الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th December,2006 العدد : 180

الأثنين 20 ,ذو القعدة 1427

التويجري والنثر الغنائي
رجاء النقاش

بدأ الدكتور طه حسين حياته الأدبية في أوائل القرن العشرين شاعراً، وهذا أمر قد لا يعرفه الكثيرون ممن يقرأون لطه حسين، ويهتمون بكتابته الأدبية والفكرية المختلفة، وقد ظل طه حسين يكتب الشعر وينشره في الصحف، حتى سافر سنة 1914 إلى أوروبا في رحلته الأولى التي لم تطل، واضطر أن يقطعها بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) ليعود إلى أوروبا بعد نهاية الحرب في رحلته الأساسية التي نال فيها الدكتوراه، وتعرف خلالها على زوجته السيدة (سوزان) التي صحبته بعد ذلك حتى نهاية حياته وأنجب منها ولديه (مؤنس) و (أمينة).
عندما ذهب طه حسين إلى أوروبا في رحلته الأولى توقف عن كتابة الشعر، واستمر هذا التوقف حتى وفاته سنة 1973م، وأشعار طه حسين التي لم يتم جمعها في ديوان كثيرة، ومعظمها منشور في جريدة (الجريدة) التي كان يصدرها أحمد لطفي السيد، وفي جريدة (مصر الفتاة) التي كان يصدرها عبدالعزيز جاويش، أما تاريخ هذه القصائد فيمتد بين سنتي 1908 و1914م، أي أن طه حسين قد كتب الشعر عندما كان في التاسعة عشرة من عمره وتوقف عندما كان في الخامسة والعشرين، وأشعار طه حسين موضوع طريف حيث يستحق دراسة خاصة، ولكن الذي يعنينا هنا هو أن عدداً من الباحثين يرون أن طه حسين بعد أن توقف عن الشعر ظل على الدوام يخفى في كتاباته روحاً شعرية عبرت عن نفسها في عدد من كتبه المعروفة مثل كتابه (على هامش السيرة) وكتابه (الأيام) وكتابه الصغير الطريف (جنة الحيوان) ففي هذه الكتب جميعا كان (نثر) طه حسين مليئاً بندى الشعر، ومليئا بتلك الموسيقى الداخلية العذبة التي نحسها في إيقاع ألفاظه وعباراته المختلفة، بل قد اكتشف بعض الباحثين أن في نثر طه حسين عبارات تحقق فيها (الوزن) الشعري بصورته الكاملة، وإن كان طه حسين قد كتبها في الشكل النثري المعروف، ومن ذلك ما جاء في مقال له بعنوان (ذو الجناحين) حيث يكتب هذه العبارة التي تمثل بيتا من الشعر الذي يتوفر فيه (الوزن) الكامل المستقيم:
أقبلت تسعى رويدا
مثلما يسعى النسيم
ولم تكن هذه العبارة وحدها هي العبارة الشعرية في المقال، فقد جاءت بعدها عبارات أخرى متلاحقة توفر لها الوزن الشعري، دون الاهتمام بالقافية، فقد كتب طه حسين بعد العبارة السابقة:
لا يمس الأرض وقع خطاها
فهي كالروح سرى في الفضاء
وهبت للروض بعض شذاها
فجزاها بثناء جميل
ومضى ينفث منه عبيرا
مستثيرا كامنات الشجون
فإذا الجدول نشوان يبدى
من هواه ماطواه الزمان
ردت الذكرى عليه أساه
ودعا الشوق إليه الحنين
ونجد هذه الظاهرة نفسها في كتاب طه حسين (جنة الحيوان) حيث يقول في أحد الفصول:
من أين أقبلت يا ابنتي
من حيث لا تبلغ الظنون
ماذا تريدين يا ابنتي؟
أريد ما لا تقدرون
وينظر الشيخ حوله
فلا يرى من يحاوره
وينكر الشيخ نفسه
ولا شكوك تساوره
فقد رأى شخصها الجميل
تظله هذه الغصون
ولم يزل صوتها الضئيل
يثير في نفسه الشجون
وكانت الشمس قد تولت
كالأمل الخائب الكذوب
وظلمة الليل قد أطلت
كاليأس إذ يغمر القلوب
ويمكن التعرف على المزيد من المعلومات حول ظاهرة (الشعر) في نثر طه حسين بالرجوع إلى مجلة (الرسالة) في مجلدها التاسع عشر والصادرة سنة 1951م حيث تناول هذه الظاهرة عدد من الباحثين من بينهم (إبراهيم نجا) و (محمد سلامة مصطفى) و (حسن الجوهري) وغيرهم.
الذي يعنيني من هذه الظاهرة هنا، هو أن النثر العربي الحديث قد عرف ما يمكن أن نسميه باسم (النثر الغنائي) وهو النثر الذي ينبت كالأزهار في تربة شعرية كاملة، وإن لم يتقيد بقواعد الفن الشعر الصارمة، وهذا النثر الغنائي ينطلق في التعبير عن النفس والمشاعر الإنسانية المختلفة محتفظاً بروح الشعر دون الحرص على مظاهره الخارجية، ومن بين أعلام مدرسة (النثر الغنائي) هذه تظهر أمامنا شخصية الشيخ عبدالعزيز التويجري في معظم كتاباته ومنها:
(في أثر المتنبي) و (منازل الأحلام الجميلة)، و(حتى لا يصيبنا الدوار) و (حاطب ليل ضجر) ثم في كتابه التاريخي عن الملك عبدالعزيز، فالتويجري المؤرخ بقي شاعرا وهو يستعرض أحداث التاريخ الكبيرة ويضعها في ميزان حساس من التحاليل والدقة العلمية.
الشيخ عبدالعزيز التويجري شاعر في نثره كله، وإن كان قد تحرر من مظاهر الشعر الخارجية وأبقى في كتابته على جوهر الروح الشعرية العذبة المليئة بالموسيقى الداخلية، ولست أدرى إن كان عبدالعزيز التويجري قد كتب الشعر في بداية حياته، أن أنه لم يكتب الشعر على الإطلاق ولكن الذي لا شك فيه أن كتابته لا تخرج عن هذا الفن الجميل الذي أحب أن أسميه باسم (النثر الغنائي) الذي هو شيء آخر غير النثر العادي وغير الشعر المعروف بقواعده القديمة أو الحديثة.
ومنذ الصفحات الأولى في أي كتاب للتويجري نحس على الفور بتلك النشوة التي يثيرها الفن في النفس، ونحن نحس بهذه النشوة حتى قبل أن نتعرف على الأفكار التي يعبر عنها التويجري ويعرضها أمامنا ويتناولها بالبحث والتحليل ويتخذ منها موقفا خاصا مستقلاً، ومصدر هذه النشوة التي نحس بها مع كتابات التويجري هو هذه الروح الغنائية التي تسيطر على ألفاظه وعبارته وصوره المختلفة، وهي روح غنائية سهلة منطلقة بعيدة كل البعد عن الافتعال والتصنع مما يجعلها قريبة إلى النفس، قادرة على تحريك المشاعر الإنسانية وخلق عالم كامل من المشاركة الوجدانية الصادقة بين الكلمة المكتوبة والقلب الذي يقرأها.. فلا يمكن قراءة التويجري إلا بالقلب الصافي المتفتح لجمال الفن والحياة.
لقد عاش عبدالعزيز التويجري حياته الأولى في الصحراء، وأتم تربيته الأساسية حتى بداية سن النضج في هذه الصحراء وهذه التربية الصحراوية الأولى هي الجامعة الكبرى التي تخرج منها التويجري، وعندما انطلق هذا الكاتب المبدع الفنان بعد ذلك إلى التجارب الواسعة في العالم العربي وعواصم الدنيا المختلفة، لم يجد - لقوة أصالته - ما يدعوه للخجل من (صحراويته) الأولى، فهو ليس شخصية ضعيفة تنسى جذورها وأصولها عند أول صدام مع الحضارة الحديثة، ولذلك فقد وجد من الشجاعة الروحية ما جعله يتمسك - في غير تعصب أو تشنج- بشخصيته الأساسية، دون أن يغلق عقله وقلبه عن رياح التجديد والتقدم في حياة الإنسان، كل ما هنالك أنه كان يميز على الدوام بين ما هو أصيل وإيجابي، وبين ما هو شكلي وزائف، ولذلك فقد جاءت كتابته كلها تعبيرا صادقا عن الأصالة التي تحافظ على ذاتها وكبريائها التي لا تغلق بابها في وجه كل ما هو جديد وجوهري في حركة الحياة، فالأصالة عند التويجري ليس معناها أن نبني لأنفسنا قلعة نتحصن فيها ضد التطور بل معناها أن نتقبل التطور دون أن نتنازل عن شخصيتنا الحضارية الأصيلة، وخاصة إذا ما عرفنا الجوانب الإيجابية الصحيحة في هذه الشخصية واستبعدنا منها ما لا ينفع أو يفيد، أو ما يدفعنا إلى الضلال في مسالك الحياة.
وهذه الأصالة الصحراوية عند عبدالعزيز التويجري هي منبع عميق من منابع (النثر الغنائي) فالتويجري مشدود بمشاعره دائماً إلى ذلك العالم القديم الذي نشأ فيه يحس نحوه بالشوق والحنين،
ويحمل في قلبه عشقاً كبيراً لما كان يمتلئ به هذا العالم من بساطة ووضوح ونقاء، وما كان يمنحه للإنسان من صحة روحية وجسدية، وما كان يوفره من هواء نقي ومساحات شاسعة يتحرك فيها الناس بغير زحام أو ضوضاء، وما كان يتوفر في هذا العالم من وحدة بين الإنسان وكائنات الله الأخرى من أشجار ونباتات وخيل وجمال وطيور وغزلان، وكل هذه العصور التي انطبعت في نفس التويجري من حياته الأولى كانت عزيزة عليه، فتسللت إلى كتاباته في يسر وسهولة، ومنحتها الكثير من روح الشعر والغناء.
لو كان عبدالعزيز التويجري من هؤلاء الذين يخجلون من حياتهم الأولى ويرفضونها ويحسون بأنها عبء ينبغي أن يتخلصوا منه، لأصبحت كتاباته خالية من هذا الحنين العجيب الذي تمتلئ به، وأصبحت باردة وجافة وتحولت إلى نوع من الفكر المجرد الذي لا تجري في عروقه دماء الحياة. ولقد كان هذا الحنين إلى الماضي والإخلاص له والاعتزاز النفسي به هو الذي أعطى لكتابات طه حسين ما فيها من شاعرية وغنائية فطه حسين لم ينس أبدا أنه نشأ في الصعيد بكل ما فيه من جمال وخيالات، وبكل ما فيه من عذاب وآلام، ولم ينس طه حسين أبداً حياته الأولى في الأزهر، حيث ربطته هذه الحياة بتراثه وأصالته، وعندما ذهب إلى باريس واندمج في حضارة العصر الحديث وثقافته، لم يفقد حنينه إلى ماضيه ولم يقطع تلك الخيوط الإنسانية السحرية التي تربطه بهذا الماضي، فأمده ذلك كله بفيض من الشعر والغناء في كتابته النثرية التي كتبها بعد عودته من باريس مثل (الأيام) و (دعاء الكروان) و (شجرة البؤس) وغيرها من الأعمال المختلفة.
والموقف عند التويجري وطه حسين متشابه، وإن اختلفت الأفكار وطريقة التعبير، ولكن المنبع الأساسي واحد وهو الاعتزاز بأصالة الإنسان وجذوره وعدم الهروب من ماضيه ومعاملة هذا الماضي بمحبة وحنان وشجاعة روحية لا تخشى من مواجهة العالم بشخصية الإنسان الحقيقية وغير المفتعلة.
يكتب عبدالعزيز التويجري صورا من حياته وتجربته الإنسانية في كتابه (حطب ليل ضجر) ويقول في إهداء الكتاب:
إلى حمامة الدوح
إلى واردة الغدير
إلى ظبية الفلاة
إلى ربة بيت الشعر
إلى قيس وليلاه، وجميل وبثيناه
إلى ذكرياتي عن الجمل والحصان والخمية والوادي
إلى قارئ لم يركب الجمل والحصان ولم يرد الغدير..
أهدي هذه الخطرات الظامئة إلى الحقيقة.. والخائفة على جناح العقاب العربي أن ينكسر في يلحق بمنازله في قمم الجبال.. مع من لحق.. وفي هذه العبارات التي يكتبها التويجري نجد الصور كلها مستمدة من حياة الصحراء وتاريخها الوجداني، فالحمامة والظبية والجمل والحصان والخيمة والوادي وقيس وجميل وليلى وبثينة.. كل هذه الصور والأسماء هي جزء من اللوحة الحية للصحراء، وجزء من الذاكرة الوجدانية لهذه الصحراء يرسمها التويجري بسهولة وسلاسة وتتابع وينتقل من هذه الصور إلى الهم الرئيسي الذي يشغله ويملأ عقله ووجدانه والذي يلخصه في خوفه على (العقاب العربي) أي النسر العربي أن ينكسر جناحه فلا يلحق بمنازله في قمم الجبال مع من لحق.. فالهاجس الكبير عند التويجري هو المستقبل العربي ومصير الإنسان في هذا الوطن وهو ليس هاجسا سهلا أو عابرا بل هو حلم حي عميق يعيش في وجدان رجل يعرف قيمة أهله ووطنه وحضارته الأصيلة، ويعرف قدرة الإنسان العربي الرائعة على الإنجاز في مراحل التاريخ المختلفة، وقد تعرض هذا الإنسان للإحباط وتجمعت ضده خلال ما يزيد على خمسة قرون متوالية عداوات مدمرة أرادات أن تقضي عليه وتحرمه من كل قدراته على الفعل والتأثير والدفاع عن نفسه والإضافة التي هو قادر عليها إلى تاريخ الإنسان وتراثه.. إن هذا الهاجس عند التويجري حول الإنسان العربي والحضارة العربية هو نفسه مصدر من مصادر الغنائية في نثره، فأصحاب الهموم الكبيرة لا يستطيعون أن يقفوا موقف المتفرجين المحايدين الذين يبحثون عن سلامة أنفسهم بعيداً عن العواصف والنيران المشتعلة والخوف الذي يشعر به التويجري ليس خوفا على ذاته الخاصة، بل هو خوف على ذاته الحضارية وهو لون من الخوف عظيم ونبيل لأنه خوف الذي يؤمن بضرورة الخلاص من التخلف وضرورة النهوض والتقدم والدخول في سباق الحياة العصرية الحديثة والانتصار في هذا السباق.
إن التويجري يقدم لنا في كتاباته نموذجا حيا للنثر الغنائي الذي ينبع من الأصالة العربية الحقيقية والحنين الدائم إليها، وإلى ما فيها من صور وخبرات ونضارة وبساطة ووضوح، وهي في نفس الوقت أصالة متطلعة إلى الحركة والحياة، ولا ترضى أبدا بالتوقف والجمود، ولا تعترف بالمسافة القائمة الآن بين الإنسان العربي والعصر الحالي الذي يعيش فيه بعد أن دفعته عوامل متعددة إلى أن يبتعد عن الصوف الأمامية، وبتخلف عن المشاركة الفعالة المؤثرة في تحديد مصير الإنسان على هذه الأرض.
وبالإمكان أن نأخذ أي صفحة من كتابات التويجري فترى فيها هذه الخصائص واضحة بينة، وهي خصائص نلخصها جميعا في عبارة (النثر الغنائي) أي النثر المشحون بالعاطفة والإحساس الحاد بالناس والأشياء والمواقف فالألفاظ هنا نقية ناصعة، والعبارات حية نابضة، والإيقاع مسموع بالإذن والقلب معا، والاتصال بالينابيع الأولى للروح العربية يملأ الكلمات والعبارات والصفحات المختلفة، والإنسان يقرأ هذه الكتابات كلها ومشاعره ترتفع معها إلى درجة عالية من الحرارة والحيوية، لأنها كتابة لا تهدف إلى الإقناع العقلي فقط وإنما تسعى إلى خلق الحاجة الروحية الأصيلة إلى التحرك والنمو والمعرفة وكسر القيود التي تعوق الأمة العربية عن ملاحقة العصر والحياة في مستواها الحضاري الجديد. ولم يكن بالإمكان أن يكون لهذا النثر الغنائي عند التويجري أثره الحي الفعال لولا أنه يعبر تعبيراً صادقاً عن مجموعة من المشاغل الحضارية الحقيقية التي نفضل أن نسميها باسم (الهموم) فهذا هو اسمها الصحيح، ولولا هذه الهموم لأصبح النثر الغنائي عند التويجري إنجازا جمالياً خالصاً، ومهما كان الجمال رائعاً، فهو في آخر الأمر جمال شكلي إذا كان بغير وظيفة كبيرة، وإذا عجز عن أن تكون له رسالة أوسع وأشمل، والحق أن التويجري في نثره الغنائي يحمل الكثير من الهموم الحقيقية العظيمة فهو ليس مجرد أديب صاحب موهبة عالية، وصاحب أسلوب فاتن غني بالموسيقى التي تطرب لها الأذواق والأرواح، ولكنه بالإضافة إلى ذلك مفكر كبير ومؤرخ له قامة عالية، وهو صاحب رسالة حضارية نبيلة هدفها بناء مستقبل يليق بالأمة العربية التي كان لها شأنها في يوم من الأيام بل لقد كانت سيدة الأمم جميعاً. وعند التويجري أن عناصر النهوض العربي كامنة فينا، وعلينا أن نضع أيدينا من جديد على هذه العناصر، وأن نتقدم.
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved