الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th July,2005 العدد : 114

الأثنين 5 ,جمادى الثانية 1426

صدى الإبداع
النقد بالسياط «33»
د. سلطان القحطاني
تحدثنا في الحلقة السابقة عن الدور الذي قام به الشعراء الذين استثناهم الله من الغواية، والشعراء الذين كان لهم الدور الذي خلده التاريخ، بينما لم يخلد دور القادة، لولا المتنبي لم نعرف سيف الدولة إلا في كتب التاريخ الصفراء، ولا جغرافية عمورية، ولا شجاعة المعتصم بالله العباسي.
ولكن لماذا مدح الشعراء ملوكهم وأمراءهم؟ هل لأنهم اتفقوا معهم على صفقة معينة؟؟ أو أنها الحماسة والإخلاص للوطن؟ أو الرغبة في العطاء؟ قد تكون مجتمعة، وقد يكون بعضها، لكن لا يهم ذلك، المهم في الأمر أنَّ الأمير يعرف ما يقال له، وان الشاعر يقدر فهمه قبل عطائه. وسأكتفي بذكر حادثة واحدة حدثت للشاعر (المهذب ابن سعد) عندما انتصر صلاح الدين على الصليبيين، فقيل للمهذب لماذا لا تمدح الأمير وتهنئه بالنصر، فرد ببيت من الشعر، يكفي ان يفهمه من أشار عليه بذلك، ولم يهتم بما سيحصل عليه من المال:
أأمدح الترك أبغي الفضل عندهم
والشعر قد كان عند الترك متروكا
فهل نقول ان هذا الشاعر، وأمثاله الكثير، يعرف انه لن يحصل على مكافأة من الممدوح، فقدم هذا العذر؟ اعتقد ان الجواب سيكون بالنفي. فالمبدع الأصيل لا يبيع ابداعه بهذه الطريقة الفجة، ما لم يكن تحت ضغط الحاجة، فالهم الأول معرفة من يقدم اليه الابداع، وعزة النفس من طباع المبدعين، بدليل ان اغلبهم كان يعيش حياة الفقر الشديد ولم يرخص كرامته أمام مَنْ لا يستحقها.
وسواء أكرم زهير من يد هرم بن سنان بالكثير أو القليل، فقد ذهب ما أعطي وبقي ما أعطى حسب تعبير عمر بن الخطاب. وذهب المال الذي اعطاه سيف الدولة الحمداني للمتنبي (ولم نشهد عليه) لكنا شهدنا ما تركه لنا المتنبي من جواهر الأدب النفيسة والحكم الغالية.. ولو تتبعنا هذا الموضوع لطال بنا الحديث.. وباعتراف صلاح الدين الأيوبي بفضل قلم القاضي الفاضل عليه وانه لم ينتصر على الصليبيين إلا بفضل رسائل القاضي الفاضل نفسه. ومن هذه الادلة التي أوردناها على عجل عن الجانب الآخر في الأدب العربي على انه سبب في النصر وليس الهزيمة، بعكس ما ادعى اصحاب الآراء المتطرفة ومن شايعهم من أصحاب البضائع العلمية القليلة. فهل إبراهيم فلالي رحمه الله لم يطلع على هذا الأدب عندما قال في مقال ضمن كتابه (المرصاد) يدعو الشعراء الأمويين والعباسيين للعودة الى قبورهم، فهم لا يصلحون لهذا الزمن، فهم شحاذون متطفلون على موائد الخلفاء والأمراء، وغيرهم (انظر: النقد الأدبي في المملكة العربية السعودية، ص 115) وسبق ان نشر الفلالي هذا الموضوع في الصحافة السعودية سنة 1945م، ومن العجب ان يتكرر هذا الموضوع في كتاب النقد الثقافي سنة 2000م، وقد اضيف اليه بعض الشعراء الذين ظهروا بعد تلك الفترة التي اشرت اليها. وإذا كان الشعراء (يقولون ما لا يفعلون) وان هوى الشاعر يغلب عليه فيعبر عما في نفسه، فإن هذه طبيعة البشر، وكل انسان يقرأ النص من الزاوية التي ينظر منها، فإذا نظرنا الى المتنبي (الشحاذ) وهو يمدح ليعطى، نجده في المقابل يهجو عندما خاب امله في كافور، لكن في كل من الحالتين ترك لنا جواهر من الأدب والفن الراقي، في الاسلوب واللغة والبناء الشعري. ومثله ابن المقرب، الذي ذهب عندما ساءت حالته المادية والمعنوية لمدح أمير الموصل (بدر الدين) وهو أرمني مملوك في دولة بني أيوب، وعندما خاب أمله فيه هجاه بقوله:
تسلط بالحدباء عبد للؤمه
اخو بلاء عن كل مكرمة عمي
إذا أيقظته لفظة عربية
إلى المجد قالت أرمنيته نم
لكن النقد له قوانينه، وفي مقدمتها (التجرد) ومعاملة النص من جميع جوانبه، وليس من جانب واحد. ففي الوقت الذي يقال عن الشاعر (شحاذ) كبير!! ربما يكون هناك شحاذ صغير!، وفي الوقت الذي ينقد فيه هذا الناقد ذلك التراث العظيم، يمدح نصوصاً لا تستحق كل ذلك المدح، فأي تناقض هذا في عالمنا الثقافي؟؟!! وأي عقوق لآبائنا الكبار؟!. لقد لفتت الدكتورة نورة الشملان، في مقال كتبته في جريدة الرياض، يوم الخميس 95 1426هـ نظر القارئ إلى هذا التجني، وأوضحت مقدار القيمة الفنية للشعر عند الأمراء والخلفاء، فهم ابناء سليقة عربية يعرفون بها المعاني ودلالات الألفاظ، ودللت على ذلك بمطلع قصيدة ذي الرمة: (ما بال عينيك) ومدى تقبل عبدالملك بن مروان لذلك التعبير. وما ذكرنا في الحديث السابق من الآراء يصنف من النوع الذي ذكرت أنه لا يُلتفت اليه، فالمتنبي بقي وبقي شعره، ومقال الفلالي لم يحدث رأياً يمكن ان يقوم حوله نقاش، وقد اعتبر من السفه الذي يمر به العاقل فيتجنبه، بل يقول (سلاما). وقد يأتي هذا من أناس كنا نظن فيهم الخير او على الأقل نحسن النية بهم، وقد تجاوز البعض منهم سن الكهولة الى ما وراء ذلك، بل ان البعض منهم ادعى حماية التراث الإسلامي العربي، بإقامة المنتديات والجوائز، وبيت الفرقان (في لندن)، لكن خيبة الأمل قد تأتي كلاً منا على غرة من أمره، فيصدم من هذه الأفكار الغريبة.. البعض يقول انه لم يكتشف أخطاءه إلا متأخراً عندما رجع الى بعض النصوص، وكأن هذه النصوص ظهرت قبل يومين؟!، والبعض يكتشف بعبقريته الفذة نصوصاً قرآنية لم يكتشفها الأولون ولم تكن على بال مَنْ دوّن القرآن من أصحاب الفضل والصلاح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأننا كنا نعيش في جهالة بديننا حتى بعث الله لنا هذه الفئة!!.. عجباً ما نرى ونسمع ونقرأ هذه الأيام، وما أشد ذلك الخبر الذي أورده الأستاذ عبدالله عمر خياط في مقالته الأسبوعية (حديث الأربعاء) في 151426هـ ومفاده ان احمد زكي يماني يقول انه عثر على نصوص من القرآن الكريم، خبأها بنو أمية عندما جمع القرآن الكريم، واحتفظ بها عبدالرحمن الداخل معه إلى الاندلس.. واعجب من ذلك ان احداً لم يكتشف هذا الحدث العظيم قبله!. واليماني لم يأتِ بجديد، فقد قال ذلك غلاة الشيعة منذ قديم الزمان، ولم يلتفت احد الى هذا القول الناشز من كل طوائف المسلمين وغيرهم إلا من كان في قلبه مرض، فهل هذه تقليعة جديدة من الشيخ اليماني؟ أم أن ذلك هوس الشهرة التي لم يشبع منها؟ الجواب عنده إذا أراد. أما أنا فأستودعكم الله إلى ما بعد الصيف.
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved