Culture Magazine Monday  11/06/2007 G Issue 202
فضاءات
الأثنين 25 ,جمادى الاولى 1428   العدد  202
 

على مائدة الشيخ التويجري (12)
د.عيد بن مسعود الجهني

 

 

هذا الأفق الواسع من أفقها الذي لا تحده حدود، هذا الصفاء النفسي من صفاء سمائها، وهذه الانفعالات الحارة الصادقة، من هبوب سمومها وحرارة شمسها، هذا الحزن المخبوء في داخله الذي ينفثه أحيانا كلمات موجعة من ليلها السكوت وظلامه المهيب، إنها الصحراء معشوقة الشيخ عبدالعزيز التويجري، يبكي أيامها وذكرياتها كما بكى مجانين الحب في الشعر القديم حبيباتهم وتحسروا على فراقهن.

إن حب الصحراء متجذر في نفس الشيخ التويجري، خالط لحمه ودمه وعظامه، وهي فيه بكثبانها وجبالها ووديانها وسهولها، ووهادها، يحملها أينما سار، يسمع في داخله رغاء جمالها ويحس هبوب رياحها، ومن إنسانها الطيب البسيط تعلم الشيخ التويجري البساطة والإيثار والنخوة والنجدة، وتبادل العواطف النبيلة الخالية من الغرض والمرض.

فالشيخ التويجري دائما لم يسعد بمعطيات المدينة الحديثة، وان ما استجد في حياته من ماديات ورفاه في المسكن والمركب والمأكل لم يلامس روحه العطشى للأصالة، وإن كان يعيش فيها بجسده، فان كان يعيش في المدينة الحديثة بكل ما فيها من وسائل الراحة وما تحتويه من وسائل الترفيه والترويح، فإن ذلك لم يطفئ رغبته الجامحة في العودة إلى الريف ببساطته ونقائه، فظِل خيمة من الشعر أحب إليه من ظِل قصر منيف، وظهر جمل أصيل أطيب عليه من سيارة فارهة، ولبن ناقة أمرأ من طعام أرقى الفنادق وأفخر المطاعم.

ففي كتابه منازل الأحلام الجميلة يقول: (عثرت ظنوني يوم تصورت أني وحدي الذي لم يسعده القصر ولم تسعده هذه الحضارة وهذه المدنية، ولم تخلق في نفسه وروحه جمال الصحراء وغدران السحب في أودية مالت رقابها وتعرجت في سيرها إلى فم الروض تعطيه ما يروي ظمأه وتبقي في منعطفاتها غدرانا للراحلين اليها او للواردات عليها من بنات الحي وقطعانه..).

والذي يجعل الشيخ عبدالعزيز يحن إلى الصحراء، لياليها الحالمة وأيامها الطيبات.. إن أيامها كانت مليئة بالسعادة خالية من الهموم، فدنيا البدوي هي خيمته وجِماله، لا يحمل هم الغد ولا ينافس على الدنيا ولا يعرف الحسد ولا الحقد من غد، ينام قرير العين حيث وضع رأسه، لا يبطره الرزق إذا كثر ولا يحزنه إذا قَلَّ.

يقول الشيخ في كتابه حاطب ليل: (يوم كنت مع جِمالي وقطيعي أرحل من مكان إلى آخر في قلب صحراء امرئ القيس والمجنون فارس بني عبس والطائي لم يكن للهموم منازل في نفسي ولا قدم حائرة). فلا آخر صيحات الموضة، ولا آخر ما وصلت إليه المصانع من مساحيق وكريمات، ولا حتى التعليم الحديث هو الذي يجعل من المرأة امرأة حبيبة إلى النفس، ولكنه الخلق النبيل والإخلاص النادر والعفة التي تزينها هي التي تجعل منها زوجة وحبيبة ورفيقة درب.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة).

ومن حب الشيخ عبدالعزيز للصحراء يروي أن زوجته البدوية أم أولاده بمثلها وقيمها وعفافها وصبرها ووفائها هي أهل ان تكرم بل إن كل بدوية مثلها أهل للتكريم (لأن أمك بدوية؛ لأنها ضربت خيامها في أودية الصحراء إن كانت في القرية القابعة وسطها أو في بيت الشعر، ألا يمكن أن نكرم الميراث وان نضع الصورة الجميلة لهن على باب كل بيت من بيوتنا حتى لا تختفي من أرضنا أجمل الصور؟).

ولأن حب الصحراء متمكن من قلب الشيخ عبدالعزيز التويجري فإنه حتى الحياة في الغرب بكل ما فيها من مفاتن ومباهج ومغريات لم تنسه الصحراء، بل إن كل خلية فيه كانت تشوق إلى الصحراء وأيامها، وهو في خضم تلك الحياة الغربية التي طالما ما فتنت من سافر إلى أراضيها من أهل الشرق، بل إن كثيراً من الذين لم يسافروا إليها يظل الذهاب إليها عندهم حلما يتمنون تحقيقه ويتشرفون لياليها الصاخبة وأبواقها الرائعة وفنونها وفتونها.

يقول (أتراها هي الأخرى أذهلتني عن قريتي وعن صحرائي؟ أتراها آخذتني إلى ملذاتها وإلى انفضاحها وإلى تعريها وتبديها في إغراء غير محتشم فتنسيني القرية والصحراء؟ أبدا). ليت كل عربي من المحيط إلى الخليج أَلِف قريته وقال مع أبي الطيب:

خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا

وما يربط الشيخ عبدالعزيز بالصحراء هو طهارة إنسانها وخلو نفوسه من هموم الحياة ومن أدران الصراع عليها.. يقول في كتابه منازل الأحلام الجميلة: (ولكني يوم مر بي الرعاة ينادون إبلهم ويحدون لها، وصغارها تستن أمامها، وعن يمينها وشمالها، تساءلت أهؤلاء مهمومون؟ أهؤلاء متألمون؟ أهؤلاء في أعماقهم نجاسة؟ أفي رؤوسهم دوار؟ أفي أرجلهم قيود؟ ألهم قوادم وأجنحة لا تتسع لها سكك القرية أو أسواق المدينة؟ وإن ظن مهندسها أنها اتسعت للمتزاحمين عليها.. تساءلت فجاءني الجواب أعجل من الفتنة ومن حماقة الحمقى..

نعم أتى إليّ الجواب أنهم سعداء، أنهم غير مهمومين وأن التحفوا السماء وافترشوا الأرض واستيقظوا على بلابل الروض أو عواء الذئب أو نباح كلبهم حارس أغنامهم، يملكون فطرة وعفوية لم تلفحها رياح مدنية العصر، وروحا لم تنشطر كما تنشطر روح من حولته أقداره من الخيمة إلى القصر، من الصحراء الواسعة التي فيها القمر وفيها النجوم وفيها الأفق الذي لا ينطرح البصر تحت جداره السميك مثلما يطرح في غرفة نوم زورتها هذه الحضارة).

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة