Culture Magazine Monday  11/06/2007 G Issue 202
فضاءات
الأثنين 25 ,جمادى الاولى 1428   العدد  202
 

رسائل مفتوحة إلى الغذامي«1-2»
موت البلاغة!.. حتى أنت يا بروتس!!

 

 

جمعني وأحد الإخوة المختصين بالأدب القديم مجلس ورد فيه ذكر الناقد عبدالله الغذامي، فتطوع الأخ في التشكيك بمشروعه النقدي وبأهدافه الحقيقية، وهيأت نفسي للدفاع بما توافر بين يدي من أدلة، ثم خطر لي أن أسأله إن كان قد قرأ شيئاً للغذامي، فقال: لا!! فعجبت من هؤلاء المتمترسين خلف قلاعهم القديمة كيف يتخذون المواقف من الآخرين على غير بينة ولا تبصرة، لمجرد أن عملهم يتعلق بالحداثة بوجه ما! وكنت في ذلك الحين - وما زلت - أؤمن بأن الغذامي فرع من شجرة تراثية مثمرة تستنشق هواء عليلاً يأتيها من الغرب، وتضرب بجذورها القوية في تربة تراثية خصبة.

وبسبب من هذه القناعة وجدتني في حالة من الذهول حين فاجأني الغذامي وأعلن - أمام جمهور المشاركين في مؤتمر البتراء الرابع للنقد الأدبي الذي أقيم مؤخراً في عمان أيار 2007م - ضرورة (موت البلاغة العربية)!! وتذكرت وأنا أستمع إليه دعوات مماثلة خرجت عن شخصيات متغربنة أو مستشرقة، غير أن إحساسي بدعوة الغذامي كان أشد وطئاً؛ ذلك أن ضرب القريب ذي الرحم أكثر إيلاماً من ضرب الغريب، وليس كما قيل (.. ألذ من أكل الزبيب)!!

تستند الدعوة إلى موت البلاغة إلى دعامتين أساسيتين، الأولى: القول بأن النص الأدبي الحديث منبتّ عن القديم، وبالتالي فإن الإجراءات النقدية والمناهج التي يجب أن تتبع في التعامل معه يجب أن تكون حديثة أيضاً، بدعوى أن حاضنه الثقافي ليس له علاقة بالإرث النصي للثقافة العربية.

غير أن القول بأن الأدب العربي الحديث منبت الصلة عن إرثه النصي مسألة فيها نظر! وهو إن صح مع آداب اللغات الأخرى - وليس الأمر كذلك - فهو غير صحيح مع الأدب الذي يصدر عن اللغة العربية، فاللغات الأخرى لا تتطور بقدر من التنامي والتناسل يماثل ذاك الذي في العربية، وإنما الغالب على تطورها صفة القفز، فابن الإنجليزية المعاصر لا يستطيع أن يتواصل مع إرثه النصي في لغته الأم، حتى نصوص شكسبير التي تكاد تطبع في الثقافة الغربية بطابع القداسة لا يستطيع الإنجليزي المعاصر أن يتواصل معها، بسبب أن الإنجليزية المعاصرة غير تلك القديمة، فالتطور بالقفز غير التطور بالتنامي والتناسل؛ لأن القفز يخلف ثغرات بين المساحات تمنع التواصل فيما بينها. أما اللغة العربية فتكاد تكون اللغة البشرية الوحيدة التي يستطيع أبناؤها التواصل مع نصوص يعود بعضها إلى أكثر من 1600 عام، بل إن كثيراً من الناس يجد من اللذة في نصوص امرئ القيس وعنترة ما لا يجده في نصوص كثير من الشعراء في العصر الحديث، فكيف يستقيم للنَّقَدَة، والحال كذلك، القول بأن النص العربي الحديث هو نبت شيطاني لا شأن له بذاكرته النصية؟!!

ولعل مما يعزز تواصل الأديب المعاصر مع تراثه النصي مناهج التعليم في البلاد العربية الحافلة بعيون التراث التي يشكل تلقيها مرجعية ثقافية يستند إليها الأديب المعاصر. ولا يكاد يغفل كل مشتغل في النقد الحديث عن مفهوم (التناص) الذي لا يعترف بوجود نص بشري مبني على فراغ؛ فكل نص لا بد أن تكمن فيه، بالقوة، نصوص سابقة، يعمل عليها النقاد، فيخرجونها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، وهذا ما يعزز القول بسريان (روح) النص القديم - أو النسق الفكري للثقافة السائدة - في جسد النصوص الحديثة، أحس بتلك الروح من أحس وغفل عنها من غفل!

ولم ينته الأمر عند هذا الحد فحسب، فثمة ركنان أساسيان يؤكدان سريان آليات القول العربية في جسد النص الحديث، وأقصد بهما اللغة العربية، والقرآن الكريم. فاللغة العربية - من حيث هي أداة تعبير - ليست مجرد أداة مصمتة، بل إن لها من القوانين الذاتية ما يجعل مستعملها مضطراً إلى الانخراط ضمن قواعدها، ليستعملها ضمن الآليات والإمكانات التي تتيحها هي نفسها، وهنا نقول إن اللغة تتحول إلى قوة تمارس فعل الضغط على مستعملها حتى تحافظ على كيانها، ولعل هذا أحد عوامل بقائها وقوتها كل هذه الفترة الزمنية. وما دمنا قد قلنا باستمرار التواصل اللغوي مع العربية عبر ما يزيد على 1600 عام فهذا يعني أن قواعدها تلك ما زالت تسري في دمائها. وإن قال قائل: إن طرائق القول الحديثة قد تختلف عن طرائق القول القديمة، فإننا من أجل أن نجنب أنفسنا وإياه مغبة الجدل البيزنطي حول معنى (الاختلاف) الذي يقصده نلفت انتباهه إلى أن طرائق التعبير الحديثة هي جزء من الخيارات والإمكانات التي تتيحها اللغة العربية نفسها، وإن لم تكن كذلك خرجت عن كونها عربيةً أصلاً.

بقي من عوامل سريان آليات القول العربية (القرآن الكريم)، النص الإلهي الذي جعل - إلى جانب السُّنة النبوية - من الممكن القول عن الحضارة العربية الإسلامية إنها حضارة نصية؛ بسبب مركزيته منها، المركزية التي تعززت بفعل قداسة النص. ولا يخفى على أحد ما لهذا النص من قوة تأثيرية بالغة، ومن حضور في حياة الأفراد والجماعات التي تنتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية، فلا تكاد تخلو حياتهم من تلاوة للقرآن الكريم خمس مرات يومياً، على أقل تقدير، وإن من شأن هذه القراءة أن تحجز في البنية العميقة للأسلوب الفردي والجماعي مساحات لإمكانات وخيارات أسلوبية قرآنية تشكل مرجعيةً قوليةً لهم.

فإذا كان هذا هو حال النص العربي الحديث سقطت إذن الدعامة الأولى التي يستند إليها أولئك الذين نعوا البلاغة العربية، وبقيت الدعامة الثانية.. وللكلام بقية!

د. لؤي علي خليل*- تبوك


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة