Culture Magazine Monday  11/06/2007 G Issue 202
فضاءات
الأثنين 25 ,جمادى الاولى 1428   العدد  202
 

سقوط الأقنعة في (جاهلية) ليلى الجهني «3»

 

 

يبدو لي أن ليلى تريد أن ينظر القارئ إلى ما تحت اللون، أو كما تعنون هي أحد فصولها، (ما وراء اللون)، إلى ما وراء العواطف وفقدها، وإلى ما وراء الجنوسة والجنسية، أي إلى المحرك الدافع لكل هذه الظواهر. من العنوان وصورة الغلاف التي يظهر عليها صنم كأنه هُبَل ندرك أن الكاتبة تريد أن تربط زمنها السردي بزمن موغل في القدم تعلنها أسماء الشهور والأيام البائدة والتي تعنون فصول الرواية زمنياً. وما يبرر هذا الربط اشتراك الزمنين في صفة نتنة وهي الجاهلية، فالجاهلية ليست حقبة زمنية، ولكنها مصطلح يصف مجموعة من الممارسات البغيضة الما قبل إسلامية. يلاحظ الدكتور سعد البازعي بأن عنوان الرواية (جاهلية) يأتي غير معرّف، وذلك يؤدي كما يقول: (إلى نوع من تعويم المفردة وجعلها تفتح دلالاتها على جاهليات متعددة).

الجزيرة في اعتقادي أن هذه الجاهليات يجمعها نوعان من الجهالة: جهالة ضد العلم وأخرى ضد الحلم. قضية الرواية الأساسية إذا هي الجهل المتوارث، الجهل نقيض المعرفة، والظلام نقيض النور، والتبلد نقيض التوقد.

تكشف رواية (جاهلية) الستار عن مجتمع يعاني تراكمات التخلف التي نتجت عن ردته العصبية إلى العهود الجاهلة بتمايزها وتنابذها ولا عدلها. أن استشرى الجهل عطّل التفكير والتأمل، أي أعظم القدرات البشرية، ونشر الأفكار السلبية وفرض العزل والمنع. لقد ترسخ تعطيل التفكير فينا على مدى حقب زمنية طويلة تضرب جذورها في عصور الجهل وجعلنا أسرى لمعارف قديمة ألفناها وتمسكنا بها دون فحص مسلماتها أو مراجعة معطياتها. هذا العقل العربي الذابل المضمحل يظهر بقوة في شخصية الأخ الذي يعجز عن التفكير ويكره القراءة فليس عنده من الصبر والوقت ما يضيعه في كلام بارد لا حياة فيه. وقته له وليس للكتب. وقته للأشياء التي يحب أن يفعلها وليس للصفحات المملوءة بكلمات (29).

إن انتماء هاشم لأهل الجهل والجاهلية يظهر قبل كل شيء في تلفظه بالسوء، فأخته حيوانة ومالك حيوان (17)، وهو لا يراقب الله في لسانه، بل لا يذكر الله إلا لاعناً باسمه: (الله يلعنها.. ويلعنه.. الله يلعن جنسها كله.. (19) و(لعنة الله على شوارع خلت من حمامات عامة (25). يلعن هاشم (الثانوية العامة التي لم تأت كما ينبغي، ويلعن (الشهادة السخيفة)، ويلعن أكثر حظه إذ لم يجعل أباه غنياً..(23). لا يمكن أن يدخل شىء السرور إلى قلب هاشم سوى الأشياء المادية فقد كان سعيداً وهو يتفقد أول سيارة له.. ويلمسها جزءاً جزءاً، وقد حفته نشوة مبهمة، (لكنه في نفس الوقت تمنى لو كانت لديه سيارة فارهة مثل شباب كثيرين يعرفهم. حلم ب(بورش)، حلم بها طويلاً، لكنها شيء باذخ لن يطوله بسهولة. حلم مرات أخرى ب(فيراري) صفراء تسر الناظرين (23). هو أسير للمظاهر الكاذبة التي تستمد أهميتها من قدرتها على إبهار الآخرين وتمكينه من التفاخر عليهم.

عدم الرضا بما قسم الله جعل هاشم في حالة مستمرة من الهياج والتعصب، فقلبه لا يعرف الطمأنينة ووجهه لا يعرف الابتسام. حين يقف في محطة البنزين ويطلب من العامل أن يملأ خزان السيارة

(لم يبتسم أي منهما للآخر. لم يبتسم أحد لأحد. بدت الوجوه كلها عابسة. رأى تقطيبة وجهه في مرآة السيارة ولم يفكر في تخفيف حدتها (23). ومن دلائل الجهل والجاهلية في سلوكيات هاشم رغبته الدفينة في وأد أخته التي يعبر عنها قائلاً: لو أمه خنقتها وهي تلدها. لو أنها ماتت.. لو أن الله قال: اقتلوهن (17)، فهو حامل لفكرة الوأد المتوارثة ومتأهب لممارستها. وجهله يجعله يكره الصمت لأنه خاوي العقل، كما يسلبه شجاعة الإيمان فيظهر جباناً رعديداً يخاف الموت: من بين أشياء كثيرة لا يحبها في هذه الحياة، لا يحب الصمت. لا يحب أن يخلو به الصمت، مثلما لم ولن يحب أن يجاوره الموت في مرة (32). وهاشم كأي جاهلي يرفض الآخر بعنف ووحشية حتى إن والده كان يخشى ردة فعله أن سمح هو بزواج لين ومالك: هاشم.. سيرتكب حماقة.. لديه من التهور ما قد يدفعه لذلك. (126).

ولكن الخطر يكمن في أن هاشم ليس حالة شاذة لهذا السلوك العدواني، إنما هو فرد من شريحة مجتمعية كبيرة تحمل هذه النزعات المتوحشة، وهاشم يؤكد أن كثيرين سيفكرون مثله لو عرفوا بما عرف، كل رفاقه سيساندونه لو عرفوا، وسينقضون على الحيوان معه، وسيضربونه حتى الموت.(32) وهذا ليس توقعاً خيالياً أو تنظيراً لا أساس له، فكل ما احتاجه أيمن صديق هاشم هو دفعة بسيطة ليتحمس ويعرض خدماته لتنفيذ خطة التخلص من مالك وضربه بعنف وحشي. هاشم الشاب الأهوج يمثل ضيق الأفق المتفشي ونمط الوعي الزائف الذي ما زالت بذور الجاهلية تحيا به وتنمو. ويدل خوف الأب من الموافقة على تزويج ابنته من مالك على هذه الوحشية المجتمعية، فالناس (اللي ما ترحم) قادرة على أن تأكل لحمها (129).

استيقظت البطلة ذات يوم على بشاعة الناس والأشياء من حولها (69)، وهذه الصحوة تكشف عن النواة الصلبة للقضية الجوهرية في رواية (جاهلية) وعن دلالة هذا المسمى الذي يفضح ضعف المنظومة الأيديولوجية وبعدها عن روح الدين الإسلامي الحنيف. هؤلاء الناس في حال تشبه تلك التي كانت أيام نهاية الجاهلية وبداية الإسلام حيث كان الجهل قاعدة الحياة فشاع فيها السفه والعدوان وكانت الفرقة والاختلاف. هذه هي خلاصة العنجهية العربية الأولى التي لم يكن فيها حفنة رأفة ولا ذرة من قيم التسامح والاخلاقيات الإنسانية التي جاء بها الهدي المحمدي الشريف. هذا مجتمع سطحي لا يرى إلا الظاهر والمظاهر ولا يتساءل عن العلل والأسباب، ولأنه يتمسك بقشرة الدين، فقد تعود على أن يظهر ما لا يبطن، لذا فالبطلة تنفر من النفاق والتناقض اللذان يغلفان الحياة من حولها (65)، ويزعجها أسلوب الحياة السائد في بلادها بلادها التي يقول الناس فيها ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون (109).

وهنا يظهر الهدف من استعمال أسماء الأيام والأشهر العربية القديمة في عنونة فصول الرواية، فبالإضافة إلى توثيق الروابط الزمنية بين جاهلية قديمة وأخرى عصرية، تحمل تلك الأسماء أصداء أزمنة كئيبة تكشف عن جذور المواقف العقلية لهذه الشريحة والأفكار المتزمتة الرابضة في أعماقها رغم كل الادعاءات باتباع تعاليم الدين. هذا الانفصام بين المعتقد والتطبيق سببه الجهل، وعدم التعمق المنطقي في المسائل سببه سطحية الفكر الذي يحكمه المظهر الخارجي والانفعال الفوري وهذه جاهلية عالجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكننا ما زلنا نحياها ونتركها تتمكن منا. نقض الإسلام أحكام الملة الجاهلية واستبدل السطحية الشكلية بالجوهر الأصيل، وحث على العلم الذي أساسه القراءة التي بها جاء أول أمر إلهي للإنسان، ثم تبعها أمر الكتابة بالقلم، لكن هاشم، مثل كثيرين غيره، (لم يستطع أن يجد متعة في الكتب التي ناولته إياها) أخته. كذلك فقد حث الإسلام على نبذ العنف والأذى بقوله عليه الصلاة والسلام (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، لكن هاشم، ممثلاً لآخرين كثر، يبدأ حديثه الداخلي بقوله:

لعنة الله على الحيوان هي كمان حيوانة (17)، ثم يعتدي على مالك ويكاد يقتله.

هذا الحديث الشريف وغيره من أقوال الرسول الكريم التي تستهجن سلوكيات الجاهليين، وكذلك عدد من الآيات القرآنية التي وردت فيها لفظة الجاهلية لم تحضر في نص ليلى الجهني رغم حضور عدد من النصوص التراثية في أكثر من موقع. وهذا تغييب منطقي يتسق مع مسار النص، إذ إن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية غائبة عن الممارسات اليومية للناس الذين يرددونها دون أن تتغلغل معانيها في صدورهم لتنعكس على أفعالهم. وهذه هي علة الجهل: عدم القدرة على المواءمة بين سطور نصوصنا وبين طيات صدورنا، بين شعاراتنا وبين معاملاتنا. الجهل يعمي عن رؤية ما وراء اللون وما تحت الجلد، لذا تأتي نظرة الجاهلي للأمور سطحية وشكلانية ومنفصلة عن الواقع. هذا المأزق الخطير كان لا بد أن يتمظهر في القولبة والتنميط، وبالتالي وضع الآخر في إطار موحد يلغي جمال وثراء التعددية والتنوع.

د. لمياء باعشن- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة