الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th December,2006 العدد : 180

الأثنين 20 ,ذو القعدة 1427

كاتب بعد الستين..
د.محمد بن عبدالله العوين

كان ذلك اللقاء في عصر يوم ربيعي لطيف على بركة السباحة في قصره المعروف بالعليا، قبل ربع قرنٍ من الآن أي في عام 1402 هـ، وكان يصغي إليّ وأنا أقرأ عليه شرائح اللقاء الصحفي الذي أجريته معه في مكتبه بالحرس الوطني، لقد كان حريصاً جداً على التدقيق في كل كلمة قالها؛ فهو يتحدث عفوياً ومن دون تحضير مسبق، واللاقط يسجل ما يقول، وهو يخشى أن يكون التعبير خانه، أو أخفق في صوغ كلمة فجاءت في غير محلها؛ لذا حرص على مراجعته والإضافة إليه؛ وقد نشر في العدد الأول من جريدة المسائية عام 1402 هـ، وفي أول عددٍ أيضاً من ملحق (المساء الثقافي) الذي كنت أشرف عليه.
وعلى الرغم من أن الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري لم يكن قد أصدر أي كتاب آنذاك إلا أن حضوره الثقافي والفكري كان مؤثراً، ويثير الإعجاب والتأمل في هذه الشخصية العبقرية الفذة التي تخرجت وتعلمت وتكونت فكراً وخلقاً وسلوكاً وموهبة في مدرسة الصحراء العظيمة، وفي البيئة النجدية القاسية المتحدية التي تكوِّن أبناءها كي يكونوا على مستوى تحدي قساوة هذه البيئة وشظافة عيشها، وسمو قيمها، ومنعتها وعزة نفسها، وعظيم صبرها وعزلتها وتوحدها.
كان للشيخ حضور طاغ في اللقاءات التي تنعقد دائماً في داره في الرياض أو في الصيف حين يكون في لندن أو غيرها، يلتف حوله المثقفون والمفكرون من كل أقطار الوطن العربي؛ فتتوالد الأفكار، وتُقبس المعاني، وتنقد المقولات، وتُعرض أجدّ الإصدارات، وتُثار الهموم القومية والحضارية، وتُقدم المشروعات الأدبية الكبيرة فتجد من الشيخ العون والمؤازرة.
اتخذ من السعي إلى المعرفة بأي سبيل كان هدفاً وغاية، يستمع كثيراً ويقرأ كثيراً ويحاور كثيراً، ولعل من بواكير حظوظه الطيبة لطيبة طويته وحسن نيته أن التقى باكراً في قريته الصغيرة آنذاك (المجمعة) برجل يكبره بأربعين عاماً، وكان فتى غضاً لم يناهز السادسة عشرة؛ فهداه إلى طريق المعرفة، ودله على أمهات الكتب، وتعرف من خلاله على أبي الطيب المتنبي وعلى أبي العلاء المعري، وعلى الشعر الجاهلي والأموي، وعلى التاريخ والفكر فأفاد من معلمه ذلك المجهول الذي لم يبح باسمه في رسائله، ولعله يصرح به في مذكراته التي عزف عن كتابتها لأنها شيء خصوصي كما يقول(1).
ولقد وددت أن أدون ما جرى في ذلك اللقاء الأبوي الخاص من تعليقات واستفاضات وشروح وقصص فيها فائدة وعبرة؛ لولا أنني خشيت أن أكتب ما يفهم أنه خصوصي ولا صلة للقراء به. لقد أدخل في روعي وكنت فتى غضاً متدفقاً بدم الحياة أن الإنسان لا يكمل بماله أو جاهه وإنما بما تكون عليه وتطبع من فضائل وقيم وحكمة وعقل راجح. لقد تعلمت منه كيف يتعامل الأب مع أبنائه وبناته، وكيف يفسح المجال لهم في الاختيار والتكون والبحث عن الذات، ولكن كيف يقف أيضاً بمسافة قريباً جداً منهم موقف المراقب الناصح المشفق المحب، وتعلمت منه كم هي قيمة الإنسان كبيرة في داخله لا بما يملك، ولا بما يصنعه حوله من أبهة وخيلاء وكرنفال.
وتعلمت منه أن في الكون دائماً من هو أكثر قوة وأوفر مالاً وجمالاً وسلطة ومنعة، فإذا نظرت إلى نفسك في المرآة فعليك أن تتطامن وتتواضع لأنك بالتأكيد ستكون قبيحاً جداً أمام كثيرين يفوقونك في كل ما يمكن أن تعتز به.
وعلى الرغم من لقاءات عديدة تمت بعد ذلك إلا أنها كانت لقاءات مزدحمة برواد مجلسه العامر وضيافته الكريمة، والكرم فيها مقسّم على الجميع، بيد أن كرم اللقاء الخاص كان لي وحدي!.
في واحدة من هذه اللقاءات الكريمة في داره العامرة تعرفت على ابنه خالد، معالي الأستاذ خالد بن عبدالعزيز التويجري رئيس الديوان الملكي الآن، وأمين عام هيئة البيعة، وكان وقتها ناهز العشرين عاماً، فدار حوار بيننا عن جبران خليل جبران وصلته بمي زيادة، فذكرت أن الرسائل المتبادلة بينهما قد جمعتها سلمى الحفار الكزبري في كتاب عنوانه (الشعلة الزرقاء) فطلب الحصول عليه، وجئت به إليه في زيارة ثانية وكتبت عليه إهداء خاصاً.
لقد أشار الشيخ إلى ابنه خالد في تلك اللقاءات بأنه من يهتم بقضايا الأدب الحديث والثقافة الحديثة، وما يطرح من جديد في ذلك.
ولا غرو في هذا فشاب ينشأ في مثل هذه البيئة التربوية والعلمية والفكرية والأخلاقية ماذا سيكون؟! إن لم ينشأ متشبعاً بقيم هذه البيئة الرفيعة وآدابها وأخلاقياتها وسمو معارفها.
هل يعد ما كتبه التويجري
سيرة ذاتية؟
يذكر الدكتور زكي نجيب محمود أن كتابة الشيخ التويجري لرسائله الأدبية المشهورة إنما هي ضرب جديد من السيرة الذاتية، فلقد رأينا وقرأنا قبل ذلك كثيراً من سير العظماء التي ترجموا بها عن ذوات نفوسهم، ولكننا قلما وقعت أبصارنا على سيرة ذاتية جاءت بالصورة التي جاءت بها سيرة الكاتب عن نفسه في هذا الكتاب(2). وفي هذا القول مبالغة شديدة، وتجاوز كبير على مفهوم السيرة الذاتية، فالكاتب لم يقصد في الأصل إيراد سيرته؛ لأنه يراها شيئاً خصوصياً، بل تأتي إيماءً وعرضاً، وغرضاً غير مقصود، وكتابته للرسائل هي لون من التفريغ النفسي، وبحث عن مخرج لأفكار كثيرة متزاحمة، يريد أن يخفف بها عن كاهله كما يقول (فمن لا يرم أثقاله وهمومه عن عاتقه في مثل هذا الهذيان الذي لا يعني غير كاتبه، فقد يتآكل في ذهنه وعقله وتفكيره كل جميل في هذه الحياة ويصير إلى جذع يبس وتخشب لا ظل له فيطرحه لتستريح فيه ذاته من طول السفر)(3).
ومثل هذا الذي يعنيه الدكتور زكي من أنه سيرة ذاتية رسالته المعنونة ب: أبكي بكاء أرض عطشى(4)؛ فقد كتب الشيخ التويجري فيها شيئاً من سيرته الذاتية بصورة سردية وباقتضاب إلى أن بلغ السابعة عشرة تقريباً، ذكر صدمته حين بلغه نبأ وفاة والده ودفنه على شاطئ الخليج، ودمعة طفل لم يتجاوز السادسة من عمره على فقد أبيه وترمل أمه، ومرارة هذه الدموع هي مرارتها التي لم تبرحه وهو شيخ تجاوز الثمانين حين كتب هذه الرسالة؛ (فالدمعة الأولى أو الدمعة الثانية على هذه الرسالة مجراهما واحد)(5) ثم ذكر القرية، وكيف هرب من قرية الأهل التي حملوه إليها حافياً على قدميه نهار يوم كامل، وكيف تطوع في إحدى الحملات الحربية عام 1352 ه، وما لاقى من المشاق، ثم كيف أيضاً أراد النزوح إلى العراق بحثاً عن الرزق ولكن صديقه البدوي عنفه وصرفه عن رأيه وأخذه إلى الرياض، ثم كيف كتب خطاباً إلى الملك عبدالعزيز -رحمه الله- يطلب فيه توظيفه فكان هذا فاتحة خير وبداية طريق عملي طويل جداً ومثمر جداً.
ولكن الشيخ لا يريد أن يبوح بسيرته العملية، ويفضل الصمت على الحديث، ولا بمن تعرف عليه من الرجال ذوي القرار، وهو وثيق الصلة بالقيادة، وما يحيط به من أجواء وبيئات عملية تتولد فيها أحياناً توجهات للرأي المؤثر أو تعالج فيها قضايا وهموم وطنية وقومية ومن الخير تدوين ذلك للتاريخ وللأجيال القادمة، بيد أن التويجري وهو في خضم هذه المسؤوليات لا يريد إلا التوقف عند لحظة فاصلة من السيرة الذاتية، هي اللحظة الأولى مع الألم والقابلية للضياع أو الاهتداء، فقد كان على مفترق طرق إما اضمحل واندثر أو بقي ونما ونضج وأثمر، وهو يعود بالفضل في ذلك لله تعالى (ثم لرحم طفولته، بيئته وقريته التي تبني تقاليدها ولا تهدم، وتعطي مثالاً من الأخ والحارس وساكن القرية)(6).
وهو وإن دون لنا في هذه الرسالة فصلاً مهماً من فصول حياته هو ذلك العمر الصعب العاصف الواقف أبداً في مهب الرياح كما أسماه، إلا أنه لا يريد أن يدون من يكون صاحب هذه الرسائل وما لون حياته وما دوره مع القلم أو مع المسؤولية، بل يصرح أن القارئ لن يجد جواباً على تساؤل كهذا في رسائله (لأنها خصوصيات وظروف حياة لا فائدة من بعثرتها على جوانب الطريق العام)(7).
وما دمنا في معرض هذا الحديث فإنني آمل كل الأمل من أبناء الشيخ الأفاضل أن يبادروا إلى نشر سيرة الشيخ عبدالعزيز إن كان كتب شيئاً منها، وعدل عن رأيه في ذلك؛ فهو حين يكتب سيرته وينشرها لا يبعثرها على جوانب الطريق كما ذكر، بل يؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ بلادنا ومسيرتها في طريق النهوض الوطني العام، وهو شاهد أمين على فصول ومراحل هذا التطور، ومع النقلات الهائلة التي مرت بها بلادنا، وعلى القفزات الحضارية على كل المستويات، وفي سيرته عظمة الكبار خلقاً، وحكمة العقلاء تجربة، ونظرة المتأمل الواعي البصير فيما يحدث ويطرأ من مستجدات الحياة وصروفها.
أفكار التويجري في رسائله
كتب الشيخ عبدالعزيز تسعة كتب قائمة على فني الرسالة والخاطرة(8)، يناجي فيها الصحراء، ويخاطب ولديه، ويتحدث إلى التاريخ، وإلى أبي الطيب المتنبي، وإلى أبي العلاء المعري.
فهو يخشى على أولاده من توحش حضارة هذا العصر؛ فيخاطبهم وهم في بلاد الغربة بين أمةٍ تختلف عن أمتهم، ويحيط بهم من المثيرات وعوامل الانحراف ما يرغب ويدعو الشاب إلى أن تزل قدمه إذا ما عصمه الله، ولذا فدافعه في كتابة رسائله مخاوفه ووعظه لأولاده حين كانوا في جامعات القوم هناك بعيدين عن هذه الصحراء وقيمها ومعتقداتها الكريمة، وهو لا يخاف عليهم وحدهم، بل يشاركه في هذا كل الآباء الآخرين على أولادهم من سلبيات هذه الحضارة، بعد عزلة عن عالم البشر، وهو أمر لا يستطيع اليوم خائف أن يختفي عنه وإن لاذ بالظلام(9).
وكأنه يقول: الوقاية خير من العلاج، والوعظ والنصح المسبق أجدى من العتاب بعد الفقد والضياع. يكتب متخلياً عن سلطة الأب دون إلزام، وفي قرب شديد منهم، مختصراً المسافة الزمنية والعمرية الفاصلة بين الأجيال.
يخشى عليهم من الجهل وبلادة الحس والكسل والركض وراء الشهوات وصديد هذه المدنية - الفائضة بها تلاعها - وأن يتخذوها مورداً لهم عن رسالتهم الشريفة في هذه الحياة(10) ويهدي إلى ابنه قيمة التجربة الحياتية العظيمة؛ إذ لا معنى لذكريات مجردة صفراء تكتب دون أخذ العظة والعبرة، والمعنى الحقيقي التربوي الأبوي العظيم يكمن في سر اكتشاف الحياة، وتوظيف التجربة، والتأكيد على قيم الخير والصدق والجمال، والتنبيه على خطورة ما يعتور الطريق من أوشاب وزائفات الأفكار والأخيلة الخادعة، ويذكر أن الباقي الذي يفيد ويثري هي هذه المعاني الشريفة النبيلة؛ فهي أفضل ميراث يتركه له؛ لأن مشاعره وإحساساته وخواطره هي هو، وهي بصمته الوحيدة التي يتركها على دربه (أما ما يأتي وما أورثتك إياه، فهي كما قلت أعراض زائلة وغبار أثرته في وجهك، قد يغريك ويفتنك وينسيك حقائق سامية كثيراً ما ضاع الإنسان عنها في متاهات الترف(11).
ويكتب أيضاً عن حضارة العصر الغول، وماديتها، وجفافها، ومجافاتها الفطرة الإنسانية، وينفي أن تكون محصنة عن الاتهام (12)، ويدعو شباب العرب والمسلمين إلى حرية التفكير وحرية ممارسة الخطأ والصواب في البحث عن الحقيقة، وينقم على من تنكروا لأمتهم وزهدوا فيها وراحوا حاشية رديئة لسلبيات هذه الحضارة، فلا يأسف على قسوته عليهم؛ لأنهم ببغاوات وصدى لا يحمل غير الجوع والظمأ لحامله(13) بل إنه يصرح بهجائه الحضارة الغربية في حوار مع إحدى المحطات الإذاعية الأمريكية فيقول بعد أن أشار إلى سلبيات هذه الحضارة وما تعيشه من تهتك أخلاقي وانكباب على اللذائذ الحسية واندفاع نحو الغرائز الحيوانية: (..ناهيك عن أن الغالبية العظمى في المجتمعات الغربية لا ينظرون إلى الحياة إلا من خلال منظور نظام اقتصادي مادي؛ إذ يكادون أن يقطعوا كل صلة بأوامر الله ونواهيه، وهذا شيء مؤلم جداً ومعذب للنفس الإنسانية فغدا الإنسان وكأنه يخرج إلى الدنيا من النور لينتهي إلى الظلام والمجهول)(14).
ويكتب عن إيمانه العميق بالله، وتوحيده إياه، وتوكله عليه، وعن سماحة الإسلام ويسره، وتعايشه مع الديانات الأخرى، وأن العرب والمسلمين استوعبوا الحضارات والديانات الأخرى كاليهودية والنصرانية وعاشوا سوية في انسجام وتعاط حضاري(15).
وهو متدين عميق الإيمان كما يصرح في حواره الإذاعي(16) وكما يكتب في رسائله(17)، ولا يرى تناقضاً بين الإسلام والعروبة(18)، بل إنه يشتد في الملامة على العروبة بمفهومها المناطقي الضيق، التي تعطي دروساً في القطيعة والتبدد والتوزع وهدم الجار لبيت جاره (ومن لم يقبل على هذه المدرسة فتح له الآخرون مدارس أكثر بشاعةً وأكثر مسخاً وأكثر قطيعة فيما بين الله والإنسان)(19).
إذاً تكاد الرسائل لدى الشيخ التويجري تدور على جملة من الأفكار النيرة، والقيم الأخلاقية العظيمة، وهي ترسم صورة واضحة للكاتب من الداخل؛ فهي بصمته، وهي ذاته دون زيف ودون رتوش، تقوم رسائله على أفكار هي في مجملها تنبثق من الدين بقيمه السمحة، والعروبة بمعطياتها الأخلاقية الثرية، وعلى الصحراء بإلهامها وآفاقها وبيئتها الخلاقة، ويدعو دائماً إلى العودة إلى الفطرة والتسامح والمحبة، ويحن إلى الماضي، ويستلهم مفردات ذلك الماضي وما شكله من صور عن طريق مناجاة الصحراء، والكثبان والرمال، والمطايا، والرواحل، وظلال الأشجار، والطيور، والغسق، والليل، والنجوم، والطبيعة.
وهو في جل هذه الرسائل يوجه خطابه إلى ولده حيناً، وإلى أبويه حيناً آخر. وقد ذهب الدكتور زكي نجيب محمود إلى أن الكاتب يريد أبويه البعيدين آدم وحواء، بينما الأقرب الأشد وضوحاً أنه يريد أبويه الأقربين، وقد صرح بهذا المعنى في الخطاب الأبوي القريب المعاني من شظف العيش وقسوة الحياة التي عاشها أبواه في إحدى رسائله(20).
الموقف النقدي من كتابة التويجري
يتعفف الشيخ عبدالعزيز التويجري كثيراً عن لقب (أديب) ويتواضع كما هو مسلكه في الحياة؛ فلا يرى في ما يكتبه أدباً، بل هو لون من المناجاة الذاتية الخالصة، أراد بها التخفف من أثقال الحياة، والإفضاء إلى من حوله من الأقربين، أو من يرى فيهم مثلاً ومعنى كريماً من الأبعدين، مثل: عروة بن الورد، وعنترة فارس بني عبس، وصاحب معرة النعمان، وأبي الطيب المتنبي، وغيرهم، فيحملهم أفكاره، ويقبس من معانيهم بعض معانيه، ويرى فيهم قدوة ومثلاً. ما كان يطمح إلى نشر هذه الرسائل فهو كما يقول (أنا أحترم القارئ وأجبن من النعامة أن أطرح كلمة في الشارع وأنساها، ليس من السهل على الإنسان أن يقتحم مجال التأليف دونما رضى كاف)(21). كان هذا جوابه حين سألته عن مقدار عزيمته على نشر ما كتب؛ فلحظت تهيبه وقلقه من نشر هذه الخواطر المتداخلة غير المترابطة كما اعترف بذلك في إحدى رسائله إلى ولده(22)، ويعترف بأنه لا يملك الشجاعة كي يعطي ما لديه، ويتواضع خوفاً من ملامة النقد والنقاد فينفي أن يكون لديه شيء له قيمة؛ (إذ هي رسائل أدعها لنفسي أو تنشر بعدي! كتبت الآن منها ثلاثين رسالة وهي خاضعة للمراجعة، وإذا وصلت إلى الصورة التي أريدها يمكن أن أفكر بنشرها)(23).
بَيْدَ أن كتابته المتأخرة التي تدفقت في سن الشيخوخة عندما قارب الستين انثالت في أسلوب خطابي خاص، لم يقتف فيه أثر أحد من السابقين، وإنما جاءت نسيجا وحدها، هي أقرب إلى الأحاديث المملاة منها إلى التدوين الكتابي، فكأنها مشافهة تكتب لا نصاً يفرُّ من بين أنامل صاحبه إلى الورق ولربما ولعدم الدربة باكراً على الكتابة، ولغلبة الشفاهي في ثقافة التويجري، ولأنه لم يتلق درساً نظامياً لغوياً وأدبياً، ولأن البيئة الأولى التي نشأ فيها شكلت وجدانه ولغته ومعانيه جاءت رسائله على النحو الذي جاءت عليه منساقة دون تزويق ولا صنعة، يغلب عليها تكرار المعاني، ومعاودة طرقها بين حين وحين في الرسالة الواحدة، وطول الجمل، وتشابه الصيغ، وغلبة أساليب النداء، وخلو النص من جماليات الشكل الفني؛ لاهتمام الكاتب بالمعنى النفيس وإظهاره بصورة تفوق الاهتمام بالصنعة الفنية، ولابتعاده عن تقليد أساليب المنشئين (وكأنه حين يرى ما تجنيه خواطره بعد طول التفكير، ومداومة النظر، وما يختلط أمامه من الرؤى والأفكار، وانتظار ما سيجيء لا يطمئن في عباراته، ولا يستكين إلى طريقته في الحديث، فيأتي السياق التعبيري متداخلاً متفرعاً، لا يستقيم ولا يتواصل في انسياب نحو الأفكار المتسلسلة المترابطة)(24) وعلى الرغم من تبين هذه الملامح التي أشرت إليها إلا أن الصدق الفني الذي يشيع في الرسائل والخواطر يكاد يصرف النظر عن البناء والأساليب، فلا يسترعي الانتباه سوى انثيال الكاتب وتدفقه الطبعي في سوق أفكاره، والتأكيد عليها في عفوية محببة جميلة ومقنعة. وقد تنبه إلى هذا الملمح د.زكي نجيب محمود في مقدمته التي أشرنا إليها فرأى أن منهج الكاتب هو تداعي المعاني، ويسميه التيار الدافق الذي لا يعرف الفواصل بين خطوة وخطوة في مسيرة واحدة(25)، وقد برع الناقد في إجمال تفوق هذه الرسائل في البعد العفوي المتدفق، وفي انطلاق الخواطر وانثيالها دون قيود، وهذا كفيل وحده بإنجاح النص، وتفوقه وإقناعه، كما أن الصدق الفني يعني البعد عن التكلف، وكراهية الصنعة، وهو لم يتعمد هذا الأسلوب لأنه لا يعلم ما هي الصنعة الفنية في الأصل، ولذا جاءت كتابته صادقة عفوية طبعية قريبة إلى النفس.
وهو وفق هذا المعنى الفني يكاد يكون نسيجا وحده؛ إذ بنى لنفسه عالماً خاصاً، وخلق أجواء ذاتية متفردة، من الصواب أن نسميها أجواء الثقافة الصحراوية بفتنتها وكرمها وقيمها الخلقية النبيلة، وأصالتها وعمق انتمائها إلى الأجمل والأبهى في الإنسان قبل أن يتلوث ويتشوه وتنشرخ في داخله كثير من قيم الصحراء السامية من أثر الاحتكاك غير المتكافئ وغير المتوازن بحضارة المادة والجسد وأدوات الدمار. ويرى الدكتور حسن ظاظا أن التويجري قد سن مذهباً فذاً جديداً في أدب النثر، وليس المعنى أنه ابتدع فن الرسائل، فهو فن عربي قديم، بل المعنى أن التويجري أكسبه من البساطة التي لا يقدر عليها إلا من جاءته هبة من السماء كا يقول(26).
ويعضد البساطة ما يسميه ظاظا بالالتزام الخلقي الذي ينساب كالماء الصافي من النبع، وكان النص - وكما يشير ناقدون كثر - صورة لصاحبه؛ فهو يصوره خير تصوير؛ لأنه فعلاً يكتب ذاته دون تكلف ولا غلواء ولا صنعة ولا تزييف. ولذا قد لا نقول مبالغة إننا قد نستطيع أن نكتب عن الشيخ عبدالعزيز التويجري دون أن نعرف ذاته وجهاً لوجه من خلال رسائله وخواطره الكثيرة المتناثرة في كتبه.
إن هذا الرجل الذي كان يعيش في ثوب واحد طوال السنة، ولا يأكل اللحم إلا في عيد الأضحى - كما يقول(27) - ولا يكاد يصدقه أبناؤه، عاش في رغد من العيش لم يغيره، ولم يدفعه إلى أن يتنكر لماضيه، ولم ينفِ الفاقة والفقر والعوز، بل انطلق في حكمة وعقل وبصيرة إلى التأمل والتفكير والبحث عن الباقي الثري في حياة الإنسان موقناً أن كل ما في اليد من متاع إلى فناء، أما ما ينفع الناس ويمكث في الأرض فهي قيم الخير والصدق والحق، وإشاعة كل معنى جميل، ووأد كل معنى قبيح.
قال لي في آخر لقاء رأيته فيه وهو يهم بركوب سيارته متكئاً على عصاه وعلى أحد معاونيه بعد أن شارك ضيوف المهرجان الوطني قبل أربع سنوات تقريباً أي في عام 1423 هـ حفل الغداء في فندق شيراتون الرياض: لقد انتهى كل شيء يا محمد! قلت له: لا بل أنت باقٍ يا معالي الشيخ، باقٍ فينا ما بقيت أخلاقُك وقيمك وأعمالك وسيرتك النيرة وأبناؤك البررة.
**
هوامش:
(1) انظر: حاطب ليل ضجر، ج1، ص222، دار الشروق، ط1، 1408هـ - 1987م.
(2) السابق، المقدمة، ص8 - 9
(3) السابق، مقدمة المؤلف، ص21
(4) السابق، ص 217 - 222
(5) السابق، ص 217
(6) السابق، ص 222
(7) السابق، ص 222
(8) هي: في أثر المتنبي بين اليمامة والدهناء - المكتب المصري الحديث، القاهرة، ط1 1402هـ ـ 1982م.
- منازل الأحلام الجميلة، ط1، لندن، 1403هـ - 1983م.
- حاطب ليل ضجر، دار الشروق، القاهرة، جزآن، ط1، 1408هـ - 1987م.
- أبا العلاء: ضجر الركب من عناء الطريق - الرياض.
- خاطرات أرقني سراها - الرياض.
- رسائل إلى ولدي - حتى لا يصيبنا الدوار، جزآن، الدار العالمية للنشر، لندن، ط1، 1403 هـ - 1983م.
- رسائل خفت عليها الضياع - بيروت.
- ذكريات وأحاسيس على عضد الزمن، بيروت.
- أجهدتني التساؤلات معك أيها التاريخ، دار الساقي، ط1، 2002م كما صدر له كتاب تاريخي توثيقي عن الملك عبدالعزيز رحمه الله عنوانه: لسراة الليل هتف الصباح، دار رياض الريس بيروت.
(9) رسائل إلى ولدي - حتى لا يصيبنا الدوار، ج1، ص18، المقدمة.
(10) السابق، ص139
(11) السابق، ص41
(12) حاطب ليل ضجر، ج1، ص110
(13) السابق، ص187
(14) انظر: هكذا تكلم التويجري، د.نجم عبدالكريم، إيلاف للنشر، ط1، 1426 هـ، 2005م، ص20 - 21
(15) حاطب ليل ضجر، ج1، ص197
(16) هكذا تكلم التويجري، ص18
(17) حاطب ليل ضجر، ج1، ص75، ج2 34، 254
(18) السابق، ج1، ص164
(19) السابق، ج2، ص73
(20) السابق، ج1، 170
(21) انظر كتاب: مواجهات كي يبقى شيء للتاريخ، د.محمد بن عبدالله العوين، ط1، 1427 ه ، 2006م، ص209
(22) رسائل إلى ولدي، ص30، رسالة: ما لم نقس تربة أولادنا.
(23) مواجهات، ص209
(24) انظر المقالة في الأدب السعودي الحديث، د.محمد بن عبدالله العوين، ط2، 1426هـ ـ 2005م، دار الصميعي للنشر الرياض، ص251
(25) حاطب ليل ضجر، ج1، ص9
(26) السابق، ص9
(27) مواجهات، ص211
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved