، جاهزة لتلقّي توقيعي بالموافقة. ولكن لا بد لي من أن أقول إن التوقيع لا يزال له ثمنه. أصبح الثمن يا (أبو دعاس)، بدلاً من ثلاثة ملايين دوبيت، خمسة ملايين!

مرة أخرى فغر (أبو دعاس) فمه دهشة وهو يقول: خمسة... خمسة ملايين؟ لماذا هذه الزيادة؟! كان جواب السيد المحافظ واضحاً وقاطعاً، إذ قال:

- الزيادة ليست لي يا صديقي. إنها لسيادة رئيس الوزراء. هو طلبها لنفسه، مليونا دوبيت فقط. لم أكن أعرف قبل أن استدعاني أمس أنه ابن بلدك... تشرفنا!

هذه واحدة من حكايات حكم الرعيان. لم ترد هذه الحكاية في مسرحية (منصور الرحباني) الغنائية، ولكن غيرها من أمثالها ورد ووصل إلى مسامع سعدون الأول. لهذا آثر جلالته أن يتنازل عن عرش كرمستان ويعود راعياً إلى عنزاته، تاركا الشقا لمن بقى.

عبدالسلام العجيلي 1918م - 2006م


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة