الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th July,2005 العدد : 114

الأثنين 5 ,جمادى الثانية 1426

استراحة داخل صومعة الفكر
صراع مع النفس
عبد الرحمن صالح العشماوي
سعد البواردي
102 صفحة من القطع الصغير

الصراع مع النفس جهاد.. والجهاد جهد ومشقة وتحمُّل لا يقوى عليه إلا الأتقياء الأقوياء.. النفس أمارة بالسوء إلا من رحم ربي.
تبقى الإرادة اليقينية هي السلاح.. ويبقى الإيمان شعلة ضوء تكشف للمدلج خط حياته كي يتحاشى عثراته.
شاعرنا العشماوي واجه نفسه في صراع لا نعرف نهايته ولا بدايته في معركة ومنازلة هي معركة ومنازلة كل إنسان يتحرك على وجه البسيطة بين هداية تدعوه.. وغواية تجتذبه.. هل أفلح شاعرنا في شعره؟ ما أظنه أخفق..
في ديوانه ومنذ بدايته محطات خمس لا بد أن نتعرف على ما بداخلها من هواجس.. ولكي نتعرف لا بد أن نتوقف ونتأمل:
في محطته الأولى خطاب نثري أشبه بالتعريف لا يحمل شعراً.. وإنما نثراً جميلاً لا دخل لنا به.. وفي الثانية يتحدث:
يا رغبات نفسي
أنتِ الليلة بلا شك
ولكن عقلي يرفض الكثير منك
لأنك لا تتفقين معه
نفسه عزيزة عليه إلا أنها تهوى ما لا يحبه العقل وتلك معضلة.. وتأمره بما يؤنبه عليه الضمير وتلك مشكلة لهذا يخاطبها:
عفواً يا نفسي
فلست أنا الذي أصدرت عليك هذا الحكم
بل أصدره عليك الذي أوجدك
هو أدرى بك..
إن النفس لأمارة بالسوء..
خطاب أشبه بالعظة.. نتجاوزه إلى المحطة الثالثة:
يا وردتي الجميلة
أحب أن أمد إليك يدي
ولكن قلبي يأبى
أن يراك بعد قليل ذابلة ذاوية
يا ساعة الهدوء
أتمنى أن أعيشك ذات يوم
ولكي يراها يتمنى لو أنه يعرف مكانها إلا لحظة صلاة يتجه فيها إلى ربه.. وحتى في لحظته تلك فإنه يعاني كثيراً بحثاً عنها لأنها ساعة هدوء..
والهدوء في عالم يسكنه الضجيج والصخب عملة نادرة يعز الحصول عليها..
محطته الرابعة مع رفاقه، وإليهم يخاطبهم في حب:
يا رفاقي لا تخيبوا الأمل فيَّ
وإن رأيتموني قد أخطأت
فلربما ساعة صراع مع نفسي
كنت فيها مهزوماً..
فأعينوني على نفسي، ولا تنبذوني
وأخيراً، وليس آخراً محطته الخامسة يشخص فيها ومن خلالها نوع ذلك الصراع:
هذه حقيقة الصراع مع النفس
يعيشها كل إنسان ويعاني منها كل وجدان
وليس الناس جميعاً يتحدثون عنها
إن الذين يجسدونها للناس
هم الأدباء، والأدباء الأحلام
خمسة خطابات نثرية وعظية تحمل الفكرة ولكنها لا تصوغها شعراً.. وإنما تجربة فنية يبتعد بها عن بحور الشعر على مقربة من شطآنه..
نلج مع شاعرنا العشماوي بوابة شعره مأخوذين بالحيرة للوهلة الأولى:
أنشد الراحة أشكو الألما
أطلب المستقبل المبتسما
وأناجي طيف آمالي فما
أسمع الأصوات إلا نغما
كلنا ذلك الذي يطلب ويتمنى، ولكن:
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
شاعرنا أخذته المشاهد من حوله.. ورده يدعوه إلى بسمة المشوق كي يمحو ألمه.. الصرخة من أعماق الدهر. نفسه التي تخشى الندم كلها تجسدت أمام أفقه كالجبال لا يملك لهما اختراقاً.. كيف والكون يتيه بأسراره بينما هو ينزف دمه شراباً له..
يلتفت إلى الناس من حوله وقد تملكه العجب:
عجباً للناس في أهوائهم
يطردون الواقع المحتشما
يطلبون العيش في أوكاره
ويهزون الأماني أسهما
أمر يدعوه إلى السخط والتبرم والاحتجاج:
وَيْحَكُم ما العيش إلا قسمة
فارتضوا من عيشكم ما قسما
حياة الإنسان يا صديقي مجبولة على الطمع والجشع.. حتى القناعة الكنز الذي لا يفنى يراها المفتونون بنهمهم ضرباً من العجز.. إنما العاجز من لا يستبد.. وهذا غير صحيح.. شاعرنا خلد إلى نفسه في تأملات استغرقت منه بعض وقته:
لا تسألي عن ضيق صدري
أنا مغرم بخلاص أمري
أمضي وإيماني غريمي
والهداية رأس أمري
إنه يقطف من جني أيام تجربته.. يسابق الحياة جرياً مزوداً بزاد إيماني لا ينفد.. متذكراً نشأته.. ومن ماذا كان:
أنا نطفة أصبحت إنساناً
فكيف جهلت قدري؟!
ولِمَ الترفع عن تراب
منه سوف يكون قبري؟!
عظة مملوءة بحكمة التذكير يسوقها لمن سيطرت عليهم نزعة الغطرسة والكبرياء والتعالي عن البشر البسطاء.. ويلتفت أخيراً إلى أمه يطمئنها على دوحة شعره التي اختارها سكناً:
أماه لا تخشي عليَّ
دخول صومعة المعري
لا.. لا تخافي سوف تمكث
بسمتي حواء ثغري
اختار بسمته شريكة حياة شاعره..
في هجمة الليل تحلو الفكر.. ويحلو السمر.. ويستجمع المجهد أنفاسه المكدودة.. والشعراء الأكثر من غيرهم طلباً للهدوء والدعة:
قمر ساطع وليل جميل
ونجوم للسائرين دليل
وهدوء مخيم وصفاء
ونسيم يهب وهو عليل
ماذا بعد هذا الجو الرومانسي؟ بماذا أوحى؟ ركام من التوصيف للمرئيات من حوله دون أن يعبرها إلى ما بعد المرئيات، فالأشجار.. والنغمات، والنسيم العليل، والخيال، والبسمات، والمرح، والأماني الراقصة كلها مشاهدة من منظار الحس ومنظور العقل حتى مع صحبة الليل وضجيجه.. لا شيء أضافه أكثر من اجتراره لأمنيات حزينهن جميل فهل هذا يكفي؟
وأنا مثقل الخطى أتملَّى
ذكريات حزينهن جميل
ذكريات تسير في حلل الشوق
ونجوى يغار منها الخليل
ويذكِّرنا شاعرنا بما نذكر:
إن في هجعة الليالي جمالاً
لا يساويه في الجمال مثيل
بل يساويه ويتفوق عليه جمالاً أن ننتزع من سواد الليل دلالاته.. ومن ضوء النجوم إيحاءاته.. ومن سكون الحياة ما وراء السكون. المعري الذي اصطفيت صومعته نزلاً أعطى لنا فلسفة المكان، والزمان، والإنسان.. وهذا ما كنت أتحسسه دون أن ألمسه في تأملاتك (القصيدة).. علَّنا نلقاها في مكان آخر..
(هكذا الحياة) هل تكون بيت القصيد لما انتظره؟
نفسك عني ففي حياتك أنس
واطمئني فلن يصيبك بؤس
رفرف السعد في ظلال الأماني
وأضاءت لنا من الخير شمس
لعله اقترب مما نهفو إليه من تأملات حياتية مشبعة بصورها:
كم تدوي الألفاظ عندك نشوى
وتطل الحياة تقسو وتأسو
ثم تخبو في عالم تتهاوى
فيه آمالنا كأنما هو رمس
لا تكاد الحياة تضحك يوماً
للبرايا، ويملأ الكون أنس
ويغني السرور حتى نعاني
من أساها ويعقب الأنس تعس
هكذا يا شاعرنا يأتي طرح الصور لا استعراضاً لمشاهد ثابتة.. وإنما استغراقاً في دلالات فلسفية موحية بأسرار الحياة وحكمتها.. على وقع الرضا تأتي الابتسامة عريضة تغمر الوجه وتطري الملامح الجافة الجامدة.. ابتسامة شاعرنا وهو يحمل شارة الأمل لمن يعتصره الألم في حياته.. إنه البائس.. ولا أقول اليائس كما سمَّاه فاليأس دون ابتسامته فرط القتاد:
أيها اليائس هذا اليأس
.. والوجد علامه؟
هذه الدنيا ستخطوها
إلى دار الإقامه..
كم غريق في هوى الدنيا
جنى منها الندامه..
كم محب ترك الأحباب
فيها..وغرامه
ومضى عنها ليلقى
غاية السعي أمامه
في محاولة للتسرية عن نفس البائس يخاطبه:
أيها البائس دعْ عنك
التشكي والسآمه
وابتسم.. واصبر على الدنيا
ففي الصبر السلامه
كم قلوب بددت عنها
الأسى بابتسامه
جميل أن نخفف عنه غلواء بأسه.. وأن نحاول تجفيف دموعه بالعظات الحسنة إلا أن هذا الجهد المقل.. إنه وحده لا يكفي.. وإنما الأخذ بيده عوناً ومساعدة تنقذه من بأسه وشكايته.. الكلمات وحدها لا تشبع ولا تغني من جوع..
شاعرنا العشماوي يعتمر لباس وحدته ناشداً ومناشداً عصفورته عدم عذله:
لا تعذليني.. إن رضيتُ بوحدتي
وجلست وحدي
إني أحب الروض
أهوى العيش
في أكناف ورد
عصفورتي..
ولكم سكبت الدمع
في قربي وبُعدي
لا بد أن خاطرة مؤلمة اعتصرت وجدانه فأسالت دمعه من محاجره:
لما رأيت ذوي الوفا
جفوا مع الأيام عهدي
هو شاعر يستطيب لوحدته روض المساء.. وهواية السكون، ونجوم الليل، وشعاع البدر لكل هذا استمر به البث:
عصفورتي..
أوَ ما علمت بلذة الروض الجميل؟
همس الغصون كأنه
همس الخليل إلى الخليل
ويسائلها بعد كل هذه النجوى:
أوَ تحسديني أن أشا
ركك السعادة في الحقول
هيَّا بربك غرِّدي
فلعلني أشفي غليلي
لم تشفع له كل هذه النجوى.. كان صوت عصفورته صامداً.. لم يغرد له لأن الطيور حرة لا تأنس بالعزلة ولا بالانزواء.. ولا بالقفص حتى ولو كان من ذهب.. إنها تشتاق حرية الحركة وسط صخب الطبيعة وحركة دولابها الذي يدور دون توقف..
ومع رفيقة عمره وهي تناوره.. وتحاوره.. تسأله.. وتسائله:
قالت لمثلك أن يُبرَّا
ولمثل قلبك أن يُسرَّا
إني وهبتك يا رفيق
العمر إحساساً وقدرا
ما لي أرى البسمات تحيا
تارة.. وتموت أخرى؟!
فأجبتها والجرح يبعث
لوعة.. ويثير أخرى:
أنسيت أني شاعر
ما عاش يوماً مستقرا
يحلو له طعم الحياة
سويعة.. فيعود مرَّا؟!
إجابة ملؤها القناعة لغير شريكة الحياة.. إنها تنظر إلى رفيقها بعين من الخوف والغيرة على حبها.. تخشى الصدود.. وتخاف أن يكون انشغاله بداية تغيير في مجرى حياته.. أي حياتها..
وإذا كان للشاعر نغم حزين يثير في دواخله اللوعة والحرمان والخوف فإنه أيضاً وبالمقابل يمتلك نغم الحنين الذي يهيج عاطفته، ويثير عاصفة وجده..
النغم الحزين هذه المرة كان خطاب قيثاره.. وثقافة أوتاره.. وعصارة الحكارة:
ردِّي السلامة واعذريني
فلقد رست سفن الأنين
وشراع عمري لم يزل..
يجري على الحنين..
لقد ثارت موجة الذكريات بدواخله.. أمله حائر، وصبابته تحتويه.. لهذا لا يمل مخاطبتها:
ردِّي السلامة يا فتاة
الشاعر الصب الحزين
وتحسسي خطواته
في دربه الرحب الأمين
سترين خطواته
عرياً لا يبالي بالظنون
لقد أعطى لها صك براءة ألا يخامره شك.. وألا ترتهنه ريبة.. حبه فوق الشبهات والظنون.. من تكون هذه المعشوقة؟!
إنها همه الأوحد.. حبه الكبير.. أمته التي ينتمي إليها حباً وخشية:
أبكي لواقع أمة
آمالها رهن المنون
وشبابها يتسابقون
إلى اللذاذة والفنون
وعدوها يسعى إلى
تمزيقها في كل حين
صرخة حب أودعها ضمير أمته علها تصحو على قرقعة السلاح.. ودق طبول الحرب وهي تملأ سماءها رعباً.. ودماً، ودماراً، وتهديداً لسلامها وإسلامها.. هل آن لها أن تصحو وتفيق من سدرتها؟!
وأخيراً مع شاعرنا العشماوي في ديوانه (صراع مع النفس) أتوقف بكم أمام المحطة الأخيرة.. رسالة صداقة لصديق متنكر منكر:
يا صديقاً عشت أيام صفاء
تنطوي في ظلها الأيام طيا
أين ذاك الود يا منكره
يوم كنا ننسج الحب سويا؟
صحوة الحاقد يا صاحبنا
ربما تغفو غفواً سرمديا
حتى الصداقة المجردة عن كل مطمح ومطمع ذاتي أناني باتت مطلباً عزيزاً عز فيه الحب للحب.. أكاد وبشكل من التحفظ أتفق مع مقولة شاعرنا القديم لولا ومضة أمل ما زالت باقية أجترها على حزن.. إنه يقول في يأس:
فلو مشيت بكل الأرض قاطبة
وسرت في الأرض أوساطاً وأطرافا
لما وجدت صديقاً صادقاً أبداً
ولا أخاً يبذل الإنصاف إن صافى
بهذين البيتين السوداوين عن الصداقة وما آلت إليه ينتهي المطاف.. وإلى لقاء آخر تحت مظلة هذه الصومعة الحزينة.


ص. ب 231185 الرمز 11321
فاكس: 2053338

الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved