الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th December,2006 العدد : 180

الأثنين 20 ,ذو القعدة 1427

حواريّة التّويجري مع أبي العلاء
د. عبد الملك مرتاض

وجهٌ مشرقٌ من وجوه الثقافة العربيّة السعوديّة المشرقة، وملمَح ناضرٌ من ملامح الفكر العربيّ السعوديّ النّاضر، وشخصيّة اجتماعيّة وسياسيّة من الشخصيّات العربيّة الْمُؤْتَلِقة.. ذلكمْ هو الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، فهو سخيّ كريم إن عَدَدْت الكرماءَ الأسخياء، وهو نبيل نبيه إن عددتَ النُّبلاء النُّبهاء. ليس عبد العزيز التويجريّ رجلَ فكْر وأدب وحسب، ولكنّه رجل يجمع بين خِلالٍ شريفة كثيرة؛ ذلك أنّك إذا عددتَ الأسخياءَ ألفيتَه أحدَ أسخيائهم، وإنّك إن عددتَ النّبهاءَ وجدته أحدَ نُبَهائهم، وإن أنت عددتَ الشِّهامَ لم تعدَم له مكانة بين شِهامهم، وإن أنت الْتمستَه في طبقة القادة المحنّكين ألفيتَه رجلَ قِيَادة وسياسة بامتياز. وقلَّ من النّاس من يستطيع أن يجمع بين الثراء والمال، والفكر والسياسة، والعلم واللباقة، وعبد العزيز التويجريّ أحد أعضائهم.
غير أنّ الشيخ التويجري، بالقياس إليّ وقد طُلب إليّ أن أدبّج كلمة قصيرة عن هذه الشخصيّة السعوديّة الفذّة، ليس رجل دولة وثقافة وعلم فقط، ولكنّي أكلت ملحه، وتحرَّمتُ بطعامه، وتشرّفت بازْدِيَارِ بيته.. وقد امتلأتُ إعجاباً بهذه الشخصيّة، واستوْقَرَ قلبي حباً لها، وتقديراً إيّاها. وكلّ ما أودّ أن لا يطغى حبي على عواطفي فأُحرم من التوفيق الذي أحرص عليه في تدبيج هذه الكلمة القصيرة عن الشيخ الجليل المجيد.
إنّ الشيخ التويجري ليس غريباً على الثقافة ولا الثقافة غريبة عليه، فكلّ مَن شهِد الجنادريّة من المثقفين والمفكّرين والأدباء العرب -وما أكثرَ منهم مَن شاهَدوها- يُقرّون له بذلك، فهو يفتح لهم داره، وهو يحاورهم واحداً واحداً في منزله باهتمام مدهش. غير أنّ مِن مُحبّي الثقافة مَن لا يكون مثقّفاً أصلاً، فهو يرعى المثقفين لأنّه يُعجَب بهم، ويرى في فعلهم الخيرَ والمحبّة والنماء في الحياة، ومنهم مَن يكون مثقّفاً ويرعى المثقفين ولا يكتب؛ لأنّ مهامّه السياسيّة أو القياديّة لا تتيح له من الوقت ما يسمح له بأن يخلوَ إلى نفسه، ويَتنسَّكَ في مكتبته، من أجل أن يكتب شيئاً يعبّر به عن فلسفته في الحياة، ونظرته إلى الكون، وطريقة فهمه لواقع الأشياء، في حين أنّ منهم مَن يكون مثقّفاً مفكّراً، وتسمح له مهامُّه، في الوقت نفسه، أو قلْ يقسو على نفسه لانتزاع ساعات الراحة منها للنّهوض بعمل ثقافيّ متميّز خارج إطار المهمّة الرسميّة الثقيلة التي يضطلع بها في الدولة، فتراه يجرّب في الكتابة، ويُدْلِي بدَلْوه في قضاياها، والشيخ عبد العزيز التويجريّ أحدُ هؤلاء بائْتِلاقٍ. والآية على ذلك أنّه ألّف حتى الآن أربعةَ عشرَ كتاباً في مجالات المعرفة والفكر والأدب والتاريخ. وإذا كان من العسير التوقّفُ لدى كلّ ما كتبه لإلقاء نظرة عجْلى عليه، بَلْهَ مدارستَه وتحليله، فلا أقلَّ مِن أن نتوقّف عند أحدِ هذه الكتب القيّمة؛ لأنّها تتناول شخصيّة فكريّة مشهورة في التاريخ مرموقة في مجال الأدب والفكر، وهي شخصيّة أبي العلاء المعرّي، فنحاول رصْدَ بعض الأفكار والآراء التي طارح بها التويجري أبا العلاء.
قد يكون الشيخ عبد العزيز التويجريّ، بذلك، أحَدَ أسبقِ المثقّفين السعوديين المعاصرين إلى اتّخاذ التأمّل والحوار وسيلةً فكريّة للبحث عن الحقيقة، والسّعي إلى إدراكها، والتطلّع إلى ملامستها. غير أنّ المرء كثيراً ما يسعى إلى بلوغ شيء فلا يبلغه، ويتطلّع إلى تحقيق غاية فلا يحقّقها، وذلك إذا لم يحسنِ الْتماسَ طريقه، ولم يُوفَّقْ إلى اتّباع الإجراء الذي يُفْضي به إلى إدراك القصد، وبلوغ الشّأْو. لكن الشيخ عبد العزيز التويجري كان، في رأينا، بِدعاً من ذلك، وقد كان أذكى من أن يقع في ذلك. فأبو العلاء المعرّي كُتبت عنه مئات الدراسات، وأُلّفت في فكره وأدبه وفلسفته عشرات الكتب في العالمين العربيّ والغربيّ معاً. فقد كتب النّاس عن أدبه، كما كتبوا عن تمرّده الفكريّ، كما كتبوا كثيراً عن تشاؤمه الذي قد يكون مردّه إلى عاهته التي لم يتقبّلْها، على عكس الأديب العربيّ المعاصر طه حسين الذي ظلّ يعيش حياته بصورة طبيعيّة فلم يشعُر قرّاؤه يوماً أنّه كاتب ضرير، ولا أنّه يائسٌ من الحياة الجميلة، ولا أنّه زاهدٌ فيها عازف عنها، فظلّ في سلوكه الفكريّ كاتباً طبيعياً لا يتشاءم ولا يتلهّف، ولا يحزن على ما أصابه ولا يأسى، بل ربما كان يعتزّ بعاهته اعتزازاً.
أبو العلاء المعرّي عمَد إلى تحريم ما أحلّ اللّه له فرفضه، وهو أكْل اللّحم الذي هو من طيّبات العيش، وعمَد إلى تحريم احتساء المرَق لمجرّد أنّه يوماً احتسى حَساءً فلاحظ أحدُ طلاّبه لُطاخَةً في ثوبه من أثر المرَق الْمُحْتَسَى، بل حرّم على نفسه الزواجَ وبه قِوام الحياة واستمرارها، وبه تسكن النّفسُ إلى أختها فتسعدان بدفْءِ العِشرة، وصدْق المودّة.
إنّ كلّ ما كُتب عن أبي العلاء المعرّي من قبلُ ربما لم يكن كافياً لتحليل هذه الشخصيّة الفكريّة الكبيرة، المتناهية التعقيد، المتعدّدة الإشكال، الغامضة السّلوك، النّاقمة من الحياة، الثائرة على نظام الكون!.
وقد كان مضى على النّاس زمن يقترب مداه من سبعين عاماً منذ أن كان طه حسين قدّم إلى الجامعة المصريّة بحثاً جليلاً عن شخصيّة أبي العلاء، إضافة إلى كتاب أدبيّ جميل كتبه عنه من بعد، وهو (مع أبي العلاء)، حاول أن يعايش الشيخُ الشيخَ، ويفهمَ الضريرُ الضريرَ، ولعلّه أن يكون من أجمل ما كُتب عن أبي العلاء. مضى، إذن، على الناس حينٌ من الدّهر لم يكادوا يسمعون شيئاً كُتب عن هذه الشخصيّة البارزة في الفكر العربيّ الإسلاميّ، ولا أنّهم قرؤوا جديداً عنها؛ حتّى خرج عليهم عبد العزيز التويجريّ بكتاب جميل جليل، جديد في إجراءاته، ذكيّ في معالجاته، وهو: (أبا العلاء.. ضجِر الرّكْبُ من عناء الطريق)!.
وإنّ الذي يتأمّل هذا الكتاب، انطلاقاً من عنوانه نفسِه، يقتنع بأنّ التويجري يريد، فعلاً، أن يتناول أبا العلاء تناوُلا جديداً وصحيحاً؛ فهو يدعو أبا العلاء المعرّي فيجيء به من الزمان القديم إلى الزمان المعاصر، ومن المكان البعيد إلى المكان القريب، فيستضيفه في مكتبته على طريقة الكرَم السعوديّ، وعلى طريقة الشيخ التويجري في استقبال ضيوفه بما ألِف أنْ يستقبلهم به من سخاء وعطاء، وترحيب واحتفاء، ثمّ يخاطبه عوض أن يتحدّث عنه من بعيد.. ثمّ يصطنع النّداء في خطابه، ثمّ يستغني عن أدوات النّداء، ما كان للقريب منها والبعيد، ليُشعر القارئَ بوجود أبي العلاء في بيته، ومُثُوله في مجلسه، فيقول: (أبا العلاء!)، كما يخاطب أيُّ شخص جليسَه بمثل هذه الطريقة فيستغني عن أدوات النّداء التقليديّة ليُزيل كلّ كُلْفة، وليحسّس مخاطَبَه بدفء القُرب، وحنان المجالسة.
غير أنّ هذا النداء لا يعني إلاّ أنّ الكاتب دعا أبا العلاء إلى بيته، وأنّه أفلح فعلاً، وعلى تعقيدات شيخ المعرّة وتأبّيه الاختلافَ إلى بيوت النّاس وتجانُفِه عن ذلك، في أن يُقنعه بالمجيء إلى بيته، والجلوس في مجلسه، والاستماع إلى حواره.. ذلك أنّ العبارة المكمّلة للعنوان هي التي تعكس مضمون الكتاب، وتدلّ على واقع مدلوله الفكريّ والأدبيّ معاً. وهذه العبارة على تلاحمها تتركّب من مكوّنين اثنين: المكوّن الأوّل هو قوله: (ضَجِرَ الرَّكْبُ!)، وهي في شِقّها الأوّل (ضجِر) فكريّة ذات صلة حميمة بأبي العلاء؛ لأنّها من دأْبِ سيرة الشيخ، ولأنّها مَقِيسَة على مضمون معجمه اللغويّ، كما يمثُل ذلك في قوله:
غيرُ مُجْدٍ في ملّتي واعتقادِي
نَوْحُ باكٍ ولا ترَنُّمُ شادِي!
وكما يمثُل أيضاً في بعض قوله وهو يخاطب نفسَه، ويقسو عليها، ويغالي في القسوة حتّى يَبْخَعَها ويُذِلَّها، في إحدى قصائد (سَقْط الزَّنْد):
وقلتِ: الشمسُ بالبَيْداءِ تِبْرٌ
ومِثْلُكِ مَن تَخَيَّلَ ثمّ خَالاَ!
فالضّجَر بالحياة، والضّيقُ ذَرْعاً بالنّاس أيضاً هو من المعجم المعنويّ لشيخ المعرّة، وإلاّ فما كان يمنع الشيخَ من أن يستمتع بلذّات الحياة في حدود ما هو متاح مباح، فيتزوّجَ ويُنجب أطفالاً يتدفّأ هو ببِرّهم كما يتدفّؤون هم بحنانه؟! وإلاّ فما كان منعه من أن يأكل اللّحم المذكورَ اسمُ اللّه عليه، ويحتسيَ المرَق كما يحتسيه جميع البشر على الأرض، لوْمَا أنّه كان برِماً بالحياة، ضجِراً من خيرِها، بل كان يَعُدّ الخير والشّرّ واحداً، والسرور والحزن وجهيْنِ لحقيقةٍ واحدةٍ في سيرة الحياة، فسواءٌ عليه نوْحُ الباكين وترنُّمُ الشّادِين؟! وإذن، فاصطناع لفظ الضجَر في عنوان كتاب التويجريّ عن أبي العلاء هو لفظٌ مسخَّرٌ لما يليق بالفكر الْبِيعَلائيِّ، متلائم مع مبادئه ومراميه. في حين أنّ الشِّقَّ الآخِرَ من المكوّن الأوّل من عبارة العنوان، وهو لفظ (الرَّكْب) يضطرب في مَهامِهِ الأدب الرّفيع، ويتَرَهْيَأُ في مَعامِي البيدِ ومجاهلها؛ فقد أولعتِ الشّعراءُ العرب بلفظ (الرّكْب) حتّى تكالبتْ على استعماله في أشعارها، وكلِفَتْ باصطناعه في كلامها. وما كان يعني ذلك شيئاً غيرَ أنّ التويجري راعى أنّ أبا العلاء من أكبر أدباء العربيّة، فهو إذا كتب أبهر، وإذا شعر أدهش. فأشعار (سَقْط الزَّنْد) تجعل منه أحد أكبر شعراء العربيّة، و(رسالة الغفران) تجعل منه أوّل أديب عربيّ حاول أن يكتب رواية فلسفيّة تتّخذ لها من مواقف القيامة موضوعاً لها، أو قلْ من تخيُّلِهِ أطوار الشعراء العرب في الآخرة وما يكابدونه من عذاب يتخيّله أبو العلاء لهم تخيُّلاً! فكِلا اللّفظين، إذن، في عبارة الشّق الأوّل من عنوان الكتاب لائقٌ بسيرة أبي العلاء وفكره.
وأمّا المكوِّنُ الآخِرُ لعنوان كتاب التويجري عن أبي العلاء فهو قوله: (من عناء الطريق). وليس على الأرض أشكَى من التَّعنيَة التي تُثْقل الحياةُ بها كاهل النّاس كأبي العلاء! فقد ألفيناه في مقدّمة ديوانه (سقط الزند) يغالي في التشاؤم واليأس إلى حدّ أنّه يستطيل عمره، ويستبطئ أجلَه؛ ولم نرَ أحداً من النّاس جاء ذلك، ولا بودلير في ديوانه العجيب: (أزهار الألم)! لقد بلغ البرَمُ بالحياة والضجرُ منها لدى أبي العلاء المعرّيّ مبلَغَهما، فتشاءم وغالى في التشاؤم إلى أن قال: (ولزمتُ مسكَنِي منذ سنة أربعمائة، مُعْمِلاً أنّي لا أُرسل فيما يتّصل بكلام العرب بنتَ شفَة، وبُلِيتُ بنُوبٍ ليستْ بالمنكشفة! ومُدَّ العمرُ فكأنّما سِنُوهُ السَّمُرُ، ويُعْدَم عندهُ الثُّمُرُ!) (مقدمة سقط الزند، ص 5، تحقيق مجموعة من كبار المحققين، وإشراف طه حسين، 1383هـ- 1964م).
لقد استخدم الشيخ عبد العزيز التويجريّ أسلوب الحوار لبلوغ كُنْه الحقيقة الغائبة في مُلْتَوِثاتِ الشّكّ، والمتخفيَة في معامي العدَم والعجز، فيستخرجها من كلّ تلك الأدران لتنصقل في النفوس، وتتمثّل في الأذهان، وتتّضح في الأفهام.
ويحاور التويجري أبا العلاء في مبدأ الاختلاف بينهما القائم على تباعد الزمن، وتباين المذهب، وتباعُد الرؤية الفلسفيّة إلى الحياة، فيقول: (صحيح أنّك رجل رحتَ بعيداً في كثير من التساؤلات، ولكنْ ما في يدك وما في يد إنسان اليوم غير متساوييْنِ: ما في يدك قليلٌ ومثير لآلامك الخاصّة التي سبّبتها ردود فعل لا تعني شيئاً لردود الفعل اليوم في عصر غزو الفضاء).
بل إنّ اختلاف الشيخ التويجريّ مع أبي العلاء لم يكن قائماً على فكر متشدّد، وعلى رأي متطرّف، ولكنْ على تسامُح وتجاوُز، ولذلك يخاطبه قائلاً: (أختلفُ معك في بعض تصوّراتك عن الدّين، ولا أختلف معك في تجربتك مع الإنسان وتغيّره وتبصّره بالحياة. وسأكرّر هذه الحقيقة وأؤكّدها في كلّ رسالة، وأترك الحكْمَ عليك للّه، فالحكمُ للّه فيكَ وفينا).
يا اللّهُ! ما أجلّهُ من موقف، وما أكبرَه من فكرٍ؛ فالتسامح رائع حين يصدر عن رجل كبير، وعقلٍ رصين، يحاور به رجلاً كبيراً أيضاً، فلعلّه أن يمثِّلَ الْمَثَل الحكيمَ لشباب المثقّفين ليعرفوا كيف يختلفون مع الآخرين.
بيْدَ أنّ الشيخ عبد العزيز التويجريّ يبدي حزنه الشديد إذْ لم يُهْدَ إلى الكتابة عن أبي العلاء أيّامَ كان غصنُ شبابه نضيراً فيقول: (وكم عاتبتني شيخوختي: لماذا لم تحمِلْ قلمَك قبل أن ترتعش يدك، ويرتعش ذهنك؟ لماذا الآن؟...). ونحن نرى أن الشيخ التويجري كتب عن المعرّي في الوقت الذي كان يجب أن يكتب عنه فيه، لم يتقدّم ولم يتأخّر. أم هل كان يرى أن كتابة الشباب أنضج وأرصن وأعمق من كتابة الشيوخ؟ ألاَ على هِينَتِكَ يا سيّدي؛ فإنّا نغار على جلال فكرك، وصفاء ذهنك، وهُما، قطعاً، لم يرتعشا إذِ ارتعشت اليد، بل ازدادا نُصُوحاً ونُصُوعاً، ونضارةً وصفاءً. إنّك أيها الشيخ الجليل لم تقلْ ذلك إلاّ من باب التواضع الخالص، والدّماثة السَّمْحة، ونِعِمَّا هُما فيك!.
وإذا كان أبو العلاء يرفض لذاذة الحياة، ويَعُدّها مجرّد محنة يُبْلى بها الإنسان، وأنّ ما يَعُدّه النّاس لذةً فيها ومتاعاً لا يساوي أكثر من الْقَيءِ العارض حين يذَرَعُ الشخصَ فلا يستطيع له إمساكاً:
أرى جُرَعَ الحياةِ أمرَّ شيءٍ
فشاهِدْ صِدْقَ ذلك إذْ تُقاءُ!
فإنّ الشيخ التويجريّ مفكّر يحبّ الحياة، ويحسن تذوّق لحظات السعادة فيها، بل نلفيه يهيم حباً بجمال الطّبيعة فيصفها وصْفاً رومنتيكيّاً جميلاً كما يمثُل ذلك في بعض قوله: (في هذه اللحظة التي جمعت فيها أوراقي لمغادرة المكان، فيما بين الجبلين، نادى رُعاةُ القطيعِ مواشيَهم عائدين بها إلى بيوتِ القبيلة، فمرّتْ بي هذه القطعانُ ورُعاتُها: شابّاتٍ وشباباً (...) ونسيمُ الصَّبا، وروائحُ الْخُزَامَى، هي روائحهم، وهي أنفاسُهم...). فهذه لوحة شعريّة مثقلة بالأحاسيس النّابعة من جمال الطبيعة السعوديّة، ومن جلال الصحراء، ومن تحسّس الكاتب لذلك تحسّساً شفّافاً لا يماثله إلاّ تحسّس أكابر الشعراء.
***
لَشَدَّ ما كنتُ أحرص على مصاحبة الشيخ التويجريّ في حواره لأبي العلاء فأقتحم عليهما لأكون ثالثاً، لكنّ مساحة هذه الكلمة محدودة، ولا نرى أنها تحتمل أكثرَ ممّا كتبنا، بل ربما جاوزنا الحدّ، وخرجنا عن القصد.. ولعل الأيام أن تتيح لنا أن نقف وقفة مطوّلة مع الشيخ فندارس فكره، ونحلّل أدبه، لأنّي أُحس وأنا أنفض اليد من تدبيج هذه الأسطار أنّي لم أوفِ بحقّه، وأنّي لم أُوفَّق إلى ما كنت أرمي إليه.
أيّها الشيخ الجليل! فإن رأيتَ هذه الأسطارَ المدبَّجةَ عنك قِصاراً قِلاَلاً فليس لأنّك لستَ أهلاً لأكثر من ذلك، وإن رأيتَ هذا القلم كليلاً في وصفك، حسيراً في ذِكْرك، فليس لأنّك لا تستحقّ أن تُزْبَرَ عنك المجلّداتُ الضِّخام، ولا أن تُدبَّجَ فيك الأسفارُ الطِّوال. فرُوَيداً، رويداً! فقد يأتي الخصبُ بعد الجدب فيُحْيِينا، وقد يأتي الكثيرُ بعد القليلِ فيُغْنِينا، وقد يَهمِي الغيث الْمِدرارُ فيَسقينا؛ فتَعْبُق أنفاسُ الشبائِبِ والشباب، وتزهو (القطعان في الْمراعي) الثَّوَادِي، وتنضُر أوراقُ الشِّيح والجادِي، وتترأَّدُ أغصان العبْهَرِ والْمُصَاصِ حين تجودُها الغَوادِي، وتتفتّح أزهار الخزامى فتَضُوع (بين الجبلين) فتُعطِّر البوادي، وتُرْوي الصّوادي.
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved