الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 11th October,2004 العدد : 80

الأثنين 27 ,شعبان 1425

حلم خلف القضبان
سلوى أبو مدين
قبل أن تقلني الطائرة كنت أودع زواياه.. وأقبل كل ركن فيه، حيث الدفء والسكينة، جدرانه الطينية المتجعدة الخشنة.
جارنا أمين والعم رمضان، تلك الضمائر الطيبة التي تلتقي كل مساء، يتداولون الأخبار وإذا ما غاب أحدهم لمرض ألم به فإنهم يتوافدون لزيارته. أبعدتني سنوات الغربة، ولم أنس حوائط الدفء والحب.
عدت بعد سنين قضيتها، وقلبي يخفق لرؤية بيتنا الذي تتوق عيناي لمعانقة كل جزء فيه.
في حارته العتيقة. العم طالب بائع الخضراوات، وبجانبه دكان السمك.. كانت رائحة بيتنا تشدني. وعندما أطلقت الطائرة العنان للهبوط رف قلبي وهو يحتضن شوارع مدينتي.!
ركبت السيارة التي اخترقت بي الطريق الفسيح ولكن اختلف الاتجاه مدخل فمنعطف.. وشوارع واسعة.. إشارات ضوئية..
والقلق والخوف يبتلعانني.!
فجأة أوقفتني السيارة أمام مبنى شاهق ضخم.! تلفت يمنة ويسرة..
وقدمت ورقة صغيرة كتب عليها عنوان بيتي بخط صغير.. تبسم السائق مشيرا إلى المبنى الكبير.!
ذهول.. يلفني للحظات.. وأطرقت أفكر..
أما السائق فأخذ ينتظر أجرته وهو لا يلوي على شيء.!
حملت حقيبتي الصغيرة.. وقادتني قدماي المرتعشتان إلى ذاك المبنى الشاهق.!
سكون يخيم على الشارع الفرعي إلا من صوت أبواق السيارات المسرعة، وجوه لم أعتد على رؤيتها تمشي في اتجاهات مختلفة..
أين وجه العم طالب، وحمزة، والجدة نور.؟
كتل إسمنتية بلا أرواح، حوائط باردة.
حارس يربض أما المبنى، وما إن رآني حتى أقبل مسرعا يحمل حقيبتي، وهو يهلل بالترحيب المعتاد.. لأجل الحصول على وريقات من المال.
كل شيء داخلي يرتعش.. قتامة الأشياء تحاصرني..
يفتح باب ذو طلاء بني قاتم.. ويطل وجه لم أعتد على رؤيته لسيدة شابة توحي ملامحها أنها من شرق آسيا..
بلهجة متكلفة وابتسامة باهتة ترحب..
لا أبالي بما تقول..! كل ما أود معرفته أين هو بيتنا.؟
الذي أنهكته الرطوبة.. لم نكن نشعر بالبرد ورعشته.!
لم نكن نمرض من تقلبات الجو.. بيتنا الذي بناه العم رمضان مع أبي وجدي.. لم أعد أراه.!
اعتقدت أنها لحظة حلم أمر بها.!
بخطوات عاثرة دفعت قدمي.. إلى حيث المجهول.!
من أين أبدأ..؟ وإلى أين انتهي.؟
سياج من اللهب يلفني.!
إضاءة ساطعة.. كراسي وثيرة.. أرضية ناعمة بسط فوقها نوع من السجاد العجمي.
ولا زالت أرقب المجهول.!
كان علي افتعال الحنان.. كلما احتك جسدي بأشياء لم أعتد على ملامستها خواء شاسع يلتهمني.!
أرتشف الخوف من كوب الوقت المتثاقل..
لا أجيد الحروف.. سوى أن أتسربل بالذهول..!
فقدت الإحساس.. بتلك الرائحة الممتزجة بالجدران.. رائحة الطين.. حجرات متلاصقة، مائدة واحدة تجمعنا.!
كيف أنسى!؟
رغبة مؤججة في لقاء الماضي..
وعناق يراودني.!
استيقظ على أشياء تسرق حلمي.. حجرات متباعدة. أفراد يقيمون متفرقين.. برودة الجدران.. رائحة الخوف تلفهم..
أقفال توصد أبوابهم.. حراس تنصب لحراستهم.!
فقدوا الطمأنينة.. باتوا
يخافون من أي صوت يبعث من الخارج.!
حتى القمر مبعث الحب والشجن.. احتجب خلف ستائر سميكة.. ونوافذ محكمة الإغلاق..!
ارتديت ثوب الصمت للحظات..
وما بين الصحوة والإغماء..
أطلت خالتي بوجهها، مشرقة كعادتها، احتضنتني في بحر أذرعتها.
كنت أبحث في صدرها عن مرفأ لأحلامي الموؤودة..!
لشارع.. لظل بيت.. لوهج قمر يستلقي فوق نافذة قديمة.!
ولا زال ألف سؤال.. وسؤال يداهمني؟
أين عبق بيتنا القديم.!
ضحكات الصغار.!
اللعب الورقية.
وخبأت صوره بين حقول نفسي المشطورة.!
وتحملت الدهشة التي ألقاها لي الموقف.!
ليل تأخر.. هواء مخنوق..
واقتات الضجر.!
ويتبعني جرح دام.!
وثمة سؤال اكبر منا.؟!
من حول جدرانه الدافئة وحولها إلى ركام.؟!
ما يؤرقني كلما اختبأت من الماضي تحت بياضه الناصع..
تحاصرني شقوق صغيرة بين أركانه المحفوفة برائحة الدفء..
ويظل هاجس اللعبة الورقية.. وحبات المطر.. وشجرة الياسمين لا يغادر مساحة طفولتي التي نفضت غبارها عني..!
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved