Culture Magazine Monday  11/06/2007 G Issue 202
قراءات
الأثنين 25 ,جمادى الاولى 1428   العدد  202
 

الرواية وتهمة الإساءة إلى الأخلاق والمجتمع
رواية (مدام بوفاري) أنموذجاً
أحمد علي الصغير

 

 

كل رواية ناجحة، هي جريمة ما، نرتكبها تجاه ذاكرة ما، وربما تجاه شخص ما، نقتله على مرأى من الجميع بكاتم صوت. ووحده يدري أن تلك الكلمة الرصاصة كانت موجهة إليه)

من رواية (ذاكرة الجسد) لأحلام مستغانمي

(1) المشهد: الاحتدام والفوضى:

بعض الأعمال الروائية تحمل في طياتها عنصر الهيدروجين القابل لإشعال قضايا مسكوت عنها، أو مختلف عليها، وحين تتعرض عقول بعض القراء للرواية وتعجز عن التوائم معها تحدث انشطارات فكرية لحظة احتكاك آرائهم بآراء لا تتفق معهم، وتبلغ تلك الانشطارات ذروتها حين يعتبرها فريق منهم خطيئة يجب أن يتاب عنها ويعتبرها فريق ثان فتحاً جديداً يستحق الاحتفاء، ويكثر الأخذ والرد وتعلو الضجة ويسعى كل فريق لجذب القارئ المحايد والمستمع الذي لم يقرأ لقطبه، ولما أن يخرج الأمر عن السيطرة يحدث ما يشبه القنبلة الهيدروجينية المدمرة، فتتخطى الرواية القارئ - هم المؤلف الأول - والناقد، وينتهي الأمر بها بين يدي المحكمة لتقوم الأخيرة بدورها وتفض الخصومة بين الخصوم الذين حضروا إليها، وتصبح نسخة القاضي النسخة الأهم، والتي سينطلق من قراءتها حكم لا يدور حول فنية العمل ولا بنائه ولا حبكته ولا يأخذ بنظرية موت المؤلف، بل إن لديه أجندة ونظريات مختلفة غايتها مصير الكاتب بناء على ما اقترفته يمينه، وهنا تعدم الرواية من الأدب في مشهد محزن، ويتحول الفعل الكتابي إلى جريمة، والمؤلف إلى مجرم وينبعث من هذا الجو اللاصحي أدب آخر يمكن أن نسميه (أدب المرافعات) يشحذ فيه المدعي والمدعى عليه أدلتهما وبراهينهما، وتكون قراءة مقاطع من النص (مسرح الجريمة) والتدليل بها لإثبات أو نفي التهمة، ومحاولة شد الانتباه نحو المجتزأ من النص وفن التعليق عليه أهم ملامح هذا الأدب.

ولأن الرواية بدأت تفرض نفسها على النتاج المحلي، ولأن سقف الكتابة أخذ يعلو أكثر من ذي قبل كنتيجة طبيعية لمتطلبات العصر، توجهت وزارة الثقافة والإعلام لفسح كثير من الروايات التي كانت ممنوعة سابقا ً دون أسباب مقنعة، إيمانا منها بمساحة الحرية التي يجب أن تتوافر للكاتب ليبدع ويفيد من أدبه. لكنني أتوقف بالمقابل حين أقرأ على بعض مواقع الإنترنت مطالبة بزج رواية محلية إلى المحكمة، وعلى الرغم من سماعي بوصولها إلى ردهات القضاء فعلا، إلا أن اللغط الذي طالها يجعلني أحجم عن الجزم بذلك، مكتفيا بما لمسته، متنازلا عن السبق وحسابات الرهان لغيري، مدققا ً في التفكير في المحاكمة بما يحمل من دلالات سلبية، وضرر الإيمان به كخيار إستراتيجي يمكن أن يتخذ ضد أي رواية لمبررات قد تكون عائمة بدعوى الحفاظ على المجتمع وأخلاقه.

تطل أمامي الآن مسألة الخصوصية برأسها، وما يثار دائما حولها باعتبار أن الرواية التي تُرفض وقد تحاكم لدينا ستكون معتقلة -حتى تثبت براءة كاتبها- بانتهاك خصوصية هذا المجتمع المختلف كليا عن بقية المجتمعات، والحق أن هذا الكلام حين يطلق دون قراءة لما جرى ويجري في العالم حولنا ستكون نسبة صحته مائة بالمائة، أما حين نخرج من العالم المحصور فينا فإن لدينا خصوصيات وبالمثل نخضع لعموميات نتقاطع فيها مع شعوب العالم التي جعلنا الله نتعارف وإياها وينتج عن هذا التعارف تأثر تأثير لتبقى الكرامة في النهاية مرهونة بالتقوى لا بالخصوصية، بل إن بعض الخصوصيات في نظري تجري من كل المجتمعات لتصب أخيرا في فطرة الإنسان فلا تكون كغاية حكرا على أحد، وهذا ما تؤكده قراءة لما أثير حول بعض الروايات العالمية والتي مورس بحقها اضطهاد ما من بعض أفراد المجتمع الذي ولدت فيه قبل غيره، وقبل أن أسترسل في الحديث سأقول كلمة إنصاف بحق تلك المجتمعات، فلقد عشت منذ طفولتي زمنا طويلا أسيرا لفكرة أن المجتمع الغربي -كله- مجتمع منحل ولا أخلاقي وترتفع في دمه نسبة الشهوانية والحيوانية، ولا تهمه القيم، ولست هنا بصدد الدفاع عنه، لكنني بت أرى أن كل مجتمع يحمل في نسقه الخير والشر، وأن تعصب أحدنا للخصوصية هو الذي يحدو به ليبخس الناس كل أشيائهم، وأحيانا يحمله شنآن قوم على ألا يعدل، وأستدل على كلامي بملاحقة بعض الأعمال الروائية في مختلف أنحاء العالم قانونيا ورقابيا، أي أننا لسنا وحدنا من يخشى بسبب حقيقي أو من دون وجود سبب على قيمه ومبادئه.

هذه الملاحقة المتجنية والصادمة - لاسيما حين يكون الخوف أكثر مما يجب- تؤذي العمل وكاتبه والأدب عموما، وتكشف عن عدم اقتناع بدور الأدب وأهميته في الحياة، وتحولهِ في نظر بعض الناس إلى لعبة لا فائدة منها أو يجب ألا تقتنى لخطورتها، ولست أريد أن يُفهم من ذلك أنني أدعو لكتابات متطاولة كما فعل البريطاني من الأصل الهندي (سلمان رشدي) في روايته (آيات شيطانية) التي هرب بعد كتابتها حين شعر بخطورة فعلته، أو شعر بضعف موقفه، وظل يتخفى بعد صدور روايته الاستفزازية تلك، حتى تم التدخل لرفع عقوبة الإعدام التي أصدرها الخميني بحقه، ووقف سريان إهدار دمه، بعد أن رصد مبلغ مليون دولار لم يأتي برأسه. ليس هذا ما أتحدث عنه، بل إن حديثي عن الروايات التي تكتب في إطار الذوق العام للأدب والأخلاق، ثم يضخم أمرها باعتبارها جريمة تستحق العقاب، ويمارس بحقها إقصاء ومنع. وأجدني مجبراً أن أقول ابتداء إن مثل هذا النوع من الملاحقة هو أعظم مسوّق للعمل الروائي، وإن من أخطار ذلك علم بسطاء الكتاب والمبتدئين باندفاع غير موجه بهذه الحقيقة ومن ثم جعلها ركيزة أساسية في أعمالهم بغية استثمار ردة الفعل العكسية في الوصول إلى الشهرة بسهولة وبأي ثمن، وستسهم بالطبع بعض فئات المجتمع في جعلهم ومؤلفاتهم قضية الرأي العام لغرض الحصول على رفض كلي لهم، لكن ذلك لا يحدث حين لا تكون ملامح التجاوزات المدعاة واضحة وضوح الشمس ويتعسر الجزم بأنها إساءة للأديان أو الأخلاق، وتزداد صعوبة إثبات ذلك حين يستنكر الكاتب اتهامه ويعلن ولاءه لأخلاقه ودينه، وعندها تقدم للروائي خدمة تسويقية كبيرة، فيصبح بين عشية وضحاها شخصية هامة تحدق فيها الأنظار طويلا وتتتبعها لكن عليها أن تعي أن هذا ليس من باب الإكبار إنما هو من باب الفضول. ويزداد خطر ذلك في المجتمعات التي تفرط في نرجسيتها، وتأبى أو تكره الحديث عن الأمور التي تمسها ؛لأنه كلما زادت محاذير الكتابة سهلت إثارة المجتمع، وزادت احتمالات ظهور أدبيات ليس الهدف منها مناقشة أمور المجتمع بوعي بقدر ما هو زعزعة لسباته بتمرد يصل ويتجاوز خطوط التماس دون أدنى قضية ليتسلى بالمجتمع حين يستيقظ مذهولا، باحثا عن هذا الذي يقلقه، وهنا تكون الرواية الواقعية المرشحة الأولى لخوض غمار المحاكمات. وحين نأخذ بعين الاعتبار عدم جدوى المنع الرقابي في عصرنا هذا، والقدرة على التخلص من أي عقوبة أو ملاحقة باستخدام الاسم المستعار الذي تجدد مع رواية (القران المقدس)- ليبقى الله وحده يعلم أي رحم حملها وأي دار ولادة أسهمت في إنجابها - والمدة التي سيحتاجها العمل -إن كان باسم صريح- حتى يصل إلى المحكمة، والفترة التي سيقضيها حتى صدور الحكم، والإيمان بأن الأحكام التي تصدر من المحاكم في أسوأ الاحتمالات لن تصل كلها للإعدام، علاوة على أن الحكم على الكاتب وعقابه لا يستطيع حسر مد المكتوب الذي سينتشر- بصرف النظر عن نوع الحكم له أو عليه- انتشار النار في الهشيم؛ فإن ناتج كل تلك التشنجات فوضى أدبية لا حد لها؛ لذلك لم أبالغ حين وصفت خط السير هذا بالانشطار الهيدروجيني، ليبقى الحل الأخير مقاطعة العمل شعبياً كمقاطعة المنتج الدنماركي. لكن المسألة التي يجب أن نعيها هي الفارق الكبير بين رواية يتجاوز عدد صفحاتها المائة غالبا، ويمكن تأويلها بعدد قراءها، وكاريكاتور صغير أو مقال صحفي يكون تحديد مقاصد المبدع فيه أسهل.

(2) قضية (مدام بوفاري) أنموذجاً: *

(رواية (مدام بوفاري) للروائي الفرنسي الشهير جوستاف فلوبير، أشهر رواد المذهب الواقعي في العصر الحديث وبالأخص الواقعية الانتقادية التي كرسها في روايته الأولى هذه فاعتبرت البداية الحقيقية للواقعية في العصر الحديث، وإجمالا فالرواية تتحدث عن خيانات إيما لزوجها شارل بوفاري، وتسلط الضوء على سقطات كثيرة في الحياة الزوجية.

وقد رُفعت ضد فلوبير قضية بسببها، اتهم فيها بارتكاب جرائم الإساءة إلى الأخلاق العامة والدين، ولن أركز هنا على تفاصيل المرافعة بقدر ما سأحاول الإضاءة على الخطوط العامة لها كأنموذج لملاحقة الرواية عالميا، بالإضافة إلى استقصاء للآراء المتناقضة التي تقف مع أو ضد العمل. وعلى الرغم من أن المحكمة قد حكمت ببراءة فلوبير؛ إلا أنها بدت غير مقتنعة في المكتوب عند تلاوة الحكم بشكل يوحي بعظم الأمر وتشعبه واحتياجه إلى نظرة تأملية عميقة جداً.

قلتُ إن هنالك فارقا كبيرا بين الكاريكاتور وكذلك المقال الصحفي والرواية وهذا ما اعترف به محامي النيابة العامة ارنست بينار في بداية مرافعته ضد فلوبير إذ يقول (عند مواجهة هذه القضية تجد النيابة العامة نفسها أمام صعوبة لا تستطيع أن تخفيها وهي صعوبة ليست من طبيعة الاتهام ذاته، فالإساءة إلى الأخلاق العامة وإلى الدين، كل هذه عبارات لا شك غامضة إلى حد ما ومطاطة بحيث يتحتم تحديدها، ولكنني عندما أوجه الحديث إلى نفوس مستقيمة علمية، يصبح من السهل التفاهم في هذا الصدد، وتكمن الصعوبة في طول الكتاب المعروض عليكم للحكم فيه، فهو قصة كاملة، وعندما يعرض عليكم مقال في صحيفة يستطيع الإنسان أن يرى فورا من أين تبتدئ الجريمة وأين تنتهي، أما هنا فما العمل؟ وما هو دور النيابة العامة؟ هل تقرأ الرواية كلها؟ هذا مستحيل، ومن ناحية أخرى فإن قراءة النص موضوع المؤاخذة يعرضنا للوم، فقد يقال لنا إنكم لم تعرضوا القضية بكافة أجزائها، وإنكم تهملون ما يسبق وما يلحق الفقرات المدانة، وهذا خنق للقضية وتضييق لمجال النقاش فيها) ثم يرى أن الحل الوحيد هو قص القصة كلها دون إدانة أو اعتراض، ثم قراءة الفقرات موضع الاتهام مع الإدانة، وأخيرا الإجابة عن الاعتراضات التي يمكن أن تنهض ضد الخطة العامة للاتهام. وقبل أن يبدأ إرنست بسرد القصة يقف على العنوان باعتباره عتبة أولى ودالا هاما على محتوى النص (ما هو عنوان القصة (مدام بوفاري))، عنوان لا يفيد شيئاً في ذاته، ولكن هناك عنوانا أخر بين قوسين (أخلاق الريف) وهذا لا يفسر فكرة المؤلف بل يشعرنا به، ثم يلخص الرواية دون إخلال، بيد أنه يضيف بعض التعليقات كقوله (هل أحبت مدام بوفاري زوجها، أو حاولت أن تحبه؟ لا، ومنذ البدء حدث ما يمكن أن نسميه مشهد التدريب، ولاحت لها حياة جديدة) بعدها يعرض المقتطفات التي يرى فيها نقاط الإساءة للأخلاق والدين، وفي أثناء هذا العرض يتحدث عما دار بين فلوبير ومدير تحرير دورية (مجلة باريس) التي نشرت الرواية على حلقات، حيث حذفت المجلة فقرات عديدة من النص، مورداً تعليق فلوبير على هذا التصرف (لقد دفعت بعض الاعتبارات التي ليس لي أن أحكم عليها (مجلة باريس) إلى أن تقوم بعملية حذف في عدد أول ديسمبر، ولما كان نفس التحرج قد تجدد بمناسبة العدد الحالي، فإنها قد رأت أنه من الملائم أن تحذف أيضا عدة فقرات، ولذلك فإنني أعلن تنصلي من مسؤولية السطور الآتية، وأرجو القارئ ألا يرى فيها إلا فقرات لا النص الكامل) وكأنه يريد أن يوضح إصرار فلوبير على ما كتبه بعد أن نبهته الصحيفة وحذفت الفقرات التي رأت في نشرها صعوبة كبيرة، فقابل فلوبير ذلك الحذف باعتراض واستكبار عن الرجوع إلى الحق كما يرى ارنست. وتجده يستشهد على اتجاه فلوبير السيئ الذي يراه، وحبه لتصوير المغريات بمقالٍ كتبه في صحيفة أخرى.. لكن ما موقفه من ضمير المؤلف؟


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة