الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th July,2005 العدد : 114

الأثنين 5 ,جمادى الثانية 1426

قصة قصيرة
خمسة، ستة، سبعة
أحمد علي البشري
كان في السابعة من عمره..
عندما أمسك أول (متر) كبداية لكل شيء..
الأقرب فالأقرب، ابتداءً من ارتفاع فنجان القهوة، خنصر والدته، دواء السعال، كتاب الإملاء.
الغرفة كانت التالية
أسرع للحائط..
انحنى ليثبته على الأرضية الصلبة بحذاء أسود، اتخذ اتجاهاً معاكساً.. توقف في منتصف الغرفة، عندما أشعره المتر بالنهاية، توقف من حيث انتهى، عاود الكرّة، حتى خرج بنتيجة مفادها أن طول الغرفة يساوي ضعفي طول المتر.
من تلك اللحظة..
بدأ يسرق تفاصيل كميّة الأشياء التي تمرق أمام ناظريه لم يكن ليفوت عد درجات سلم الطائرة، أو المسافة بين الجوف وقريته النائية، مع كل محاذاة للوحة إرشادات تغفو على جانبي الطريق.
دائما ما كان ينزوي في ركن الاستراحة، عندما تتوه أسئلته في وجوه الأطفال عن عمق المسبح.. وعن ارتفاع (السبرينغ)، كان لا يتوانى عن الشروع في أي تجربة عد.
لا يفوت أي تجمع أمامه، فقط يطلق لأصابعه حرية الحركة، وللسانه متعة النبس بالأرقام.
تأثير ذلك كان عكسيا أحيانا، فبدا أكثر بلادة في الدرس، أكثر شروداً.
عندما تخنقه نوايا المذاكرة، يبادر في عد الصفحات، كم بقي وكم انتهى
يفكر جديّاً بعدّها في استحضار النعاس.
لا زال غارقاً في كومة أعداد، عندما أحس بأول أمل في محيط جنبه الأيمن، لم يكن يعي تمدد الوجع في جسده، محتلا سائر أعضائه.
عندها بدأ في عد وخزات الألم التي بدأت تلعن ملامح وجهه في الدقيقة الكاملة، وتأتي على نضارة جسده المتشبع برائحة الأرقام.
لم تكن والدته تحتاج لزيارة طبيب، لتعرف أن ابنها كان يتلمظ الوجع، خرجت بعباءة مقلوبة.. وبرعشة تسبقها إلى المستشفى.
الطريق مزدحم بالأرقام.. هكذا كان يراه
عند وصوله كان نتيجة ما علق في ذاكرته:
مقاس حذاء والدته 38..
وسبع عشرة سيارة أجرة، ست فقط كانت فارغة..
أربع محلات حلاقة..
وخمسة إعلانات لوجبات مطاعم..
وحسرة تجلت في عينيه..
حين فشل في حصر القطط التي تتمرغ في فرن الظهيرة.
مقياس الحرارة أفسد على شفتيه مضغ الأرقام، وجهاز قياس الضغط بأرقامه كان كفيلا ليستفز خيالاته إلى أبعد مدى، أبعد مدى حيث الأرقام تتوقف.
حضور البالطوات البيضاء كان طاغيا بكثافة الأرقام في ذاكرته. توسد ذراع والدته، بعد أن تأكد من أنها لازالت بخاتمين وثلاث أساور.. على سرير أبيض، مثبت بجانب ثمانية أخرى.. ربما كانت تسعة، وجد نفسه مسجى برداء ليس له أي جيب او أزرة.
استقرأ كل محتويات الغرفة، تلفون واحد تلفزيون واحد وست صحف وثمانية أسرة.. كانت ثمانية بالفعل.
غفوات عجز عن عدها، وخلفية سوداء لصفحة خياله، تعرض خراف ووجه والدته، وشريط أرقام. متعة بسيطة وجدها في أن اللعبة صارت أصعب، صار مطالبا أن يعد وخزات الألم في جبينه، وعدد الثقوب التي تتركها الإبر في أوردته بعد كل مرور للفريق الأبيض.
خلال حديث قصير دار بين والدته والطبيب.. هز الطبيب رأسه فوق تحت سبع مرات، ووضعت أمه يدها على وجهها أكثر مما لم تضع، كان الأجدر أن يبدأ بعدّ المرات التي تضع كفيها على وجهها
الدكتور ابتسم مرة واحدة.
انتقل سريره بمعيته.. في ممر طويل ملامحه صماء، خالية من أي رقم
حتى المصابيح البيضاء المستطيلة لم تكن أرقاماً، وحتى المطبات التي تضرب رأسه بالسرير وتحدث صوت ارتطام لم تكن أرقاماً.
سرير وحيد.. في المنتصف تماماً، وخمسة مصابيح مسلطة فوقه، وثمانية وجوه ملثمة، وست عشرة عيناً.. اثنتان منهما بنظارات.
كان التنافس على أشده على من سيسرق شبقه في العد، عدد أنفاسه، عدد المقصات، عدد الوجوه التي افتقد، احتمالات عدد الأحذية عند باب المسجد الآن.
آه حارقة تفجرت لما غار جسد دقيق في تفاصيل وركه، وبدأ يشعر بأن كل شيء كان ملكه لم يعد ملكه.
وجه بشوش أزاح اللثام، رأسه أصلع وله ثلاث شعرات في هامته، اقترب لشفتيه وأطلق نفسا برائحة نعناع على دفعتين.
مسح بإصبعه بين عينه، وسأل وهو يبتسم:
كم عمرك حبيبي؟
انطلق صوت مدفع السبق، صارت الأرقام تركض.. تركض.. تركض، ملبية دعوة أكثر الأسئلة لذة، الاسئلة المبدوءة ب(كم).
جاءت مفردة، جاءت متزاوجة، لكنها بقيت تركض..
تباطأت، لكنها بقيت تهرول ثم مشت.. مشت
تهالكت..
كانت تصل وتعود للتوه وتتراجع..
لم تكن الإجابة رقماً
ابتلع الفكرة مع آخر ما تبقى له من لعاب، وشرع في الغياب.
كانت الممرضة تعزف لحنا شجياً حينها:
خمسة
ستة
سبعة
الصفحة الرئيسة
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved