الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 11th October,2004 العدد : 80

الأثنين 27 ,شعبان 1425

القصيبي وثقافة الثقافة.. وصراحة الصراحة..!
سليمان بن إبراهيم الفندي

قُدِّر لي يوم الاثنين 13 شعبان 1425هـ أن أحضر محاضرة للدكتور غازي القصيبي في مركز الملك فهد الثقافي بالرياض وهي الجلسة الأخيرة لفعاليات الملتقى الأول للمثقفين السعوديين فكان ختام الملتقى مسكاً وعنبراً.
كان الدكتور غازي في غاية المكاشفة والمصارحة خاصةً عندما قال (إني أصبتُ بكثير من الخوف عندما قرأت اسم الموضوع الذي طُلب مني أن أتحدث عنه (التنمية الثقافية ودور المثقف فيها) والحق أقول لكم. ومازال الحديث للقصيبي إني لا أعرف على وجه التحديد المقصود بالتنمية الثقافية، وأشك أن أقول إني لم أعد أعرف على وجه التحديد المقصود بالتنمية عموماً وإجمالاً، على أن هذا الخطب يهون عند الخطب الآخر دور المثقف ينتابني كثير من الحيرة وشيء من القلق كلما دار الحديث عن دور المثقف في هذا الشأن أو ذلك أمّا الحيرة فمصدرها أني لا أعرف نموذجاً واحداً لمثقف بمواصفات إنسانية راقية وأهداف مجتمعية عالية، ونزاهة شخصية ضافية بحيث يمكنني أن أقول وجدته!
هذا هو المثقف وهذا هو دوره!
إلى أن يقول إذن تعذرونني إذا سمحت لنفسي بتغيير العنوان الذي أرعبني إلى عنوان آخر قد يبدو غامضاً في البداية هو (ثقافة الثقافة).
هل هناك أفصح من هذه المصارحة من عميد الثقافة د. غازي..!؟ وهل هناك أوضح من هذه المكاشفة..!؟
كان الدكتور غازي في محاضرته كما الماء العذب الفرات ينساب على أسماعنا، يتحدث فلا تشاء أن يصمت ويصمت فتتمنى أن يواصل حديثه، كل معاني البلاغة احتوتها محاضرته وكل النصوص الأدبية أوجزها فيها.
أجل يقول: كان أبو العتاهية يعيش بقرب أبي نواس دون أن يطالب أحدهما بسفك دماء الآخر.
وفي بغداد القديمة عاش شاعر عظيم تخصص في هجاء الدولة، وظل، كما كان يقول، يحمل كفنه أربعين سنة دون أن يجد من يكفنه فيه وفي بغداد القديمة، كان فكر المعتزلة يحاور فكر أهل السنة والجماعة في جدلية صحية سلمية قبل أن تدخل السياسة ميدان الفكر فتسمم كل شيء.
وفي بغداد القديمة كان طبيب أمير المؤمنين نصرانياً، وكانت كتب الحكمة يونانية، وكانت أعظم العقول من فارس وبخارى ولم يكن اليهود يعيشون في (جيتو) مغلق عليهم يتهددهم فيه، بين الحين والحين خطر الإبادة العنصرية، لا أود أن أضفي على الماضي من البريق ما لم يكن فيه، وهي عادة متأصلة في الكهول والشيوخ ولا أود أن أنفي وجوه القصور على الماضي، وهي عادة راسخة في اليائسين من الحاضر، كل ما أود فعله هو أن أزعم أن أي مقارنة بين بغداد القديمة وأي حاضرة عربية أو إسلامية معاصرة لن تكون في صالح الحاضرة المعاصرة فيما يخص ثقافة الثقافة على أية حال.
ويقول القصيبي (إني قرأت في كتاب أن الأندلس العربية كانت تضم ذات يوم ستين ألف شاعرة إذا قلصنا هذا العدد وشذبناه وهذبناه وأزلنا عنه المبالغة التي خلت لصيقة بالعرب في ازدهارهم وانحدارهم سوف يخلص لنا عدد كبير لا أعتقد أننا سنجد عدداً قريباً منه في أي أمة يتجاوز عددها ألف مليون انسان وإنسانة!
ويقول الدكتور في مصارحته المتناهية (وأصارحكم أني لا أزال لا أعلق الكثير من الآمال على وجود مؤسسة حكومية تعنى بالثقافة هذا لا يعني أني أعتقد أن وجود هذه المؤسسة في حد ذاته، ظاهرة سلبية بقدر ما يعني أني أعرف الحدود التي لا يمكن لمؤسسة حكومية حتى لو كانت مسؤولة عن الثقافة تجاوزها، لقد قامت الأجهزة المعنية بالثقافة في عالمنا العربي بجهود لا تنكر، ولكنها قامت في الوقت نفسه وفي الدول الانقلابية على وجه الخصوص بتكريس عبادة الشخص وفكر الشخص، وعبادة الدولة، وفكر الدولة، حتى أصبحت منجزاتها الأخرى بمثابة سكر حلو براق يخفى تحته كعكة مرة المذاق محشوة بالسموم القاتلة، وهذا الانحراف بحمد الله سلمنا منه إلى حد كبير في بلادنا هذه في الماضي ونرجو أن نسلم منه في المستقبل.
والدكتور غازي يرى أن إيجاد ثقافة الثقافة هي مسؤولية تقع على المجتمع برمته.
والدكتور غازي باعتراف فضيل من مثقفٍ محنك يطرح حلولاً يقول عنها بأنها سهلة نظرياً مقبولة منطقياً ولكن هذه الحلول تصطدم بجبالٍ راسيات..!
ومن حلول معاليه التي تجابه بعقبات كبيرة هي أنه في البيت تبذر البذرة الأولى لثقافة الثقافة حين يكف الأولاد عن النظر إلى الأبوين باعتبارهما كائنين آليين مبرمجين على رفع سوط العقاب أو فتح كيس الثواب وحين ينظرون إلى الأبوين بصفتهما إنسانين بعيدين عن الكمال لا يميزهما عن غيرهما سوى حب الأولاد.
وسينبري من يقول كيف نصل إلى هذه النتيجة إذا كان الأبوان يتصرفان بالفعل وكأنهما مبرمجان على سوط العقاب أو فتح كيس الثواب ثم يتطاير هذا الحل ذرات هباء..!
وبعد البيت يجيء دور المدرسة تمتد جذور ثقافة الثقافة حين يكف المعلم عن اعتبار طلابه باعتبارهم قادرين رغم صغر سنهم على حرية الاختيار وحين يؤمن أن دوره الأساسي هو تدريبهم على حرية الاختيار.
سيقول لي من يقول وكيف تتوقع من معلم وقع هو نفسه في قبضة فكر لا يعرف التسامح أن يعلم طلبته مبادئ التسامح ويهوي الحل السهل الثاني منهاراً على قواعده.
وبعد البيت والمدرسة يأتي دور المجتمع بأكمله المجتمع الذي يقمع الخارجين على كل صغيرة وكبيرة من توجيهات ذلك الكائن الهلامي المخيف العجيب الذي تسميه التقاليد والعادات، وقد تضيف إليه الخصوصية لا يمكن أن يسمح بنشوء ثقافة الثقافة.
وأكاد أسمع من يردد وكيف تطلب هذا من مجتمع تعلم من البيوت والمنابر والمدارس أن الخطوط الحمراء تكاد تملأ صفحة الفكر كلها على نحو لا يترك للمباح والجائز سوى هامش يصغر كل يوم ويذهب الحل الثالث من النافذة.
وهكذا تتلاشى كل الحلول التي أوردها الدكتور القصيبي. ويبقى يحلم بمجتمعات تؤمن بثقافة الحرية.
ويبقى أن نتفق مع ما قال معالي الدكتور وقد تختلف مع بعض قوله.
وتبقى محاضرته رائعة من روائعه فقد أوتي فصاحة في الكلام وسلاسة في الحديث وكما يقول القصيبي بأن البلابل لا تغرد وهي سجينة الأقفاص والمياه لا تعزف سيمفونية الخرير وهي حبيسة في الخزانات، والأغصان لا تشنف الآذان بالحفيف وهي مشدودة الجذوع.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved