Culture Magazine Monday  11/06/2007 G Issue 202
فضاءات
الأثنين 25 ,جمادى الاولى 1428   العدد  202
 

(الأماكن).. بديلاً ثقافيّاً

 

 

لو قدّر لصاحب (العقد الفريد) أن يقيم بين ظهرانينا يوماً واحداً، لأنكر نظريّته التي يقول فيها: (ليس في الأرض لذّة تكتسب، من مأكل أو مشرب أو نكاح أو صيد إلاّ وفيها معاناة على البدن، وتعب على الجوارح، ما خلا السماع، فإنّه لا معاناة فيه على البدن ولا تعب على الجوارح...).

لقد صار السماع اليوم، معاناة حقيقيّة، ترهق البدن والجوارح معاً، ويكفي أن يقضي المرء ربع ساعة من الزمن، متنقّلاً بين القنوات الفضائيّة على سبيل الفضول، أو البحث عن الترفيه، أو التغيير، ليشعر بأزمة حقيقيّة، ثقافيّة بالدرجة الأولى.

ولا بدّ من أن يفضي بنا التأمّل في هذه الأزمة، إلى هلع من مدى الضرر الذي أصاب الثقافة غير العالمة، التي يشكّل تضرّرها مغزى الخطر الذي تعيشه البنية الاجتماعيّة عموماً. ذلك أنّ الثقافة غير العالمة هي التي تحفظ الأمّة، بتكريسها العادات والتقاليد والأعراف، وهي التي تحدّد مساحة (التابو) في المجتمع. ففي حين تشكّل الثقافة العالمة السلطة التشريعيّة التي لا تعدم من يسخَّر دائماً لحفظها، تشكّل الثقافة غير العالمة السلطة التنفيذيّة، ولكن بيد مطلقة، أي تنفّذ بقراءة غير حَرفيّة، بل تجتهد في قراءة التشريع وفقاً لإستراتيجية التقليل من المخاطر التي يمكن أن تعتري البنية الاجتماعيّة.

إنّ ما يحمي الثقافة غير العالمة، في رأيي، هو وجود البدائل، وإنّ وجود بديل لكلّ من الكلمة التافهة، واللحن المزعج، والصوت المنكر، هو ما يمكّن المرء من الاطمئنان على حالة الفنّ، الذي يشكّل أحد وجوه الثقافة غير العالمة الأكثر شيوعاً، كما يمكّنه من إدراكه المتعة بلا معاناة على رأي صاحب (العقد الفريد).

وإذا كانت الثقافة الغربيّة تعدّ الموسيقى الصافية (فنّ ما وراء الضوء)، فيركن إليها المتلقّي المتمثّل لثقافته، فإنّني أجد الموسيقى المحمّلة بالكلمة والصوت متعة مضاعفة، كوني أنتمي إلى ثقافة أمّة شاعرة، ولا يضيرني هذا الاستسلام لهذه الظاهرة الإنثروبولوجيّة في شيء، كما لا يضيرني القول بميل هذه الأمّة إلى التجسيد، لاسيّما حين تنقل اللغة اللحن من المجرّد إلى المحسوس، لكنّ القضيّة تصبح إشكاليّة حينما تثير اللغة في النفس ما لا يمكن الإمساك به، أو الإحاطة به على أقلّ تقدير، وهو ما يتجلّى في ثلاثيّة اللّحن، واللغة، والصوت في أغنية (الأماكن) ل(محمد عبده)!

أمّا لحن (الأماكن) فهو بديع، وقد زعمت الفلاسفة أنّ النغم فضل بقي من المنطق، لم يقدر اللسان على استخراجه، فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلمّا ظهر عشقته النفس، وحنّت إليه الروح، لذا قال أفلاطون: لا ينبغي أن تمنع النفس من معاشقة بعضها بعضاً.

وأما الصوت فهو حسن، وقد قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء) هو الصوت الحسن، كما زعم أهل الطب أنّ الصوت الحسن يسري في الجسم، ويجري في العروق، فيصفو له الدم، ويرتاح له القلب، وتهشّ له النفس، وتهتز الجوارح.

وأما الكلمة فهي التي تبعث في النفس الدهشة باستحضار التطرّفات التي يصنعها كلّ من الحضور والغياب، بدءاً بالذكرى، وانتهاء بعوامل الطبيعة، وما بينهما من أطياف الشعريّة، تحاول القصيدة أن تبقيها معلّقة بين التجريد والتجسيد، وبين الشكّ واليقين:

الأماكن اللي مرّيت انت فيها

عايشه بروحي وأبيها

بس لكن ما لقيتك

جيت قبل العطر يبرد

قبل حتّى يذوب في صمت الكلام

واحتريتك

كنت أظن الريح جابت عطرك يسلّم علي

كنت أظن الشوق جابك تجلس بجنبي شوي

كنت أظن وكنت أظن وخاب ظني

وما بقى بالعمر شي

إنّ كلاًّ من العطر، ومرور العمر، بما يتركه من ذكريات، والخيبة التي نقرأ بوادرها، ومع ذلك نجري وراءها، لنختبر قدرتنا على الفرح والحزن فقط، تصير في النصّ أشياء غير مدركة بالحواس، وفي الوقت ذاته تتخذ صفات مؤنسنة مفعمة بالنوستالجيا، على سبيل الاستعارة.

(الأماكن كلّها) بديل ثقافيّ يغتبط المتلقّي بحضوره، بديل عن فنّ مرحلة قاتمة، وما يزيد الغبطة أنّها (الأماكن) صارت ظاهرة، تفعّل آلية التمييز بين الجيّد والرديء، الكامنة فينا بالقوّة، لتخرجها إلى الفعل، هذا ما يشير إليه إجماع المتلقّين على تميّزها، ممّا يعيد الثقة بكلّ من المبدع والمتلقّي، ويعيد إلى الذات شيئاً من الطمأنينة التي تتعلّق بقدرتها على اقتراف البهجة.

شهلا العجيلي - حلب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة