Culture Magazine Monday  11/06/2007 G Issue 202
فضاءات
الأثنين 25 ,جمادى الاولى 1428   العدد  202
 

ما لبعض الخرائط من لواعج تاريخ وعبر!

 

 

عجيب ما قد تضرمه بعض الخرائط في النفس من لواعج، وما تثيره في الذهن من مواعظ وعبر!..

فمن تلك الخرائط خريطة، ضمن عدد شهر مايو الجاري من شهرية أمريكية(1) موضوعية مرموقة.. خريطة تاريخية موثقة، مرفقة بمقال، جديرة وجدير، بما يرويانه من حقائق أحداث تاريخ غابر، وكاد يطابق الحاضر، انطباق الحافر على الحافر، بأن لا تثير ويثير في نفس كل عربي ومسلم غيور متأمل، بوارح اللواعج، ولوعة المشاعر فحسب، بل وأن تضيء وتنير حلكة ما يُحاك من ظلام مشاريع لشرق أوسط كبير، وبهتان إيهام ما يرسم من خرائط لطريق سلام، حقيقته خنوع لاحتلال واستيطان، وجوهره خضوع واستسلام، حُشد له مالا يُحصى من صحف وأقلام، وجند له ما لا يُعد من إعلام، فضائيات تُمجد دُمى الغزاة، ومقابلات وتقارير وحوارات، تصم كل مقاومة بالإرهاب، عبر ما تبثه من صور مفبركة وأفلام!..

***

خريطة مطوية لا تتعدى حجم محفظة عادية، أول ما قد يجتذب القارئ لها عنوانها المطابق حرفياً لعنوان كتاب شهير (2)، صدر قبل سنوات، من تحرير جورج بوش الأب، ومستشاره الأمني برنت بسكوكروفت عنوانه: عالم تم تغييره!..

ولكن ما أن يفردها القارئ لتغدو بمساحة صحيفة يومية من الحجم الكبير، حتى يفاجأ بعنوان لا يقل غرابة في تطابقه مع يكرس من مفاهيم، مهدت بعدوانية حروب وتوترات تحت شعار صدام الحضارات.. عنوان كبير، كتب على خلفية تاريخ يعود لعام 1607م، يقول: (حين تتصادم الثقافات)!!..

ولكن سرعان ما يزول ما تثمره تلك العناوين في النفس من شكوك، رسخها ما شاب الإعلام الغربي عامة والأمريكي خاصة من تدجين واحتواء وتسخير سياسي، حين يطالع القارئ بإعجاب وإجلال، ما تتمتع به تلك الشهرية من موضوعية نادرة، حتى لو كانت تحوي إدانة للذات، عبر ما جاء في المقال، وما كتب على تلك الخريطة من كلمات ومعلومات، وما رسم تحت ذلك العنوان بالذات!.. فقد احتل كامل نصف الصفحة العلوي رسماً ملوناً زاهياً لقرية، فيما احتل كامل النصف السفلي رسماً باهتاً مزرياً.. لمعسكر!..

قرية هندية وادعة آمنة تغفو على أمواج المحيط، وتتدثر بغابات على مد النظر، تحيط بها حقول وجداول وتتناثر ما بينها وداخلها أكواخ معابد ومساكن ومشاغل، بعضها لصناعة قوارب صيد الأسماك وأخرى لمآرب أخر.. نساؤها مكبات على طهي طعام أو جمع خضار وحطب وثمار، وأطفالها يتراكضون ويلعبون، فيما الرجال مشغولون إما بفلاحة الحقول، أو مطاردة غزلان الغابات بالقوس والنشاب، أو اصطياد أسماك بالرماح!.. قرية لا تختلف عن قرى كل البشر آنذاك، سواء ما استرخى منها على سفوح جبال الإنديز والأوراس والحجاز، أو ما استلقى منها على شطئان خلجان أو ضفاف أنهار الهندوس والميكونج والفرات!.

أما النصف السفلي الباهت المزري، فهو رسم لما سمته الخريطة بجنيف دولة الولايات المتحدة الحالية!.. ومعسكر يسمى جيمس تاون تيمناً باسم ملك بريطانيا آنذاك، يذكر بتسمية شوارع بعض العواصم العربية بأسماء رؤساء أمريكيين معاصرين!.. ورسم لمعسكر محاط بسياج من جذوع أشجار مسننة، تناظر ما يحيط مستوطنات ومعسكرات غزاة الحاضر من أسلاك شائكة.. سياج لا يكتفي بإحاطة المعسكر بل يمتد ليفصل مناطق وحقولاً، تماماً كما تفصل جدران عنصرية، قرى وحقول الضفة الغربية وأخرى طائفية ما بين أحياء بغداد الشرقية!..

معسكر يذكر بما يقيمه الغزاة من قواعد عسكرية تكلف المليارات اليوم فيما اجتاحوه من بلدان، فداخله لا يختلف مطلقاً فيما يعج به، من جنود مدججين بالسلاح، ومدافع قتل وإرهاب، سببت (الصدمة والذهول) للسكان الأصليين، تماماً مثلما كان هدف استخدام أحدث أسلحة قتل ورعب ودمار، على لسان رامسفيلد حرفياً في بداية غزو جيوشه للعراق!.. بل لعل الأشد من ذلك تماثلاً، هو ما كتب على تلك الخارطة، من شرح يقول، إن مئات من فرسان الغزاة كانوا يسيرون بين حقول ذرة ومروج زهور عباد الشمس زرعها السكان على مد النظر، سرعان ما تحولت بعد سنوات إلى أرض يباب، في تطابق لا يخفى على كل متابع لما اقترفه الغزاة من دمار لمتاحف ومكتبات بغداد وما حاق بكل العراق من دمار وخراب!.

***

الصفحة الخلفية من تلك الخريطة الوثائقية التاريخية لاتقل أهمية، إن لم تتفوق على سابقتها.. فهي مقسومة رأسياً برسمين متماثلين تماماً للساحل الشرقي من أمريكا الشمالية، أحدهما بتاريخ 1419م، يظهر أسماء مناطق وقبائل وممالك السكان الأصليين، تبلغ 17 قبيلة ومملكة، يزيد عدد سكانها على مليونين وأربعمائة الف نسمة آنذاك، أما الرسم المماثل الآخر فيعود لتاريخ 1650م، وقد انحسر عددهم إلى 379 ألفاً فقط، بعدما قتل وهجر منهم الملايين، تماماً مثلما قتل وهجر الملايين من أهلنا في العراق وفلسطين!.. فيما يظهر رسم جانبي، خطوط السفن المبحرة في المحيط وهي تحمل السلاح والجنود والمستوطنين من سواحل أوربا وآلاف الزنوج المستبعدين من سواحل أفريقيا، لتعود محملة بمحاصيل الذرة والبطاطس والطماطم والقطن والتبغ، التي لولاها لما عرفت أوروبا البطاطس ولا إيطاليا الطماطم حسبما كتب حرفياً على الخريطة، في تماثل عجيب مع ما تحمله السفن اليوم من ملايين المستوطنين إلى فلسطين وعشرات الآلاف من حثالة المرتزقة للعراق، لتعود محملة بخبرات ما يُنهب من نفط العراق وما يُسلب من بساتين برتقال وزيتون فلسطين!.

***

أما أعجب تماثل يدحض ويفند دأب الصهانية على تريده، من قول بأن فلسطين كانت وطناً بلا شعب منحت لشعب بلا وطن، فهو ما كتبه المؤرخ الأمريكي (تشارلز مان) في بداية ذلك المقال من عبارة بليغة تقول: إن معظم ما تعلمنا في مدارسنا من تاريخ بلادنا هو محض هراء.. فالمستوطنون الأوائل لم يجدوا أرضاً بكراً عذراء كما يدعون، بل كانت أرضاً لها أبناء وآباء، جعلوا منها أرملة ثكلى تنوح على ما أصابها من خراب!..

فتحية لكل المؤرخين المنصفين، أمريكيين كانوا، أو حتى إسرائليين ممن أدانوا ما اقترفه أبناء جلدتهم من جرائم ومجازر في دير ياسين ومثيلاتها في فلسطين ومصر ولبنان، ومن أماطوا اللثام عما جرى في الفلوجة وحديثة والعامرية وأبو غريب من جرائم على يد من يدعو للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان!..

1- الشهرية المقصودة هي ناشيونال جيوغرافيك - الجغرافيا الوطنية National Geographic

2- الكتاب المقصود هو كتاب:

Aworld Transformed

المكرس لما بشر به الرئيس جورج بوش الأب من نظام عالمي جديد في أعقاب سقوط وتفكك الاتحاد والسوفيتي وتفرد أمريكا بالهيمنة على مقدرات ومصير شعوب ودول العالم

يوسف عبدالرحمن الذكير -الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة