الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th December,2006 العدد : 180

الأثنين 20 ,ذو القعدة 1427

النظرية الإنسانية في فكرالتويجري
أحمد بن زيد الدعجاني

أنخت راحلة ذكرياتي على قارعة الطريق الذي مَرَّ به جدِّي، وأطلت المكوث قبالة ذلك المنزل الذي بقي من أضلعه ما يوحي بأن كثيراً من مآثر العرب كانت تسكن فيه؛ فالكرم الذي يحرق آخر غصن يابس لتوقد عليه صحائف الجود والفضل والود الذي تلتوي فيه عواطف جياشة هي حبال الوصل من جيل لآخر.
عرفت رجالاً كالجبال يكتنزون علماً وفكراً وحنكة وحكمة، أبرزهم معالي الوالد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري، الذي كنت أتعطر بسيرته في نشأتي الأولى، وقربت منه أكثر عندما قرأت له مجموعته الأولى، التي جعلها موجهة لولده، وأنا ولده، وكأني به من خلال مفردات رسائله يدعوني للارتقاء بهمة لتلك المنازل العالية التي تسكن في قمم أمثاله، وتصعد بي عباراته إلى سحب الخيال المجنح، فتمطرني بما يغسل هموم الأيام والليالي، وكدورات اللحظات والساعات، ثم دنوت منه أكثر بعد أن تشرفت بالعمل سكرتيراً لمعالي الأستاذ الدكتور محمد بن أحمد الرشيد، الذي علمني من جملة ما علمني الأسلوب الأمثل للنهل من معين المفكر العلم أبي عبدالمحسن.. إذ كانت شفاعته لكثير من الناس رسائل إنسانية راقية ومواقفه مع الإنسان أيا كان موقعه ترقى به إلى أعلى مراتب النبل والجود.. ولعلي وأنا أقف على نماذج من بنات فكره، أضع اللبنة الأولى في مشروع متكامل لدراسة فكر (عبدالعزيز التويجري) الذي جعل النظرية الإنسانية أكثر شفافية وأعمق بُعداً، وأمضى سلاحاً للتواصل بين الناس.
فالإنسانية شعور أكبر من كل المشاعر.. وأرحب من كل الخواطر، ولا تكون إلا للمشاعر النبيلة وفق القيم السامية.
وهو يرى أن التفرقة العنصرية ليست من الإنسانية، والقهر الفكري والاجتماعي منافٍ للإنسانية، وقبل ذلك الإسلام دين الإنسانية، جاء إلى الناس كافة؛ لأنه جاء بكل القيم العليا، والعلاقات الراقية، دون تفرقة بسبب لون أو زمان أو مكان.
قالوا: المتنبي شاعر الإنسانية؛ لأنه في كثير من معانيه خرج عن حدود الذات والجماعة إلى مساحات بلا حدود، هي الإنسانية، وهذا ما جعلهم يقولون عنه إنه شاغل الناس في عصره وبعد عصره، ولا يزال يشغلنا حتى اليوم.
والأديب عبدالعزيز التويجري يؤثر هذا الجانب الإنساني في كثير من معاني شعر المتنبي، ولا سبيل إلى حصر ذلك الآن.
لقد بحثت عن تلك النظرية الإنسانية في ثنايا فكره، فوجدتها نابعة من صميم حياته وبيئته، حياته العربية تمتد في اتساع هذه الجزيرة العربية، التي فرضت عليها ظروف الحياة أن تتسم بالإنسانية، فالنجدة والشهامة، والحمية والغيرة، والكرم والعطاء، كلها صفات إنسانية عرفتها الجزيرة العربية قبل كل بلاد الدنيا وامتدت جذورها حتى اليوم، واستمد ذلك النبع الإنساني بكل فيوضاته الإنسانية من الدين الإسلامي الذي امتلأت آيات كتابه المبين بالحديث عن الإنسان؛ إذ وردت كلمة (إنسان) نحو سبعين مرة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى {خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، وقوله تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.
من هنا جاءت هذه الشفافية في نظرته الإنسانية، وقد ظهرت بوضوح في كل كتاباته، وكل أفكاره عن الحياة، وعن التعامل معها ومع الناس ومع علاقته بذويه وبالآخرين قال في إحدى رسائله: (وقد تعودنا نحن عرب الصحراء أن نثير مطايانا للسرى عندما تبرك أنثى السماء في مهجعها وتختفي في الأفق الذي ما كنا ندري ما لونه وما حدوده وما نوع الفراش الذي تنام عليه، كانت سذاجتنا، حين نراها تتهادى إلى مغيبها على سعف النخيل، نتصور أنها هابطة على أدنى وأقرب كهف من منازلنا، ولم ندر ما البعيد وما القريب، ففتحات نوافذ البيوت الذاتية فينا، إذا نحن أجهدنا النفس وفتحناها لنرى ما وراءها ابتلعت الرؤية في أفواهها الجائعة إلى الحقيقة). ويصور الجانب الإنساني في قصص بعض نساء العرب اللاتي صرن أمثلة تهم كل إنسان هام بالفضيلة: (ليتهم يقرؤون قصص الأمهات والآباء عبر الزمن في هذه الصحراء، ليت راكبات الهودج أو ساكنات الكوخ اللواتي ضربن خيامهن في منازل عبلة وليلى وبثينة وعفراء وبنات المحلق وغيرهن، تزورهن ابنة الجامعة والمدرسة، فتقف على الأطلال والرسوم تسائلهن عن الجدات والأمهات كيف كن، وكيف صرن أمثلة في فم كل إنسان هام بالفضيلة وضاق بالتفسخ والانحلال، حتى شاعر باريس (أراجون) وحتى شاعر ألمانيا (جوته) ركبوا جناح الخيال وضربوا خيامهم في أودية نجد يسائلون الجبل والوهاد والوادي والشعب، أهنا ضربن خيامهن؟ أمشت أقدامهن الطاهرات في هذا القاع؟ ورعين البهم صغاراً وكباراً كأمهاتهن؟). ويؤكد هذه الشفافية الإنسانية في حديث القلب إلى القلب، في حديث الأب إلى الابن تلك هي أسمى المشاعر والعلاقات الإنسانية.. اقرأ معي قوله:
(كم جادل الإنسان في سريرته وعلانيته هذا الكون عن الله وحاول بكل لون من ألوان الجدل أن ينفيه ويثبته، قاس في الأزمنة البعيدة وفق مقياسه سماءه وأرضه بالمقياس الذي قطعه من شجرة ذهنه، فطال الجدل حتى وصل حبله إلينا اليوم فتحول الجدل والتجويع والترويح في فمه وفي أرضه إلى أعاصير وأتربة في فم رواد الفراغ والذين لا يستطيعون أن يملؤوه بالتواضع وبمقياس طولهم وعرضهم في الأطوال البعيدة والبدينة، أتراهم لاحقين بشيء في خطاهم التي لا تزال هي هي في خطى الوليد؟ فالله خلق الكون والإنسان، ما هو معلوم وغير معلوم من الأشياء.
خطل ما بعده خطل أن نتأله ونؤله المادة في هذا الكون الواسع المليء بالأسرار، وعجز ما بعده عجز أن نغير في ناموس الحياة والكون ولا نقول عل الله غير ما قاله الكتاب العزيز:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}وقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ}.
هنا تقع مسؤولية عظمى أمام هذه المشاهد الكونية التي إذا تطلعنا إليها وتابعتها رؤيتنا اهتدينا إلى الله بقطرات ندية وخفقات رحيمة من الوجدان ومن التواضع، فلا شيء فينا يعمينا عن قدرنا وعن حجمنا وعن قدرتنا، غير الكبرياء الزائف، وليس أهدى طريقا للإنسان في حياته من التواضع وسط أكوان خاشعة متواضعة كل منها سائر على جادته لا يقوده رسن ولا تضربه عصا من القفا، فقانونه الطبيعي الذي وضع قدمه عليه هو رسنه وهو حاديه الذي يحدو له؛ لأنها الطاعة التي تتعبد بها خالقها وسيرها إلى قدرها المحتوم).
ثم يضعنا بعد هذا الحديث الإنساني الأبوي أمام أمنيات إنسانية رفيعة الدلالة سامية المقصد، ذات فلسفة إنسانية عميقة الإدراك لهذا المعنى المحيط.. يقول: (ليت الإنسان، أي إنسان، يرقى ويصعد فوق مراكب وعيه الروحية والخلقية مثلما صعد فوق مراكب الفضاء! البعد الذي لا حدود له، والنجوم التي لا تنطفئ ولا تلقح دونها الرياح الضباب هي في أعماق الإنسان وفي نفسه!).
وها هي ذي نجوم سماء الإنسانية الأخلاقية تضيء مجالات هذا العالم الذي يمكن أن يتحول إلى ظلام دامس لولا هذه المعاني السامية وها هو: (التسامح والإيثار والوفاء سبيل متى ما قامت عليه علامات من مكارم الأخلاق سهلت على الإنسان متاعب الحياة، ووصيتي لك أن تكون قادراً على الارتفاع بنفسك من السفح إلى القمة. وفي المقارنة بين حمامة الدوح وغراب البين وبومة الخراب تجري بنا المقادير وتحملنا فوق الأعواد اليابسة التي اختارها غراب البين نذيرا بالنهاية، فما رأينا شجرة خضراء ظلت ملاذاً للإنسان الخائف، أبداً فهي خائفة وملاحقة بالفناء مثله!).
ويعود المفكر الإنساني إلى الحديث مع ابنه، وكأنه يرى أن هذا الحوار هو أصدق ما يمكن أن يكون؛ ذلك لأن حوار الأب مع ابنه هو الذي لا تدخله المجاملات، أو المغالطات، بل هو التوجيه الصادق إلى أسمى المعاني، وأرحبها، المعاني ذات البعد الإنساني الرحيب.
(إن مشاعرك الإنسانية، تتطلب منك الكثير من الأمور، فأنت إنسان، والإنسان الحق لا حقد لديه، ولا شر، لا بغضاء ولا أنانية، لا خوف ولا إذلال، لا شح ولا قتر، كل القيم والأخلاقيات الكبرى تندرج تحت مسمى الإنسان).
وتلك النظرية الإنسانية التي تغلف فكر عبدالعزيز التويجري هي نظرية ارتقت فوق كل مستويات الموجودات حتى علت إلى المستوى الأعلى، وهو مستوى الإنسانية، حوار فلسفي بعيد المغزى، ينقله أديبنا إلى ابنه قائلاً:
(خشيتي أن يكون في سمعك وقر، وفي بصيرتك عمى، فأصرخ أو لا أصرخ، أحزن أو لا أحزن، أبكي أو لا أبكي، لا شيء يصلك أو تسمع صداه، فمتى تهدل أحزاني في نفسك هديل الحمام؟ أسألك وسؤالي في عمر الوليد لم يكبر ولو كبر لانقضت رحلة الشتاء، وفاضت بنا على الربيع، وعندئذ تقف بنا الدورة الزمنية عند قدمه وتنتهي المشكلة! فهل لي وأنا أرقب المشكلة من بعيد أن أضع المجهر في عينك لتبصر رتابة ممشى الزمن وتثاقل خطاه فوق رمال الجهالة؟ والأسماع المرهفة في إصغائها إلى خطوة فجرت بها الأصوات المنكرة).
وهل ابنه هذا إلا غصن غض من دوحة كبرى، ذات ظلال وارفة على سائر الإنسانية.. إن العرب والمسلمين قد وضعوا بصماتهم الإنسانية على كل مجالات الحياة الإنسانية في سائر المعمورة، وحق لهم بذلك قيادة هذه الدنيا، لأنهم اتسموا بالمثل العليا التي تجعلهم النخبة والقدوة.
(في تصوري أن اختيار نخبة من عالم العرب والمسلمين يزكيها إخلاصها وتقاها وسعة أثوابها العلمية التي لا تضيق بكل سؤال وإن كان بديناً وثقيلاً حمله، فتقدم لهذه الأمة الصورة الكريمة عن فضائل هذه الرسالة التي لا جناح يذهب بعيداً ولا عدالة على هذه الأرض، إن كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية إلا والرسالة الإنسانية والهداية مصدرها).
(ولدي:
ليت الإنسان منا - عربا ومسلمين - يصغي في وقار خجول مستح من الله فيقف من نفسه موقفا، لا تحمله على كفها حماقة النفس والانفعال والغضب والكره والحقد فيحمل أثقل الاحجار على هامة غروره وجهله فيلقيها على كبد مجتمعه دون رحمة أو شفقة).
ويصل إلى الطريق الذي تظل معه شجرة الإنسانية مورقة، وتبقى القيم الإنسانية ناضرة، وتعيش الإنسانية سامية مزدهرة.
(وسقي الشجرة الإنسانية لا يأتي من مياه الغمام أو مياه السحب التي تثيرها الرياح على الصحراء فتحط مياهها ثم تنشف في فم حرارة الشموس، هذه حركة أو دورة زمنية أو غضبة من غضب الرياح أو رضاها تعطي للحياة لوناً من ألوان الربيع ثم يغتاله الخريف، وهكذا يجري معنا المشهد عاماً بعد عام، فشجرتنا لا وادي لها غير الوادي النفسي ولا هامة لها في جبل غير جبل الوعي، متى وعيت هذه الحقيقة وأنزلت كل ثقلك عليها).
تلك هي لمحة من شفافية النظرة الإنسانية التي تقوم عليها فلسفة عبدالعزيز التويجري، ولست أتناوله من حيث كونه أديباً فقط بل بصفته أديباً متأثراً باتجاهات الأدب الإنسانية. وإذا أردنا التعرف على هذا الاتجاه وجدنا أنه لم يرتبط باتجاه واحد، ليستقي منه هذا التوجه الإنساني.
لقد أخذ من الشعر العربي في عصور ازدهاره ما ارتوت به شاعريته من المثل الإنسانية التي دعمت الفضيلة وأثرت بوضوح في سياق الفكر البشري كله، وسوف يبقى الشعر العربي القديم والإسلامي والعباسي معيناً للقيم الإنسانية التي ستظل البشرية ترتوي من نبضها. ثم هو يأخذ من الرومانسيين التعمق في النفس الإنسانية وتحليل مشاعرها، وهو متأثر أيضاً بشعراء المهجر من حيث النزعة الإنسانية التي انتهوا إليها وهم في مهجرهم حيث تتجمع كل النماذج البشرية من كافة أرجاء المعمورة، وهناك انطلق فكرهم دون حدود في ظل هذه الإنسانية غير المحدودة.
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved