الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th July,2005 العدد : 114

الأثنين 5 ,جمادى الثانية 1426

مرايا وخفايا.. (الأسطح والسراديب)!!
يوسف عبدالرحمن الذكير

أربعة نصوص متفاوتة الأطوال، متباينة الخلفيات والمضامين، هي ما يشكل باكورة عطاء الكاتب الواعد (عبدالواحد الأنصاري)، ضمن مجموعة قصصية، استقت عنوانها من عنوان أول نصوصها (الأسطح والسراديب)، ربما لاستحواذه على نصف عدد صفحاتها البالغة (246) صفحة، فارداً سطوره على (123) صفحة منها، بما يوازي عدد صفحات النصوص الثلاثة الأخرى مجتمعة.
نص سردي أشبه ما يكون بلوحة جدارية فسيفسائية، ما أن يقترب المتمعن من ولوج أولى ملامحهان حتى يتبين بأنها ليست لوحة واحدة بل مجموعة لوحات!.. لوحات تنتمي لمدرسة الواقعية، العاكسة كالمرايا الصقيلة، ما أمامها من واقع مُعاش، دونما حرج أو وجل.. لوحات سردية تستعرض بواقعية مسار شاب في متوالية زمنية، تتباين ألوانها، وتختلف خلفياتها باختلاف مراحل نشأة، وصبوة، وشباب، ساردها.. لكنه مسار حاد المنعطفات، متضارب التضاريس، يكاد يُقطع أنفاس مقتفية، لما يحتويه من قفزات وتباينات شديدة الاختلاف!
فمن طفولة في مكة المكرمة ترتسم براءة ملامحها في ألعاب (الخطة) وامتطاء عُصّي المكانس، والاستجابة لنداءات باعة (الآيس كريم)، وتعكس رتوش لوحتها تبرعم مشاعر الخجل والوجل والحياء، وميول للأنزواء، إلى قفزة فجائية لفتوة في أمريكا، بكل ما تفرده من مغريات، وانفتاح عامر بالمنزلقات، وخاصة إن جاءت في أعقاب مرحلة صبى، في الرياض المتسمة بالتزمت والانغلاق!.. ومن وصفٍ لتحولات مأذنة وتغيرات أحوال مؤذن مسجد إلى سرد لمجريات أحداث ليلة في ملهى، بكل تأوهات غوانيه، وتعطش مرتاديه!.. صور متناقضة متلاحقة، لما مرّ به جيل بواكير (الطفرة) وما أعقبها، من تناقضات اجتماعية وتقلبات اقتصادية، وتشنجات فكرية وسياسية.. ضمن مراهقة في المرحلة الثانوية في مجتمع، تزمته لا يتيح التنفيس عن تلك الفترة الحرجة، سوى من خلال التعلق العاطفي للذكور ببعضهم البعض، فترى اسم الوسيم منهم يُكتب بإعجاب على أبواب مراحيض المدرسة وباطن طواقي العديد، بل وحتى شديدي التدين منهم.. إلى مرحلة جامعية في أمريكا تبيح إقامة علاقة لصيقة ما بين الجنسين.. ومن بحبوبة مادية إبان المرحلة الجامعية، إلى انكماش اقتصادي يكاد يغلق أبواب فرص العمل في وجه الخريجين منهم حتى من أمريكا، بكل ما يحمله ذلك الانكماش من تداعيات اجتماعية، قلبت ما يلون أمال الشباب من ألوان تفاؤلية زاهية، إلى قواتم تشاؤومية ربما كان أبلغ ما عبر عنه ما دار من حوار بين شابين، يقول أحدهما لصاحبه وهو يحاوره:
ربما من الأفضل لك ولي أن نبقى عازبين، فبعد ثلاثين عاماً قد يسافر ابناؤنا بحثاً عن الرزق في بلدان أخرى.. فيجيبه بقوله:
من يدري قد أتزوج ولكن سأعتبر من يقول لي (منك المال ومنها العيال) بمثابة دعوة بالويل والثبور.
دون أن تغفل صفحات تلك المرايا إبراز ما شاب تلك المراحل من تشجنجات فكرية وسياسية، كاجتراح فتنة (جهيمان) لألوان لوجه براءة الطفولة في مكة، وتداعيات تفجيرات الرياض حتى على النزهان البريئة للشباب خارج الرياض، وما نالهم من مضايقات، التي وصلت إلى حد اعتقال البعض منهم، لمجرد تشابه السمات مع بعض المطلوبين!.. لينتقل محور القصة إلى (عياش) وما طرأ على حياته من تغييرات إبان تلك الحقبة، بإسهاب يلامس الأملال، لو لا غموض ما آل إليه (عياش) من مآل، وتفرعات ما حاق بأصحابها من تطورات سهرات (البلوت)، إلى انغماس في صناعة وتجارة خمور وأدمان، بكل ما يكتنف ذلك السرد من آثاره، ملاحقات الشرطة والمباحث وما انتهى إليه ذلك الانحراف من تباين ما بين توبة وسجون!.
***
النص الثاني (ساطور لأحلام خميس) يختلف كل الاختلاف عما سبقه، نمطاً وانتماءً وشخوصاً وحبكة، بل لو لا أن جمعهما غلاف كتاب واحد، ووحد ما بينهما أسلوب كاتب واحد، أسلوب حساس يتمتع بحواس فائقة الاستشعار، لا تغفل رائحة نتن أو أريج دون وصف، ولا تهمل تضاريس مكان أو أحاسيس دون لمس، يسبك في قالب سردي، مفعم بالكنايات المستقاة من خيال خصب، كقوله على سبيل المثال لا الحصر يستحيل فرزه، ضمن كتاب طافح ببديع التعابير، كوصفة للغسق بالقول: كان الليل إذا قتل الشمس، وزعها قطعاً صغيرة في ثنايا جلبابه، يسميها الناس نجوم).
لو لا أن ضم النصين كتاب واحد، وجمع ما بينهما أسلوب واحد، لربما اعتقد المتصفح لسطور النص الثاني، بانتمائه لأديب ثاني!..
ففضاء (ساطور لأحلام خميس) أشبه ما يكون بكوننا المترامي، بلا حدود مكانيه، أو قيود زمانية، فالنص يروي ملحمة عبد رقيق سماه سيده باسم يوم مولوده خميس مثلما سُمّي والده (جمعة) ووالدته (عيدة) لقدومها في يوم عيد.. يترعرع خميس في مخيم بدوي في مكان ما، من صحارينا، لا يبعد كثيراً عن زمان ملاحم عنترة وشيبوب، والشنفري وعروة بن الورد.. لكن محور النص لا يتمحور حول خميس، بل يدور حول أحلامه!..
أحلام تطال نوال (مزون) زوجة سيدة (غالب)، مما قد يعيد للأذهان أشعار أشهر عبد عشق وشبب بنساء أسياده.
للعاشق الشهير (سحيم عبد بني الحسحاس)، الذي طالما اجتذب أشعاره شباك الإعجاب بها، العديد من الأدباء، وربما كان آخر من اصطادته أديبنا المعاصر المبدع (غاز القصيبي) الذي أفرد مؤلفاً خاصاً عن ملهاة أو مأساة ما نال قائلها من مصير تعزيز مهلك ولكن (خميس) يحلم بامتلاك نخيل تقلب الموازين حين يكون هو من يفرق خيرات ثمارها على من يشبه سيده بشره وسحنه، فيما حلمه الكبير هو الهجرة إلى شطئان حدثه عنها، راعٍ زميل، حيث يسكن أمثاله من دواكن البشرة دونما أسياد متحكمين، بل أحراراً ينعمون، بما يجوز عليهم خليج كريم من خيرات نهاراً ويتنعمون بزوجات مخلصات في الليل البهيم.. إلا أن ذلك الحلم سرعان ما يؤد بساطور، أطاح بذلك الحلمن مثلما أطاح بساقه المصابة بالغنغرينا، إثر تفاقم جرح في ظل انعدام العلاج!.
فهل يرمّز (خميس) لتوق المجتمعات العربية للحرية، بعد قرون من الاستبداد والاستعباد؟!. وهل ينل خميس لثقة سيده، رغم ما يسرقه منه من حلال وأموال، رمزاً لما تعاني منه مجتمعاتنا العربية من فساد؟!. ما تلك سوى نزرٍ يسير من جم تساؤلات ينضح بها جُب ذلك النص المثير!..
***
أما النصان الأخيران فقد لا يرتقيان إلى مستوى ما سبقهما من نصين. فالنص الثالث (المتقلب في منامه) يغرق القارئ العائم في أمواج من الغموض والأبهام، وتيارات رمزية حالكة الأظلام، قد لا يستسيغها سوى غواة الأبحار في شعر الحداثة، المتطأ على غرابة الألفاظ، وعشق الابتكار، فلا يردي الوالج لتلك المتاهات مثلما قد يحتار القارئ للنص الثالث، إن كان ما يقرأ هو نتاج أضغاث غفوة أم هذيان صحوة، تختلط فيها رموز وأشعار، وتعابير فلسفية وأخرى عن أزدواجية شخصية وعقد نفسية، من خلال مروية، لا تخرج أحداثها المحكية عن غفوة زوج مهووس بالنساء إلى جانب زوجة غيورة، ونبش منقار دجاجة لباحة الدار!!.
غوامض وإيهام يكاد يختفي أثره في النص الرابع الأخير (يومان في جبل) الدائرة أحداثه في مكة المكرمة، لو لا متاهة الإسهاب في الوصف الجغرافي، لا لشعاب، وشوارع وجبال مكة التي يعسر على غير أهلها معرفتها فحسب، بل والوصف المساحي التفصيلي لمكونات منازل شخصيات النص، بكل ما تحويه من حمامات وشرفات وغرف وإطلالات، فإن كان هناك من ميزة للنص، فهو ريادته في إلقاء الضوء على شرية شبه مهملة من سكان مكة خاصة والحجاز عامة، سواءً من الغرباء من بقايا الحجاج والمعتمرين، أو الشريحة المهمشة من فقراء المواطنين الذين لم يغن لهم بما شهدته البلاد من طفرة اقتصادية استثنائية، سوى زيادة الغلاء، وتفاقم الفقر والعناء!..
وأخيراً لابد من القول إن المرء ليعجب بمدى رحابة ما تتطرق له مجموعة (الأسطح والسراديب) من مضامين وشرائح اجتماعية، وما تمتاز به من صراحة وجرأة في سرد لا ينقصه جزالة الأسلوب وسعة الخيال وبديع التعابير، مما يبشر ببزوغ نجم صاعد في سماء فضائنا الأدبي، جدير بكل ترحيب.
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved