الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th August,2003 العدد : 24

الأثنين 13 ,جمادى الثانية 1424

مكتبتك.. صفها لنا
عبد السلام العجيلي

يروون أن الامام الغزالي كان في طريقه الى بيت الله الحرام فاعترضت قافلته عصابة من قطاع الطرق اوقفوا القافلة واعملوا النهب والسلب فيها. بعد ان استولوا على امتعة المسافرين وما يحملون من غال ورخيص جردوهم من ثيابهم إلا ما يستر منها عوراتهم. كان الامام الغزالي بين لم يبق له مما يملكه إلا الثوب الذي على جسده. وحين مرّ أمامه رأس العصابة وهو يجول بين جماعته الأشقياء يأمر فيهم وينهي اعترضه وقال له: يا رجل، أخذتم مني كل ما له قيمة. وأخذتم شيئاً ليست لكم منه أية فائدة، وهو كبير القيمة عندي، أفلا تتركونه لي؟ سأله الشقي: ماهو الشيء الذي تقول عنه؟ قال الغزالي: ذلك الخرج، فيه كتب لا حاجة لكم بها. انها مجموعة أوراق ليس فيها أي نفع لكم. قال الرجل: وما الذي في هذه الأوراق؟ قال الغزالي: فيها أطراف علم ومعارف تهمني أنا ولا تعني لكم أنتم شيئاً. سأله زعيم الأشقياء: وهل أنت عالم؟ قال الغزالي: هكذا يقولون. قال: وعلمك في هذه الأوراق؟ قال الغزالي: نعم، لا علم لي بدونها. هز ذلك الشقي رأسه حينذاك وقال: إذا كان علمك أيها الشيخ في هذه الاوراق الهشة فأنت لست بعالم.. لن أعطيك ورقة منها. العلم في الصدور لا في السطور.
هكذا رووا. ويا لها من كلمة أنهى بها قاطع الطريق حديثه. تعود هذه الكلمة وحكايتها الى بالي وأرويهما في مناسبات كثيرة. رويتهما في عام 1994م مرتين على الأقل في رحلتي الصيفية الى أوروبا وأمريكا، مرة في باريس ومرة في كليفلند في ولاية أوهايو الأمريكية. كان عليَّ في ذلك الصيف أن أشارك في مؤتمر أطباء العرب المنعقد في باريس بأن القي فيه بحثا علميا، ثم ان القي محاضرة أدبية على المواطنين العرب الأمريكيين في كليفلند وما حولها. وحدث عندما وصلت الى مطار اورلي في باريس اني اوقفت عربة اليد التي تحمل حقيبة سفري الكبيرة وحقيبة يدي الصغيرة امام موظف الاستعلامات لأسأله عن بعض الامور. وحينما انهيت حديثي معه التفت الى العربة فوجدت ان حقيبة اليد اختفت. مر بها أحد لصوص المطار فاختطفها. لم يكن ذلك السارق ليجد في تلك الحقيبة ما يفيده بشيء، ولكنها كانت لي كذلك الخرج للإمام الغزالي.. كان فيها أوراقي، وبين تلك الاوراق نص المقالة العلمية والمحاضرة الأدبية اللتين سألقيهما في باريس وكليفلند.
لم يكن في اليد حيلة. كل ما فعلته اني بدأت كلامي في مؤتمر الأطباء العرب في العاصمة الفرنسية ومحاضرتي في المدينة الأمريكية برواية حكاية الإمام الغزالي على المستمعين فيهما، وقلت: يبدو ان سارق حقيبتي في مطار اورلي اراد بفعلته أن يقول لي ما قاله زعيم قطاع الطرق للامام الغزالي على طريق مكة. أراد أن يقول لي: كل معرفتك وفنك في هذه الأوراق الهزيلة، وتحسب نفسك عالما وأديبا؟ لن أعيد إليك هذه الأوراق ايها المغرور، فتدبر امرك كما تشاء.. قلت هذا لمستمعي في البلدين، ومضيت في القاء بحثي العلمي ومحاضرتي الأدبية عليهم ارتجالا..
العلم في الصدور، لا في السطور. قد تصح هذه الكلمة التي نطق بها قاطع الطريق. ولكننا لا نستطيع الاستغناء عن السطور والكتب التي تحتويها في تسجيل العلم وتعلم العلم. ومن هذه وتلك تكونت المكتبات في كل العصور وفي كل انحاء العالم.. ومنها مكتبتي المتواضعة التي ساقتني الى انشاء هذا المقال.
في الحوارات الصحفية العديدة التي يجريها معي الصحفيون والدارسون كثيرا ما توجه اليّ اسئلة عن مكتبتي الشخصية. اذكر ان تحقيقين مفصلين ظهرا عنها في صحف الخليج، وان فتاة جامعية جعلت رسالة تخرجها عن هذه المكتبة التي لا أظنها تتميز بكثير عن مكتبات المثقفين أمثالي. وفي باريس، عقدت المذيعة المعروفة هيام حموي حلقة كاملة في اذاعة الشرق العربية عن المكتبة. وآخر ما تحدثت عنها كان منذ نحو من أسبوع، في اجابة على سؤال طرحه باحث مصري عليَّ بين مجموع أسئلته، قال فيه: مكتبتك الخاصة، كيف تكونت.. كم عدد كتبها، وماهو اهم ما فيها؟
كيف تكونت مكتبتي؟ جوابي هو دوماً أني في الواقع لست من محبي الاقتناء والامتلاك. كنت في بداية حياتي الثقافية اجري جردا في آخر العام لما عندي من الكتب، فأوزع ما اشتريته منها ومن الدوريات خلال العام على اصدقائي ولا احتفظ بغير المراجع. ولكني منذ اصبحت معروفا بعض الشيء صرت اتلقى كتبا مهداة من مؤلفيها بتواقيعهم او من الناشرين المختلفين، فلم يعد مناسبا التخلي عنها. قلت في مقابلتي الاذاعية تلك اني خفت ان يجري معي ما جرى لصاحب برناردشو في ذات مرة. كان برناردشو يقلب كتبا عند احد باعة الكتب المستعملة فعثر على نسخة كتاب من تأليفه باهداء بتوقيعه كان قد أهداها إلى أحد أصدقائه منذ زمن. كان ذلك الصديق حياً، فاشترى شو تلك النسخة وسجل عليها إهداءً جديداً بتاريخ ذلك اليوم، وارسلها بالبريد الى الصديق نفسه.
هذه الكتب المهداة الي والمتكاثرة علي، مضافة الى ما كنت اشتريته منذ ذلك الحين، أسست مكتبتي التي اصبحت كبيرة نوعا ما. ومكتبتي مع الأسف ليست منظمة، والمجلد من كتبها محدود العدد، ولست اعرف عدد محتوياتها. ما اعرفه انها بقليل هذه المحتويات تملأ رفوف مكتبي الذي اعمل فيه، واكثرها تغص به الرفوف والخزائن في قبو منزلي وصالون هذا القبو. لا استطيع ان اسمي كتبا معينة واقول انها اهم عندي من غيرها. ربما وجد الآخرون ان اهمها تلك التي تحمل اهداء بتواقيع ادباء مشهورين او شخصيات علمية او سياسية او اجتماعية بارزة. اما انا فان منزلتها تكاد تكون متقاربة فيما بينها عندي. ولابد من القول ان اهمية كتاب ما تختلف باختلاف المقتني له، كما يتبين من الحكاية التالية.
أقام ورثة احد العلماء المتوفين شبه مزاد لبيع كتب مورثهم قال احد الذين حضروا ذلك المزاد، وهو اديب وعالم: رأيت بين الكتب التي طرحت للبيع مجلدا كبيرا جميل الغلاف فيه دراسات وأبحاث عن محيي الدين بن العربي فطلبت شراءه بالمبلغ المحدد، وكان دينارين. بجانبي كان رجل حسن البزة، أخذ الكتاب وقلّبه وقال للذي يتولى البيع: أنا اشتريه بأربعة دنانير. استغربت مزايدة هذا الرجل لي فقلت: أنا اشتريه بخمسة دنانير. قال الرجل: أنا أدفع به عشرة دنانير، تحول استغرابي الى دهشة وتعجب، فالتفت الى الرجل وقلت له: ديناران كثيران على هذا الكتاب، فهل انت متخصص بابن العربي حتى تدفع في كتاب عنه هذا المبلغ الكبير؟ اجابني الرجل بقوله: ابن العربي؟ من يكون؟ كل ما يرغبني بهذا الكتاب هو انه يصلح ليملأ فراغا في رف غرفة جعلتها مكتبة، وصففت كتبا كثيرة على رفوفها، ازين بها داري الجديدة.. غلافه جميل وحجمه بقدر ذلك الفراغ عند هذا توقفت انا عن مزايدة الرجل، فما كنت قادرا على منافسته وهو من الذين قال فيهم الشاعر القديم:
وفي طاقاته كتب كبار
مجلدة، ولكن ما قراها
ومن حسن الحظ ان ليس كل مقتني الكتب من طينة هذا الانسان. هناك من تتدخل الكتب حتى في توجيه اسلوب حياتهم، مثال ذلك ما جاء في خبر ورد في الجزء الحادي والعشرين من مختصر تاريخ ابن عساكر، ونصه:
«وتزوج اسحاق بن راهويه بمرو بامرأة رجل كان عنده كتب للشافعي وتوفي. لم يتزوجها الا لحال كتب الشافعي عندها».
وسبحان من خلق هذا وذاك.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
مداخلات
المحررون
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved