Culture Magazine Monday  11/06/2007 G Issue 202
سرد
الأثنين 25 ,جمادى الاولى 1428   العدد  202
 

رجل وغربان

 

 

(خذوا كل ما تريدون ما عدا البحر)

غابريل غارسيا ماركيز

نفروا مسرعين.. بشباكهم وسلالهم ومجاديف على الأكتاف، باعة بعرباتهم الخشبية، وحطابون بفؤوسهم وحبالهم، وآخرون يهرولون خفافاً، جباه سمراء صباحية.. الحلوق منعشة بالقهوة المرة.. بكاء أطفال وثغاء مواش.. أحاديث رجال وقهقهات، وثرثرة النسوة أخذت تزيل الغبش عن جفون منتفخة.. بقايا من العجين تلطخ أياديهن.. ما زال الصباح في طراوته.. تفوح من الأسماك رائحة الملوحة والبحر.

غاصت أقدامهم المكدودة في الوحل البارد، السماء من فوقهم معدنية منذ البارحة، هبَّ نسيم بارد من البحر، تخلل مسام أجسادهم.. انكمشوا في معاطفهم الصوفية.. دست نساء أطفالهن الرضع تحت الإبط.. صعدوا تلا ترابيا ببطء، حاذوا مقبرة الحارة: بيوتات من سعف النخيل.. وصفائح معدنية صدئة.. وأخرى نصفها من طين والباقي من أخشاب رخيصة، تذكروا الحريق وجثث الكلاب التي تفحمت واعتصامهم بجبال الحارة وتحول البيوت إلى كتل هائلة من الرماد تلعب بها الرياح.. جاوزوا الدكاكين المغلقة.. انحدر سكان حلة العور من بيوتهم الحجرية إلى أسفل الوادي كي ينضموا إلى الجموع.. عبروا من خلال بوابة (باب المثاعيب).

تعثرت عجوز كانت تحمل فوق رأسها سلة مليئة بالخبز الزنجباري، وقعت فتناثرت أرغفة في الوحل.. تصاعدت رائحة خبزها الساخن إلى الأنوف.. واصل القوم طريقهم، ظهرت أمام أنظارهم قلعة (الميراني).. تعالت الأنفاس.. كثر الضجيج.. وقفت الجموع المتدفقة عند الموقع.. قرب مسجد (الخور) ربط السقاؤون حميرهم تحت شجرة النبق.. سعال.. اشتد نهيق الحمير ثم خفت.. ضحك.. مصافحات، ضرب على الأكتاف.. وضعوا الأحمال على الأرض، بيع وشراء.. تصفير وتصفيق وغناء.. أكل.. تطاير دخان التبغ في الفضاء.. أطفال يلعبون في المياه الراكدة، جلس بعض الناس عند السور وصعد آخرون فوق الجبل. * * *

دفعوا الباب، عساكر ببنادق وأحذية ووجوه ليلية، صرخ أحدهم: تفتيش.. تفتيش.. تفتيش.. قلبوا الصناديق القصديرية، بعثروا ما فيها.. ظلالهم المديدة كانت تتحرك على الجدران وبين الوجوه الفزعة.. فتحوا (المناديس) الخشبية، رموا ما فيها.. فتشوا البيت ركناً ركناً.. خرجوا إلى بيت آخر.. طرقوا جميع الأبواب.. صعدوا السطوح.. ولجوا (مسافر الخانات) تسللوا البيوت المهجورة التي رحلوا.. طافوا في حظائر المواشي.. هاجت الحيوانات.. فتشوا أقنان الدواجن.. غادروا الحارات وبدلاتهم العسكرية وأشداق بنادقهم وأسفل أحذيتهم ملطخة بروث الأغنام وريش الدواجن.. انبعثت رائحة الخرفان.

* * *

البارحة.. عند المغيب، قبل طلقات مدفع الميراني وصرير قفل الباب الكبير.. مر (عديم) على حارات (مسكد) كلها، بين أزقتها المعتمة.. يجوب بهدير طبلته مقرقعاً بيديه الزنجبيتين منادياً بصوت أجش:

(يا أهل مسكد.. يا أهل مسكد.. قبضوا على الجاني.. بكره يعدموه.. الحاضر يعلم الغائب.. الحاضر يعلم الغائب) طقطقت السطوح الخشبية، أشعلوا السرج، أوصدوا الأبواب، نبحت الكلاب، تلاشى درداب طبلة (عديم).

بدأ صوت المطر يزداد والسقوف أخذت تصر بشدة.

* * *

سيارة عسكرية كاكية اللون، مبقعة بصورة مبعثرة، عجلاتها ملطخة بالوحل.. يقبع في جوفها عساكر. شدوا على البنادق في حذر شديد، هدير السيارة يسمع من بعيد.. تعالت أصوات الحشد من كل صوب:

(جابوه الرجل.. جابوه.. جابوه.. جابوه..) توقفت السيارة مصدرة صريراً مزعجاً، هبط العساكر يحملون بنادق ذات ماسورات طويلة، تدافع الناس، ازداد الضجيج، تعالت الأصوات.. اضطربت الحمير المربوطة تحت شجرة النبق.. سقط وعاء الماء من ظهر إحدى الحمير.. قام خادوم برفع الوعاء الفارغ من على الأرض وإعادته إلى ظهر حماره ثانية بعدما أوجع الحمار ضرباً وسباً.

أنزل من السيارة، مقيد اليدين إلى الخلف، رجل قمحي اللون، بائن الطول، يرتدي قميصاً قصيراً وإزاراً، على خده الأيمن جرح غائر، سمعوا خفق نعليه المطاطيتين.. تسوقه عساكر بوجوه مكفهرة صلبة لا يهتز لها رمش، أحذيتهم هائلة جداً وهم يدوسون الوحل البارد، تلطخت الأعقاب بالوحل ساعة مرورهم بالساحة.

أخرج العسكري من جيب بنطاله القصير ورقة صفراء، أشار بيده اليمنى إلى الجمهور طالباً منهم الصمت. أسكت بعضهم بعضاً، شرع يقرأ بصوت مرتعش، ازدادت رعشته.. كانت قراءته متعثرة وشاقة عليه.. يسكت حيناً بعد كل كلمة.. فمه ينحرف جانباً.

أنهى الورقة.. أرسلها إلى جيبه، مسح الزبد المتكاثف بين شدقيه.. سعل.. صفق الحشد وزعقوا، نهقت الحمير.

قادوه إلى سفح الجبل، تأكد أحد العساكر من قيوده، صوبوا وجهه نحو المغارة.. غطوا عينيه بقماش أسود، للقماش رائحة العرق وأقبية الجلالي. تراجع العساكر إلى الخلف، طلبوا من الحشد الزاحف التراجع حتى سور المسجد.

عالج العسكري بندقيته بإتقان محترف. صوبها لم يدر لسانه في حلقه الجاف هذه المرة كعادته، أغمض إحدى عينيه.. تحركت الكتل البشرية، بلعوا ريقهم، اصطكت الأجساد، تصلبت الوجوه، انحدر من صدغي العسكري عرق حار، أحس برطوبة تحت إبطيه مع نسيم بارد يتسرب من كمي قميصه، ارتعشت كل الخطوط والنقط في وجه.. أدخل إصبعه في حلقة الزناد.

* * *

أحس الرجل بطفلته وهي تتسلق على كتفيه، دار بها حول الشجرة، ركض وراءها في حوش البيت، صرخ العسكري بقوة: لا تتحرك..

نفس العسكري وعينه المفتوحة انتقلتا إلى الرجل، ضغط على شفته السفلى والزناد، استطاع الرجل أن يسمع لعناتهم وتدافع أجسادهم، سمع وقع خطوات طفلته، سمع صوت البحر.. سمع نعيق الغربان، نهيق الحمير.

رأى ابنته حافية القدمين تضع على قبره أغصاناً من الرياحين، ترش قطرات من ماء الورد في أول صباحات العيد.. نظر إلى السماء.. ارتجفت ساقاه قليلاً.. أحس برائحة البحر تدغدغ شعيرات أنفه.. الآن يفك العقد الكثيرة من شباكه.. يتأكد من الصنارة، يهز قاربه.. يرمي بالشبكة بعيداً.. حرب الجبل، رائحة ماء الورد.. انزلاقة حوافر حماره في الجبل.. تجلت له الأنصال وهي تنحر الرقاب.. رقاب رفقاءه.. رقبة.. رقبة.. طلقة نارية سمع صداها في حارة مدبغة.. انزلقت الجرة من يدي زوجته فتهشمت.. طفلته جلست تلعب بدميتها القطنية تحت الشجرة.. تطعمها تمرات.. أكلت الدمية القطنية مبتسمة.. مسحت عن دميتها الطين العالق عند ركبتيها، انحى جسد الرجل، جلس على ركبتيه، تمدد فوق حصباء مبللة بمطر البارحة.. ارتخت عضلات رقبته.. شهق كالبحر.. توسخت نعلاه بدم ساخن.. إزاره تمزق عند الركبتين.. قميصه صار مثقوباً من الخلف ناحية الرقبة.. اختلطت دماؤه بالوحل.. شيء من الزبد تكثف حول فمه المفتوح.

وصلت العجوز بسلتها، تسبقها رائحة الخبز الصباحي، أصابعها مصبوغة بالوحل، ملابسها مبقعة.

ظهر في السماء سرب من الغربان.. دارت في الجو... أصمّت الآذان بنعيقها ثم عادت ثانية إلى البحر...

خالد عثمان البلوشي عُمان- مسقط 2006


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة