الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th December,2006 العدد : 180

الأثنين 20 ,ذو القعدة 1427

عملاق الأدب والثقافة في العصر الحديث
عبد اللطيف الأرناؤوط

تُعَد الكتابة النثرية للكاتب السعودي البارز الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري ظاهرة أدبية متميّزة جديرة بالدراسة لسببين:
الأول أنّ نثره أحيا أساليب الكتابة النثرية الرفيعة التي تلقّت مبادئها جيل الكتّاب المعاصرين في مطلع عصر النهضة، بعدما تحوّلت الكتابة بتأثير وسائل الإعلام إلى التعبير عن أغراض نفعية دون احتفاء بجمال التعبير، وبعدما استقلت الفنون النثرية وأصبح لكلّ منها أصوله الكتابية المتميزة، فضعفت الأساليب الأدبية وقلّ الاهتمام بالخاطرة والمقالة الذاتية الإبداعية، حتى أصبحت وقفاً على عدد محدود من الكتّاب.
أمّا السبب الثاني فإنّ ظهور كاتب بارز يحدد أساليب النثر في المملكة العربية السعودية أمرٌ له أبعاده في تاريخ الانطلاقة الأدبية، فقبل التويجري لم تعرف الجزيرة العربية ناثراً مبدعاً قدّم على الساحة عدداً من الكتب الممتعة بمضامينها، متألِّقة الأسلوب في نمط من التأليف المبدع الذي يصنّف في باب الكتابة الذاتية التي تتطلّب تمكُّناً وإبداعاً واهتماماً بأسرارها، مثلما تحتاج إلى عمق في الفكر وخيال متألِّق يرتقي لها إلى مستوى الفن.
يُعد التويجري في نثره رائداً ومجدداً للبيان العربي في مواجهة التردي والضعف اللذين لحقا بأساليب التعبير النثرية المعاصرة. ولا ينحصر أثره في إحياء الديباجة النثرية الكلاسيكية فحسب، بمقاييسها المعروفة التي تقوم على البيان والتبيين - كما حددها الجاحظ - فالتويجري في نثره شاعر في إهاب ناثر. ولا يقف نثره عند حدود مَنْ سبقه من الناثرين المعاصرين أمثال: عباس محمود العقاد، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وأحمد حسن الزيات وغيرهم، بل يتعدّاهم إلى آفاق إبداعية ذاتية تقرّبه من الشعراء الإبداعيين وذلك لدفء أسلوبه ودفقه الذاتي، وتعبيره عن مواجده النفسية من قلق وحيرة وأمل وخيبة، وذلك مما يجعله قريباً من أدباء الحداثة.
نثر التويجري متوازن يربط بين الذات والموضوع، وبين العاطفة والعقل، وبين الواقع والمتخيّل، وإذا كان اهتمامه يتجلّى في احترامه الكبير لدور اللغة ووظائفها في التعبير، فهو يجهد في تحميل لغته جناح الشعر والخيال دون أن يجور على وظائف اللغة، أو يخرج بها عن دلالاتها، أو يهبط بها إلى مستوياتها الشعبية، فهو محافظ بمقدار ما هو مجدد في النثر من حيث تطويعه اللغة لتعبِّر عن أدق خلجات نفسه وخواطره.
قبل التويجري كان التأمُّل الفكري في قضايا الكون والمصير ميداناً للفلاسفة والشعراء، وعلى يده أصبح التأمُّل موضوعاً للكتابة النثرية الأدبية، وهو يلتقي في نثره بكلا الفريقين يلتقي بالفلاسفة، بالبُعد التأمُّلي لنثره، ويلتقي بالشعراء بالصور الجميلة والخيال الذي يؤلف بين الأشياء، لكنه يمتاز عنهم بأنّه لا يذهب بعيداً في الغموض والتعمية والاتكاء على الخرافة والأساطير. وإن كان مثلهم ينشد الأفكار المجردة المطلقة دون أن يدّعي - وهو الأديب - أنه يمتلك نظرية فلسفية أو معرفية تحلّ أسرار الكون والإنسان. وكثيراً ما يقف عند شاطئ الحيرة والتساؤل لإيمانه بعجز الإنسان عن سبر أسرار الكون العظيم أو إدراك ما أبدعه الخالق في نفس كلِّ إنسان من أسرار خفية .. يقول:
(في تصوُّري أنّ من توهّم أنّه ارتاد الفضاء، ودخل بطفولته الذهنية مجاهله، لا يزال طفلاً أمام علم الله الواسع، وصدق الله العظيم: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}).
ويقترب التويجري من المهجرين في التعبير عن قلقه وتغرّبه، ونزوعه إلى عالم الطبيعة بما فيها من نقاء، ويرى في البداوة صورة لهذا العالم الطاهر، لأنّها تقوم على الفطرة. فيستعير من حياة البداوة مرجعيته الفكرية والجمالية، لكنه يطالب قومه بالاحتفاظ بقيم البداوة دون التوقُّف والجمود عندها. فالحنين إلى الماضي المفقود يجب أن يكون حافزاً للإنسان ليستردّ قيمه. فالله تعالى منح الإنسان العقل ليستخدمه في تحسين شروط الحياة: (فلنأخذ من المدنية خيرها ونطرح شرّها).
والإسلام كما يعبِّر التويجري أعظم رسالة أفرزتها البداوة للعالم، ومبادئه هي التي أضفت على حياة الصحراء النبل والبراءة، أمّا المدنية المعاصرة فكانت إضافة مصطنعة أفسدت جوهر الإنسان وأطاحت قيمه وطيبة سريرته: (هذا العصر لا يريد ذكريات بجمل ثوى، وخيمة احترقت، وصحراء صارت إلى مدن، ولبست لباساً جديداً، وما يريده العصر لا أقوى على احتماله أن أنفي عن ذاكرتي كلّ هاجس يرسله لي الماضي، وإن كان أسمى القيم وأكثرها طهراً، أنا خائف من الأيام الباقية لي. أخشى أن تقول لي: اخلع ملابسك وملابس القديم، والبس ملابسي، وإذا قالتها: كيف لي معها؟ أقدّم رقبتي لها لتقودني حيث تشاء، أم أستجمع قواي الروحية والإنسانية والخلقية وأدخل مسجدي، وأصعد مئذنته وأقول: لا .. وألف لا، فأنا إنسان عربي مسلم).
في الواقع العربي الاسلامي الراهن والمتردي، يجدر الإصغاء إلى صوت التويجري المصلح الذي يطمح إلى إحداث ثورة في نفس العربي المسلم من الداخل، ذلك أن أية ثورة لا تنبع من التراث وتعتمد على وسائل خارجية بالقسر والإكراه لن تجدي في إحداث التغيير المطلوب.
من هذا المنطلق تأتي أهمية دعوة التويجري ونجاعتها في توجيه الأجيال. كان للعلم أثره في تغيير العالم المادي، لكنه عجز عن تحقيق العدالة أو السعادة للإنسان، فالعلم طريق للمعرفة لا يلتفت إلى الألم الإنساني الروحي، أمّا الأدب فهو وحده القادر على التعبير عن كونية تحقق للإنسان إنسانيته. وآفاق النفس البشرية أرحب من أن يسيّرها العلم وحده.
يقول: (علمتني الحياة أنّ النفس البشرية ليست محدودة المعالم، ولم تستطع كفّ العقل أن تقبض عليها، وإن كان هذا العقل يساوي سعة الكون أضعافاً، وما قاسه العلم وما تصوّره العالم وأدلى بشهادته عليه لا يعدو حجة أمام عالم يصل إلى ملامحه أزرار ثوبه، فالإنسان عالم ممتلئ ولن تفرغه من هذا الامتلاء في هذا العصر وحركته على كلِّ طريق من طرق الأرض أو الفضاء).
ويرفض التويجري عقلانية عصرنا الشوهاء، لأنّها لا تمسّ سوى السطح النظري من المعرفة، على عكس غنى الروح، وهذه العقلانية التي تقوم على التجربة تظلُّ قاصرة محدودة، وما تفضي إليه من حقائق يظلُّ نسبياً يتلوّن بنظرة الإنسان إلى الكون والأشياء يقول: (الإنسان ذاته هو الذي يلوّن الأشياء بمفهومه، ويعطيها أحكامه عليها، دون أن يكمل الرحلة مع الحياة في متاعة غير مسرعة الخطا وأحكامه جائرة عن الكمال المطلق في الصنعة التي صنعها الله). آدم الكهف أو آدم الصعود إلى الفضاء هو الذي يخبط خبط عشواء، وهو الذي يجندل التساؤلات ويذبحها دون أن يذكر اسم الله عليها، فهذه العوالم العظمى، وهذا الإنسان الذي يحاورها ويزاورها ويعطيها المعنى لوجودها هو ذاته لم يرَ نفسه ولم يعبر طريقاً واحداً إليها).
ويصدق على التويجري مقولة: إنّنا نفكر حين نتألم، فهو من أعظم الكتّاب الذين فجّر ألمهم النفسي شهادته على العالم وما يجري فيه من مآسٍ، ودعوته للتغيير موجَّهة للإنسان عامة ولقومه خاصة.
إنّ حيرة التويجري أمام أسرار الحياة وتساؤلاته المستمرة عنها تذكِّرنا ونحن نقرأ أعماله، بروائع الأدب الخالد كقصيدة النفس لابن سينا والطلاسم لإيليا أبي ماضي، لكن هذه الحيرة لم تكن دائماًً سداً منيعاً أمام رؤيته الفكرية التي كانت تخترق أحياناً الحجب بإشراقات أقرب إلى إشراقات المتصوفة والروحانيين الكبار، ولا تكاد تفرغ من قراءة كتبه إلاّ وتحسّ أنك أصبحت أقدر على مداراة ضعفك الإنساني، والتنبُّه إلى معنى الرسالة التي كرّمنا بها الله تعالى، وأكثر وعياً لدورك في الحياة الذي يقودك تراخيك إلى تهميشه والاقتصار على ما تمارسه كائنات الدنيا من طعام وشراب.
إنّ قراءة التويجري تكاد تكون إلزاماً للقارئ وأشد تأثيراً مما يكتب عنه، فما ينطق به من درر وحكم هو عصارة تجارب حياته وجهده في التأمُّل، لم يقتبسها من المراجع ومن آراء الآخرين، لأنّه يؤمن أنّ الحياة خير معلِّم للإنسان.
* * *
إنني لا أدّعي أنّ هذه المحاولة المتواضعة في الكتابة عن الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري تلمّ بجوانب فكره أو تمثّل حقيقة أدبه، لكنها مدخل لفهم آرائه الفكرية ونزوعه القوي إلى كلِّ مطلق ونبيل. وأنّ خواطره ورسائله تعكس تجاربه في الحياة ورؤيته الإنسانية والروحية والاجتماعية وخصائص أسلوبه في الكتابة، ونتاجه جدير بالقراءة لأنّه يضعنا على طريق إنسانيتنا السليم (فالحضارة أو التمدُّن ليست أكواماً من الحديد وأدوات الموت، لكنها في تصوُّري إبداع إنساني يبني الحياة ويُقيم المثل، ويحرسها في ضمير الإنسان المضطرب والخائف. الحضارة والتمدُّن في أن ترى الله في مصلاك إن كان في محل عبادتك أو داخل نفسك). وهذا المعنى الروحي هو ما نفتقر إليه في عصرنا المادي .. وهو ما يحاول التويجري جاهداً أن يبصّر به الأجيال لتستردّ ماضيها المفقود، وتحلّق بجناحين من العلم والإيمان، فتستردّ مكانتها تحت الشمس.
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved