Culture Magazine Monday  11/06/2007 G Issue 202
فضاءات
الأثنين 25 ,جمادى الاولى 1428   العدد  202
 

مفارقة الكتابة
مقدمة في تاريخ الأدب العربي «1»

 

 

سليمان العطّار مبتدأ..

الكتابة في بنيات العقل وآثار الحياة وانعكاس الحوادث..تتطلب بسطاً موضوعياً، ووعياً ناضجاً بماهية المفردات موضع الدراسة..وتتطلب شواهد غير قابلة للتأويل.. ومعالم غير قابلة للتجاوز.. ولكنّ الدكتور سليمان العطّار في كتابه (مقدمة في تاريخ الأدب العربي) لا يأبه لشيء من تلك الشروط العلمية..! ولا يلتفت إلى اشتراطات المنهجية البحثية..! ولا يقف ولو للحظات أمام إملاءات الواجبات العلمية! وسأحاول في الأسطر القادمة أن أقف على ما حملته هذه الدراسة التي وصفها الدكتور بأنها محاولات (لفهم العقل العربي عبر الأدب) من معطيات تعصف بأملنا في الوقوف على فكرة محايدة، أو استنتاج مسبّب، أو براهين صادقة.

وسأحاول الوقوف على تساهل الدكتور في إطلاق التسميات بلا دليل، ووضع الفرضيات دون العناية بإثباتها، ومن ثمّ إقامته لحججه (في محاولة الفهم) على تلك التسميات الخاطئة تماماً..وعلى تلك الاستنتاجات غير المتسقة مع واقع ومعطيات العنصر موضع الدراسة.

متخذاً من وجود الكتاب في مكتباتنا، ودخوله في ثقافتنا سبباً لإيضاح حقيقته، وفضح أخطائه! منذ البدء يقع الدكتور تحت طائلة الخلط بين الهدف المعلن من الدراسة وعوامل التأزّم النفسي، والميل إلى الإفراط في جلد الذات، وصور الوقائع الثابتة، والتطلعات الفردية أو الجماعية.

والدكتور يغير أسباب التسميات بما يوافق ما يريد أن يقول، دون دليل تاريخي مؤكد، أو عقلي ثابت أو ملحظٍ مقنع.

وهو يخطئ في استخلاص معاني العبارات التي أوردها - كعبارات الطرطوشي في تاج الملوك- ويخطئ في تبيان معاني الشواهد الشعرية التي يعتمد نتائجها -التي أخطأ في استخلاصها أصلاً - أدلة على صدق نظرياته!

وباختصار سنجد في ختام قراءتنا أن هذا الكتاب لم يكن عقلانياً في دراسته للعقل، ولا موضوعياً في بحثه عن العلل، ولا منطقياً في ترتيبه للمؤثرات التي زعم أنه اكتشفها، ولا عادلاً في قسمته ولا في توصيفاته!

أسئلة مقيتة.. يبدأ الدكتور كتابه بتلك الأسئلة السطحية العامية الجالدة المتباكية..(لماذا يتغير العالم ونحن لا نتغير ؟...أو لماذا يتقدم العالم ونحن لا نفعل...هل نريد التغير فعلاً نحو الأفضل، وهل نريد التقدم الذي يحمل الكثير من احتمالات الراحة الفيزيقية والروحية)!

(1) وعلى هذا الأساس من الاقتناع الراسخ (بدونيتنا)..

وعلى هذا الأساس من التأزم النفسي الجارف، يقيم الدكتور في صفحات كتابه سلسلة من الاستنتاجات التي لا ترتكن إلى أدلة، ومن الأحكام المغموسة في كل ما وقر في نفسه من (تخلفنا وتقدمهم) وأشياء أخرى ستأتيك! البيئة المتخلفة..

يبدأ الدكتور دراسته للبيئة التي عاش فيها العربي القديم، ويعيش فيها العربي الجديد (المتخلف في نظره) بتعريف جغرافي غاية في السطحية أو التجني أو هما معاً، فهو عنده كما يقول: (الشرق في أفقه العربي يتشكل من صحراء واسعة مرادفة لمناخ حار جاف نهارا بارد رطب ليلاً)! وهذا التعريف - كما نعلم - غير صحيح أولاً..

وهو انسياق تام أعمى خلف تصورات الخيال الشعبي الأمي الذي كان يعتقد أن العرب منذ عاشوا كانوا ينبتون ويتوالدون ويموتون في أحضان الرمال..

و يمكن لنا أن نقبل من الأميين هذا التصور الساذج، ولكننا لا نستطيع أن نقبله من أكاديمي يناقش (بنية العقل العربي)..!

إن الخيال - كما سنرى - سيكون ذا أثر واضح في رؤية الدكتور التي على أساس اقتناعه بها يضع حكمه على العقل العربي، فيبنى على نتائج تصديقه لفكرة عيش العربي في صحرائه فكرة الرحيل الدائم بلا استقرار، وهذه الفكرة سيبني عليها فكرة البنية العقلية العربية غير المستقرة! وهي فِكَرٌ خاطئة تتابعت في كتاب الدكتور لتوصله إلى النتيجة المنتظرة من تلك المتاهات! والصحيح أن العرب استقروا في (جنّات وعيون) واستقروا على ضفاف الأنهر، واستقروا في القرى والمدن، واستقروا في (فضاءات صحراوية محدودة).

- مقدمة في تاريخ الأدب العربي ص 8 لا أقول هذا تخرصاً، ولا أكتبه عصبية، ولا ألقيه دون دليل.

فالعرب قسمان، قسم كبير استقر في بلادٍ ذات موارد طبيعية كافية، فمارس التجارة والزراعة، وثبت في تلك الديار (القرى والمدن) أجيالاً بعد أجيال، فليس من حق أحد أن يتصور أنهم يرحلون أو يتنقلون خلف مساقط الغيث، وليس من حق أحد أن يبني دراسته للبنية العقلية عندهم على افتراض امتهانهم لذلك التنقل، وافتقارهم لحياة الاستقرار.

وهذا القسم هو أكبر الأقسام، وأكثرها تأثيراً في الحياة العربية بأوجهها المختلفة، وأحقها بأن نقيس عليه الخصائص العقلية التي نريد اكتشافها.

وهو قسم غطى الجزء الأكبر من الأرض العربية، تلك الأرض التي لم تكن كما صورتها الرويات الشعبية صحراء مترامية الأطراف، قليلة الحيلة أمام منغصات العيش..

بل كانت الصحراء جزءا منها، وكانت بقية الأجزاء أرضاً خصيبة في اليمن والعراق والأحساء والطائف والمدينة والشام وغيرها، وهي مساحات كانت مأهولة بالقبائل العربية المستقرة المتمدنة.

وهذا القسم هو الذي أطلق عليه تسمية (العرب)..

في حين كانوا يصوّرون القسم الباقي من القبائل الرعوية بأنهم أقل منهم تحقيقاً لمعاني الحياة العربية، فأطلقوا عليهم كلمة (أعراب) تمييزاً لهم عن العرب المتمدنين.

الخطأ الشائع..

لا حدود لترحال الأعراب! يتصور البعض أنّ الأعراب من قاطني الصحراء ورعاة الإبل والغنم يمكن للواحد منهم أو للقبيلة أن تضرب في كل مساحات الصحراء العربية دون حد، وأن تتنقل من مكان إلى آخر دون حواجز! وهذا الخطأ الشائع لم نر أحداً - فيما علمنا- تنبه له أو صححه!

وعلينا أن نقول إن القسم البدوي من العرب أهل الغنم والإبل لم يكونوا - كما يتصور البعض أو يزعمون - يضربون في طول الصحراء وعرضها بحثاً عن الكلأ، ولهاثاً خلف الماء! ليس هذا التصور دقيقاً إلى الحد الذي يظنه أكثر الناس في زماننا! الحقيقة التي تغافل عنها الكثيرون تقول بأن لكل قبيلة (حمى) والحمى ليس ما فهمه أمثال الدكتور بأنه مورد الماء، ذلك المستنقع الذي يتكون بفعل هطول الأمطار - الشحيحة أصلاً - ثم ما يلبث أن يجف، لتنتقل القبيلة إلى مورد ماء جديد - حمى جديد - وهكذا..! كلا ليس هذا صحيحاً..

فالحمى يعني حدود القبيلة (جغرافيا القبيلة) تلك الجغرافيا التي يتم التنقل داخل إطارها، نعم يتنقل البدو بأغنامهم، لكنّ هذا الانتقال يكون داخل حدود قبلية معروفة، وكلنا يعرف مساكن القبائل من تميم وأسد وغطفان وبكر وطيء ومذحج وزبيد وغامد وبجيلة وعامر وعبس وسلول وغيرها..

هذه الرحلة خلف الكلأ لا تتعدى حدود القبيلة، قد يراها البدوي سفراً لأنه لا يملك الوسائل التي تعينه على قطعها بيسر (وقد أباح الإسلام الفطر للمسافر إذا قطع مسافة يحتاج في مثلها إلى حمل الزاد) والمسافة التي يحتاج الراجل فيها إلى حمل الزاد قد تصل إلى أقل من (خمسين كيلا) وهي المسافة التي لا تأخذ منا الآن سوى دقائق معدودات! ولقد طبّقتُ هذا التصور على ما كان يفعله آباؤنا من السفر إلى أماكن يرونها بعيدة، وأنا أسألهم الآن عن المدة والحال والطريقة، فتأتي إجاباتهم دالة على قدر كبير من المشقة لقطع قدر يسير - بمقاييسنا - من الكيلومترات.

من ذلك أن آباءنا - ونحن كنا نعيش في مناطق ريفية - إذا أرادوا التسوق من المراكز الحضرية التي تفتح أسواقها غداة السبت، يبدأون الرحلة بعد مغرب الجمعة، ثم يبيتون في أطراف تلك المراكز حتى الصباح، وبعد التسوق يعودون مساء السبت..

ليكون إجمالي الوقت الذي استهلكوه قريباً من (24) ساعة.وبقي أن تعلم أن المسافة الآن مقدارها (33 كيلومترا)! وأذكر تماماً في صغري - بعد أن تحولنا نحن إلى مركز حضري - أن معارفنا من القبائل المجاورة كانوا يأتون إلينا ليلة الأحد للمبيت استعداداً للتسوق في اليوم التالي، ثم يتسوقون يوم الاثنين ثم يبيتون ليلة الاثنين ثم يغادروننا غداة الثلاثاء.

محمد العامر الفتحي - أبها


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة