الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 11th October,2004 العدد : 80

الأثنين 27 ,شعبان 1425

الخصوصية والهوية
د. صالح زيَّاد*

الحس الذي ينطلق منه الحديث عن الخصوصية في المجتمعات العربية الإسلامية هو حس القلق على الهوية، والخوف من اندثارها وتلاشيها، وهو حس يبدو تصاعده في الحقبة الأخيرة مرتبطاً بالعولمة من جهة، ومن جهة أخرى بازدياد الوعي بالمسافة التي تفصل هذه المجتمعات عن مستويات التقدم الاقتصادي والعلمي والتقني، وعن مستويات الرفاهية والنظام والمنهجية التي يتمتع بها الآخر وبشكل مغر ومفزع في نفس الوقت.
وأعتقد أن من المشروع والمبرر أن يخاف المرء على هوية مجتمعه، وأن يعتريه الفزع من تفتتها، لأن الهوية ضرورة لكل مجتمع بشري بوصفها علامة على ذاتية الجماعة تنجلي من خلالها ال(نحن) التي تغدو لازمة من لوازم الفرد بقدر ما هي لازمة من لوازم مجتمعه وأمته. وقد قيل قديما (الإنسان اجتماعي بطبعه) فكأن الخروج من ربقة الحس الاجتماعي الحاضن للأفراد خروج من نسق الصفة الإنسانية ذاتها.
لكن المتابع للجدل حول الخصوصية في أدبياتنا المعاصرة يلحظ وجهتين مفترقتين، وأحياناً متصادمتين، في تجسيد ذلك القلق: الأولى، تخشى على الخصوصية والهوية من (الآخر)، والثانية تخشى عليها من (الذات).
ولا ريب أن الخشية من (الآخر) لا تستدعي التوقف، لا لأننا ننكرها، وإنما لأنها ناتج الوعي المغرق في تمركزه حول الذات، بحيث يغدو الآخر أشبه بفزاعة الراعي منه إلى الحقيقة. وبهذا تغدو الخشية من (الذات) لا من (الآخر) منعطفاً مهماً في الوعي بالخصوصية والهوية من جهة، وفي الدلالة الكاشفة عن طبيعة مشكلها المعاصر من جهة أخرى.
فهنا يتحول خطاب الهوية والخصوصية من منظور يفصلها عن المكان والزمان إلى منظور يحلها في سياقها الواقعي العملي، ومن منظور يُصمت هذه الهوية ويغلقها فلا يرى فيها لا التجانس ولا في علاقتها مع غيرها إلا التخالف والنزاع الى منظور يعي تعدديتها ويدرك فضيلة الاختلاف فيها وغناه وخصوبته وما يفضي إليه من تجدد وتنوع وحركة.
وهكذا يغدو هذا الموقف اتجاهاً نقدياً يفتح أفواه الأسئلة باتجاه (الذات) في نوع من الرغبة المعرفية التي تموضع الذات بقصد الفهم لها بما يتيح اكتشاف طريق التجاوز لمشكلها الخاص وعذاباتها المعاصرة. إنه موقف واقعي لا يأتي من موقع الإملاء والوعظ والتوجيه، ولا يقف خطيبا أو منظِّراً تقوم علاقته بموضوع حديثه على أساس من ذاته في محبتها للهوية وإخلاصها لروح الجماعة، لأن ذلك على شرفه لا يجدي من زاوية العلم والعمل.
ومع أن المرء لا يملك إلا أن يقف مع هذه الوجهة في كثير من جوانب الإدانة للذات، وضرورة الوعي بأن الآخر وليس الذات فقط متعدد وفق مستويات مختلفة، فإنه لا يمكن أن نحد وعينا بذاتنا الجمعية في اللحظة الزمانية الراهنة، فإذا كنا نشهد اليوم مَنْ يقف وقفة تقوقع وانغلاق مثلا فإن حركات الإصلاح النهضوي الإسلامي في مطلع العصر الحديث وقفت من المنجز الأوروبي تحديداً وقفة تتسم بالكثير من الانفتاح، وكانت تلح على رؤية التشابه معهم والاختلاف في الوقت ذاته، وليس قول الشيخ محمد عبده عن الأوروبيين: (وجدت لديهم الإسلام ولم أجد المسلمين) إلا تجسيداً دالاً على هذا الموقف.
إن السؤال عن الخصوصية والهوية في هذا العصر هو حقاً سؤال عن مقدار فعلنا الإبداعي والعملي في إطار منجزات العصر وبمستواها، والفجوة التي تفصلنا عن هذه المنجزات كبيرة، وكبيرة جداً، لكن ذلك، منطقيا، لا يسيغ لنا أبداً أن نقف للفرجة، ولا يحل لنا أن نستمرئ الاستهلاك ونبقى ضيوفاً على عصر لا نملكه.


* الرياض جامعة الملك سعود
Zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved