الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 11th December,2006 العدد : 180

الأثنين 20 ,ذو القعدة 1427

التويجري وفن كتابة الرسائل الحديثة
د. عبدالعزيز المقالح

أسئلة كثيرة تنداح في البال عند الحديث عن فن الرسائل، وهل هو قديم أم حديث؟ وهل في إرثنا الأدبي الحضاري ما يعد جذوراً لهذا الفن الذي يتوهج في عصرنا لدى قليل من أدبائه ومفكريه العرب منهم وغير العرب؟
ثم ما الذي يجذب القارئ الخاص والعام إلى هذا الفن من الكتابة؟ هل أسلوبه الذي ينتمي لدى بعضهم إلى السهل الممتنع؟ أم توقع ما يكشف من أسرار كاتبه وما قد يفصح عنه من أفكاره وهمومه ونظراته إلى الحياة؟ ولا ننسى تأثير العرف الذي ساد بين عامة الناس وما يزال من أن الرسائل المتداولة بين الأبناء والآباء والأهل والأقارب لا تخرج عن النطاق الشخصي، ولا يصبح أو لا يجوز أن تكون مفتوحة علنية، وإذ حدث أن قادت الصدفة إلى نشر رسالة ما، فإن ذلك لا يكون موضع استمتاع واضح كما هو الحال في قراءة الرسائل المفتوحة، وإنما يكون ضرباً من الاقتحام على أسرار الآخر والتجسس على خصوصياته.
والفكرة السائدة عن فن الرسائل أنه فن سهل يسير التناول في حين أنه فن صعب، وهو في العصر الحديث يزداد صعوبة لتشابكه مع أسئلة الواقع ومشاهده المثيرة، وهو - أي فن الرسائل - وإن اختلف عن الشعر والقصة والرواية من حيث إنه لا يحتمل الكتابة الغامضة، إلا أن فيه شيئاً من كل هذه الفنون الأدبية، ولا سيما حين يتعرض لرسم صورة الواقع الراهن والحديث عن مصائر الناس ومعاشهم وأحلامهم ومشكلاتهم، وفيما قد يندفع إليه كاتب الرسائل من المقارنة بين واقعه، حيث يقيم وواقع الآخرين حيث يعيش المرسل إليه، وهو ما يزخر به هذا النوع من الكتابات، ومنها هذا الذي يتجلى في كتاب الشيخ عبدالعزيز التويجري (رسائل إلى ولدي) التي استهلها بمقدمة هي إلى الشعر أقرب منها إلى النثر المتعارف عليه في الرسائل وغير الرسائل: (يوم استجبت لنشر هذه الرسائل وأخذت قلمي لأخط هذه المقدمة، وقفت حائراً: أأنا بهذا الهذيان أو هذا اللون من التعبير أجرح كبرياء القلم وآخذه ضيفاً على عائلة ذهنية ليس لديها قرى أو كساء جميل تجمل به هذه العائلة ضيافة القلم لها وتعطيه قدره العظيم..؟) (ص15)
لن أتحدث عن تواضع الشيخ الوقور في وصفه لما أبدعه في كتابه هذا من تعبير يسمو ولا يهبط بكبرياء القلم. كما لن أبدأ في تقديم نموذج أو نماذج من هذه الرسائل التي تكشف عن تجليات هذا الفن الأدبي وتماهيه مع الشعر في أحدث امتداداته المعاصرة، وسأكتفي - بداية بإشارة غير وافية إلى أن السلطة - وقد كان الشيخ عبدالعزيز، عندما كتب رسائله إلى ولده واحداً من أعمدتها - لن تستطيع مهما اشتد سلطانها وتكاثرت مشاغلها أن تسلب المبدع الحقيقي موهبته أو تسحبه في إطارها أو تبعده عن شغفه الأصيل إلى المعرفة والاقتراب الحميم من عوالم الإبداع. يحدث هذا في عالم اليوم كما كان يحدث في عالم الأمس عندما كان المبدع ينتزع نفسه من مسؤولياته اليومية ويرجع إلى ذاته ليحررها من ضغوطها، وينتزع هذا الشيخ الذي تفتح وعيه على ثقافة أمته، القديم منها والحديث، الشعري والنثري، السياسي والفكري، وكان حريصاً على أن يتزود منها بنصيب وافر. يضاف إلى ذلك أن السلطة وقد كان أجمل ما يمتلئ به الوجدان من أشواق وحنين وأفكار يقترب من الراهنية المكانية والزمنية أو يتجاوزها، وهناك نماذج لمبدعين عرب وغير عرب تمكنوا بقدر من الوعي الخلاق أن يوازنوا بين ما هو للسلطة وما هو للإبداع ولم يقبلوا بحال أن يحرمهم المنصب الكبير من ضعف الكتابة والإبحار في عالمها الجميل.
الشيخ عبدالعزيز التويجري، واحد من هؤلاء الذين تتغلب مواهبهم وحبهم للأدب على إغراء السلطة وما تفيض به على أصحابها من شهرة ومجد تجعلهم في غير حاجة إلى البحث عن مجال آخر للشهرة والمجد، وبذلك استطاع هذا الشيخ المثقف الجاد أن يختزل أفكاره ورؤاه في كتاباته التي تعد إضافة حقيقية إلى ما قدمته الجزيرة العربية في القرن العشرين من طلائع كتابات أدبية وفكرية حين نجح في أن يقتطع من وقته المزدحم بالمسؤوليات وقتاً للقراءة وآخر للكتابة الفكرية الراقية. وفي مقدور القارئ العادي ناهيك عن القارئ المتابع والناقد المتخصص أن يدرك أهمية الآثار الأدبية والفكرية التي أنتجها هذا المسؤول المبدع رغم شواغله وهمومه ومسؤولياته الجمة. وفي مقدمتها كتابان على درجة من الأهمية هما: (في أثر المتنبي بين اليمامة والدهناء) وهو كتاب عاشق مفتون بأبي الطيب الذي استرجعناه في عصرنا الراهن بعد أن أدهشنا وهو يختزل أحزاننا ويعبر عنها بوضوح لا نكاد نجده في إبداع معاصرينا. أما الكتاب الآخر فهو (رسائل إلى ولدي.. حتى لا يصيبنا الدوار). وبما أن الكتاب الأول قد نال من الاهتمام في حدود ما قرأته بعض ما يستحقه، فإن الكتاب الأخير هو ما استثار اهتمامي ووجدتني مشدوداً إلى الحديث عنه في هذه التأملات.
الطرف الأول من عنوان الكتاب يذكر القارئ لأول وهلة بعنوان مماثل لكتاب صدر في أوائل الخمسينيات للكاتب والمفكر الموسوعي الأستاذ أحمد أمين وعنوانه: (إلى ولدي) وهو مجموعة رسائل كتبها صاحب (فجر الإسلام) إلى ولده الذي ذهب لطلب العلم في بريطانيا، وكتاب الأستاذ عبدالعزيز التويجري، وعنوانه - كما سبقت الإشارة - (رسائل إلى ولدي) كتبها إلى ولده الذي ذهب للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية. وفيما عدا هذا التشابه، فإن الكتابين يختلفان أسلوباً وموضوعات. رغم أن كلاً من الأبوين - أحمد أمين، وعبدالعزيز التويجري - يحرصان على أن يقدم كل منهما إلى ابنه خلاصة تجاربه، ويُبثه بعضاً من همومه ومشاهد لما يراه في واقعه المحلي من انكسارات وإحباطات. وهذه الصورة في كتاب الشيخ التويجري أوضح وأكثر تفصيلاً منها في كتاب أحمد أمين. كما أن أسلوب الكتاب الأخير - كتاب الشيخ التويجري - أكثر حداثة وتحرراً وشاعرية وتلقائية من أسلوب الكتاب القديم الذي كان يمثل أسلوب التأليف في النصف الأول من القرن العشرين، بما أحاط به من صرامة التعبير وجزالة الألفاظ.
وقبل الاقتراب من كتاب الشيخ التويجري المليء بالتوهج الداخلي والتلقائية المثيرة للإعجاب تجدر الإشارة إلى العنوان الفرعي للكتاب وهو: (حتى لا يصيبنا الدوار) لأنه يختزل المعنى الكبير لما توحي به رسائل الكتاب من قلق تجاه ما تتركه الحضارة الحديثة على الأجيال الجديدة من انبهار سطحي وشعور مذهل تجاه المفارقة الهائلة والناتجة عن المقارنة المتسرعة بين ما وصل إليه الآخر من تطور في التقنيات المدينة وما كنا ولا نزال نعاني منه في حياتنا من حيرة وتردد، وما نشهده من تغيرات طفيفة تلامس السطح ولا تنفذ إلى الأعماق، وفيما يسيء إلى تكويننا الروحي والنفسي والاجتماعي أكثر مما يساعد على وضعنا في دائرة التجدد والإبداع. ولعل أهم ما تقدمه رسائل الشيخ عبدالعزيز التويجري إلى قارئها أنها تجعله ينظر إلى نفسه مطولاً قبل أن ينظر إلى ما حوله ثم إلى ما هو بعيد عنه، وهي دعوة غير مباشرة إلى الصحوة والانتماء إلى إنسانيتنا ومبادئنا وإلى التمسك في وجه المتغيرات والاختراقات. وبالإضافة إلى ذلك لا تعدم هذه الرسائل أن تكون سيرة حياة فيها من خصوصيات الكاتب وعواطفه واعترافاته الكثير، إذ ما يكاد يمسك بالقلم لكتابة واحدة منها حتى يجد الورقة البيضاء تنفتح أمامه للبوح عن مكنونات نفسه في حدود ما يحتمله واقع الإنسان العربي المتمسك بالقيم والمتشبث بالعادات والتقاليد الحميدة. وفي هذه الرسائل سرد بديع يتضاءل معه سرد كاتب القصة القصيرة. وفيها شعر جميل يمكن لنا أن نلحقه بالكتابة الشعرية النثرية فيضيف إليها ولا يخدش شيئاً من جمالياتها، صحيح أنه شعر غير موزون ولا مقفى، ولكن هكذا صار غالب ما يكتبه الشعراء العرب والشبان منهم بخاصة خارجاً عن نظام الشعر الموزون المقفى. وهنا مقاطع من إحدى رسائل أو قصائد الكتاب وهي بعنوان: (تأمل ملامح الألم) وسأحتفظ بتشكلها كما ورد في الكتاب:
ولدي
في رسالتي هذه سأكسر جناح الخيال، وسأنتف ريشه ليبقى في تراب الأرض يذرع قيعانها، فالشعراء والحالمون ومن تاهوا بفكرهم في محاريب هذا الكون، أسراب أطيار هاجرت بها أحلامها فتنفست الصعداء ولم ترجع إلينا لنسألها عن الخبر..!!
حاولت أن أصعد أنفاسي وأن أحلم فأقعدتني ترابيتي مع التراب، فإذا جاءتك رسالتي في هذه المرة تشم في أنفاسها روائح الأهل والجيران والأقارب في النسب البعيد، فلن تراها في عفة العذري الناسك، فعفة رسائلي إليك قد استباحها العصاة عندي في هذه الرسالة ولم يبقَ لي مكان في واديهم الكبير خال للاستراحة.
فإذا جاءتك غبراء الوجه، لم تنظف، فلأن روائح الطريق العام علقت بها وخطتها أنفاسي إليك في أصوات غيلان الوادي..!!
لا تفزع ولا ترعك ملامح الصورة البذيئة، فتكرع الألم والتشاؤم! هذه حظوظنا نحن العرب وهذه أقدارنا أبقتنا أحجاراً مع الأحجار وخلفتنا عقبات في طريق المارة، لأننا أردنا ذلك، ونكست رؤوسنا هذه الاستكانة في أكياسنا الترابية. فالسماء فيها النجوم وفيها الكواكب المضيئة، هي في ظني معلقة بها أحلام الشعراء والمفكرين والمشرئبة أشواقها إليها...
ولدي:
ترفق بي..! فقد قست على الحياة، وأدمت قلبي في جورها علي، ففي الولدان من يبر أباه. ومن يبره ولده بعصا يتكئ عليها يمكن له أن يقف ثم يخطو في سعة الأمل..
تأمل في كدحي إليك ملامح الألم في وجهي، فقد ضايقتني الأحجار، فلا تكن حجراً من أحجار الطريق أتعثر فيك.. فعثرة الابن في عين أبيه كسر لا تجبره السنون وإن طالت.. مطلبي فيك كبير وكبير جداً، فعريي الروحي والفكري والسلوكي لا يكسوه إلا ابن بار بوعيه وبنظافة جسده وروحه) ص239.
لا أريد للقارئ أن يظن بأنني تخيرت الاجتزاء من نص هذه الرسالة لقربها مما أهدف إليه، وإنما جاء الاختيار عشوائياً، فالرسائل كلها تقريباً تنضح بالشاعرية وتكشف مباشرة عن شاعر كبير يتخفى وراء هذا الكاتب المشبع بحب الصحراء والمتمثل لأصوات شعرائها وأحلامهم وخيباتهم، وهو لا يكف عن الاعتراف بأنه من جيل عاش العزلة في الصحراء أجيالاً طويلة، لكنه لا يرفض الجديد المفيد ولا يكره العلوم التي تحررنا من الضعف وتثبت لنا أن (الحياة لم تكن واحدة من المعلقات السبع يفاخر بعضها بعضاً، وتقص علينا قصص البداوة، الحياة اليوم - كما ترى - منا ترى غضبت على تخريفات الماضي وسكونه وروّعته في بلادته وخموله، وقفزت في نشاط العقاب الكاسر على صخور هذا الكون ومجاهله). (ص412).
لقد أثبتت هذه النصوص الرسائل أن صاحبها وهو الشيخ عبدالعزيز التويجري، واحد من المثقفين العرب الذين يؤرقهم واقع الأمة، وأن كتاب (رسائل إلى ولدي.. حتى لا يصيبنا الدوار) لم يكن مجرد رسائل شخصية من أب إلى ولده، بل كان خلاصة تفكير عميق مع النفس في تمردها وقلقها، وصدى لحوار ساخن مع العصر وتداعياته تلك التي وضعت الإنسان - والعربي بخاصة - بين ضفتي نهر اليأس والأمل.
الصفحة الرئيسة
عدد خاص
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved