الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 12th January,2004 العدد : 43

الأثنين 20 ,ذو القعدة 1424

الحداثة الشعرية في المملكة العربية السعودية
علي الدميني
«تجربة شخصية» 35

كنت أكتب بداياتي الشعرية، وأراقب ما ينشر في صحفنا المحلية، وكان الصمت والعزلة يترسخان في مكوناتي النفسية والكتابية، ويتواطآن مع سكن الطلاب في كلية البترول التي تشبه قرية موحشة معزولة في صحراء، لتأبيد حالات الصمت والانقطاع والانهماك في عجمة كتب الهندسة، مما جعل التمرن على كتابة الشعر معادلاً وحيداً للتواصل مع الحياة، والتطهر من حالة حب يائسة، حفزتني لكتابة نص شعري شبه يومي، مما دفع بزميلي في الغرفة إلى تركها هربا من هذري الشعري المتواصل.
وحتى لم يكن شعر ديوان العرب يشفي تشوفي لحداثة النص، في واقع كانت المكتبات فيه فقيرة، وكان دخول دوواين الشعر الحديث إلى الوطن محاصراً، والنشاط الثقافي معدوماً، فإن أرض الشعر قد تفتحت في هذا المناخ المجدب عليَّ ما يسر الإطلاع عليه في بعض الصحف والمجلات المحلية والعربية، وعلى ما استطاعت الأذن التقاطه من نصوص شعرية جديدة عبر المذياع من البحرين إلى بغداد وحتى القاهرة.
وإذ أوصف تجربة فردية فأنني أزعم أن تعميمها لن يجانب الصواب في شيء، وأن مفاعيل ذلك المناخ السائد هو الذي أعاق تبلور الحداثة الشعرية في تلك الفترة.
ولأن الأشياء لا تجد مسمياتها دفعة واحدة، فقد سعيت إلى مراكمة قصائدي في طيات كتب الهندسة منذ عام (68م) حتى تيقنت بحسي النقدي، بأما أكتبه قد أصبح يضارع فنياً ما تنشره صحفنا ومجلاتنا آنذاك لبعض الشعراء الشباب الذين سبقوني في النشر والقدرة على تطوير ممارسة الكتابة الشعرية، مثل إبراهيم الفوزان، وسعد الحميدين، أحمد الصالح، ويوسف الحبيب، وحينها أخرجت نصوصي من مكامنها في عام 71م إلى واجهات الملاحق الأدبية في بلادنا.
وحين استعيد ما قاله محمود درويش في قصيدة سرحان:
هنالك غيمُ شديد الخصوبة
لابد من تربة صالحة.
فإنني استذكر بحنان لا حد له، تلك التربة الصالحة، التي وجدتها في جريدة اليوم.
ولكن القاء المطر بخصوبة الأرض قد قبضت عليه، وإلى الأبد، حينما تعرفت على محمد العلي عن قرب، حيث غدا «العلي» المعلم الأول لتجربتي الشعرية والثقافية والإنسانية بدون منازع.
وحين نمضي صوب منتصف السبعينيات لنرى إلى منجز التجربة الشعرية التي خاضها عدد من الشعراء الشباب، فسوف اجترئ على الجزم بأننا لن نجد فيها بمعايير النقد المتوفرة اليوم تياراً شعرياً متبلوراً في خصائصه الفنية وملامحه الخاصة وإنما سنرى فيها تعدداً يشي بمرجعيات أصوات رواد الشعر الحر في العالم العربي، من خليل حاوي (لدى الحميدين) ونزار قباني لدى (أحمد الصالح) وإلى تداخل السياب، وسعدي يوسف (عند الفوزان وعلي الدميني).
بيد أن تلك البدابات الواعدة كانت بمثابة الإعلان عن حسم خيار الأجيال الجديدة لكتابة الشعر الحر، متحدية مقاومة الذائقة السائدة.
وبالرغم من عدم توفر تلك التجربة الشابة على مقومات الأنموذج المؤثر في محيطه، إلا أنها كانت مصباحاً يضيء الطريق أمام الجيل الأحدث للبحث عن منجز رواد التفعيلة العرب، في مضانه الغنية، ومواطنه الأصيلة.
ومثلما يحقق قانون التراكم الكمي تحوله إلى منجز نوعي في الطبيعة والمجتمع والحياة الثقافية، فقد تضافرت فاعلية رائدي قصيدة التفعيلة في بلادنا (العلي والقصيبي) وكوكية التجديد الشابة (تجربة سعد الحميدين وأحمد الصالح، كمثال) والملحقات الأدبية في صحفنا، علي تهيئة المناخ لملائم، لولادة «النص المضاد» في أواخر الثمانينات وخلال عقد التسعينيات، وانفتح المشهد الشعري على بروز أسماء شعرية لامعة في فضاء شعر التفعيلة مثل عبدالكريم العودة، عبدالله الصيخان، محمد الثبيتي، محمد جبر الحربي، عبدالله الزيد، علي بافقيه، محمد زايد الالمعي، حسن السبع، وغيداء المنفي، خديجة العمري، ثريا العريض وأشجان هندي وغيرهم.
أما في فضاء قصيدة النثر، فقد ترسخ حضور الرائدة فوزية أبو خالد، ومحمد عبيد الحربي ومحمد الدميني، وإبراهيم الحسين، وأحمد الملا، وهدى الدغفق، وغسان الخنيزي وغيرهم من الأسماء البارزة الأخرى.
الشعر الشعبي الحديث
تستحق تجربة قصيدة الشعر الشعبي الحديثة في المملكة، التفاتة تأريخيه ونقدية جادة، لأن تلك القصيدة الاختراقية قد أنتجت فيما بعد خطابا يُعد من أهم الخطابات الشعرية البارزة في منطقة الخليج.
ولضيق المساحة المتاحة التي لن تمنحني الحيز الأمثل للحديث عنها، فسأكتفي بالإشارة إلى بداياتها التي تجاوزت مكونات موروثها الشعبي في اللغة، وفي تشكيل الصورة والخروج على عمود الشعر الشعبي، وفي تأسيس «اللغة المحكية» التي تجمع بين ثقافة الفصحى وبساطة استخدام المفردة وتطويعها بحرية لا تخضع لنظام النحو العربي.
وقد رسمت تلك القصيدة خطواتها الأولى منذ مطلع السبعينيات، ثم نضجت بهدوء على يدي مجموعة من الشعراء، تصادياً مع تجربة الشعر الشعبي الحديثة في مصر والعراق والبحرين، ومن أبرز شعرائها سعد الثوعي، إبراهيم الغدير، الأمير بدر بن عبدالمحسن، وشاكر الشيخ، إلا أنها وجدت تميزها وصياغة صوتها الخاص والمتفرد من خلال شعر الأمير بدر بن عبدالمحسن الذي يعد رائداً حقيقاً لهذه التجربة الخصبة.
كما أن تجربة غناء هذه النصوص الشعبية الحديثة بأصوات أبرز الفنانين في بلادنا مثل طلال المداح، محمد عبده، قد أسهمت في اختراق ثبات الذائقة وأغوتها بتقبل الجديد، والتفاعل مع جمالياته، والتفتح على تجربة الشعر الحر بشكل عام.
الملحقات الأدبية
بحكم وظيفيتها الصحفية المنفتحة بالضرورة على مستجدات العالم، أسهمت الملحقات الأدبية في صحافتنا السعودية، في كسر عادية الذائقة، وفي إغناء حركة التثاقف ما بين الداخل والخارج، وما بين المناطق المتباعدة في بلادنا.
وإذ لا يمكنني إغفال الدور الذي نهضت به ملحقات الصحف الكبرى، وخاصة ملحق جريدة الرياض وجريدة الجزيرة إلا أنني هنا سأشير إلى تجربة ملحق جريدة اليوم «المربد» الذي أشرفت على تأسيسه وتطويره منذ عام 75م، حيث عملت مع بعض الأصدقاء على جعله نافذة تطل على التجارب الشعرية العربية الحديثة، وعلى الشعر العالمي المترجم، وعلى الرموز الأدبية الهامة في المحيط الجغرافي، وخاصة في العراق والبحرين، كما عمل الملحق على نشر تجربة قصيدة النثر والاحتفاء بمبدعيها في المملكة، وشمل اهتمامه الشعر الشعبي الحديث، والفن التشكيلي، وتشجيع الأقلام الجديدة، وحين تركته مرغما في عام 82م، استمر الملحق في أداء دوره الهام بإشراف عدد من المبدعين حيث أصبح واحدا من أكثر المنابر الأدبية احتفاء بتجربة النقد الجديد وسجلها الغني الذي أشعله الغذامي مع عدد من النقاد، في منتصف الثمانينات.
وفي مناخ تلك الحاضنة «المربد» التي كان يوجهها محمد العلي، تشكّل تيار الأدب الواقعي في الشعر والقصة والدراسة الأدبية في بلادنا، ولكنه تمايز عن إرث تيار الواقعية الوظيفية الفاقعة، حيث لم يحمل ذلك التيار في ساحتنا الثقافية، لواء وصاية مؤسسة أيديولوجية أو سياسية محددة، وإنما استفاد من الجذور الواقعية في مرجعيتها المعرفية، ومضى في فضاء الحداثة الإبداعية بما هي فعل اختلاف وتجريب وتجاوز.
ثالثاً: الحداثة:
صخب التسمية «وسعودتها»:
الغذامي وحركة النقد الجديد
لعل ما عرّجت عليه آنفاً ما يسوغ لي العودة إلى الحديث عن قيد المصطلح ومراوغته، وصخبه أيضاً، في مناخ ثقافي محافظ كالذي تتنفسه بلادنا.
لذلك ومع معرفتنا وتقديرنا للجهد النظيري الهام الذي أشاعه «أدونيس» في فضاء الثقافة العربية، من خلال مصطلح الحداثة، ومن خلال المشروعية التاريخية التي أضفاها على أطروحته فيما يخص جذور الحداثة الشعرية في تراثنا العربي باعتبارنا كائنات تاريخية لا تقبل إلا ما أجازه الماضي إلا أن الحركة الأدبية الحديثة في المملكة، تحاشت خلال السبعينيات، استخدام هذا المصطلح، نتيجة لشواهد المشروعية ذاتها التي اثبتها ادونيس، وكرد فعل على مراوغة المصطلح من الجانب الآخر.
وسأوجز هنا ما يختبئ خلف هذا الموقف من أبعاد:
1 تستدعي كلمة «الحداثة» إرثا ثقافيا تأسس على توظيف الحديث النبوي الشريف القائل: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد»، ولذا فإن الكلمة تصطدم بحاجزها، ولو أن الصدف أسعفتنا بكلمة تختلف عن هذه لكان رد الفعل الاجتماعي عليها أقل استثارة وأخف عنفاً.
2 تتضمن الحداثة، وفي إحدى تجلياتها، القطيعة مع الموروث، وذلك ما يستفز مخزون الذاكرة التي تنطوي على أجمل منجزات الإزث الشعري العربي، بما فيها تلك الجذور التي أشار إليها «أدونيس» في شعر بشار، وأبي نواس وأبي تمام.
3 ينبني المصطلح في بعض جوانبه على مفهوم الهدم الدائم، للأشكال، والقناعات، وانقلاب تقاليد الحداثة على ذاتها بحسب أكتافيو باث بما يحيل تجربة الكتابة الجديدة إلى مختبر شكلاني تأملي منغلق على ذاته ومعزول عن بنيته النصية الكبرى المتوفرة على حركة مجتمع وفق شروط الزمان والمكان، ولذا فإن تيار الواقعية الأدبية، قد طرح المصطلح جانباً.
4 ولأن الحرية ضرب من ضروب مواجهة الضرورة وفهمها أيضاً، فقد كان هناك تواطؤ غير مكتوب على أن مضمون الشعار، أهم من الشعار، وأن قدر الجغرافيا التي احتضنت المقدس، وقدر السياسة التي قامت على خطاب النص المقدس، قد اجتمعا في بنية اجتماعية وثقافية، عالية الحساسية إزاء المستجدات، وأن على المثقف الواعي بظروفه الموضوعية، مهما كان حماسه للجديد، أن يتعامل مع الحقائق القائمة كما هي، لا كما يريد لها أن تكون.
5 بيد أن ذلك التواطؤ الضمني، جرت تنحيته أو القفز عليه، في منتصف الثمانينيات، حيث بلورت رحلة التراكم، ملامح النص المضاد، الذي لابد أن يعلن عن اسمه، عبر تطور أدوات شعراء السبعينيات، وبروز أسماء جديدة متميزة، وتزامن كل ذلك مع ولادة التيار لنقاده الذين انتظرهم طويلاً، فخرج النقاد الأكاديميون من يومهم الأول من رتابة الدرس الأدبي خلف أسوار الجامعة، إلى معترك الكتابة والسجال في قلب الحياة نفسها.
وقد دشن السريحي مرحلة المراجعة ومساءلة المنجز وتعرية البنى القارة فيه، وانطلق محتفيا بالمختلف والمفارق في تجربة الشعر الجديد، وتبنى حداثة شعرية تنزع إلى ما بعدها، وألقى الغذامي حجراً ضخماً في البحيرة الراكدة بسحب العلي فأدخل النقد الألسني إلى غرفة العائلة، كما أسهم البازعي في تأصيل تيار الواقعية وإغنائه بثقافة النقد المقارن، وقد تميز بسعيه إلى خلق حالة من التعاطف الحميمية بين الشعرية الجديدة والجمهور.
أما الملحقات الأدبية، وخاصة ملحق عكاظ الأدبي، فقد احتفت بصوت عال بهذا المخاض الصعب، وأطلقت عليه مسمى «الحداثة» على الرغم من التباينات الواضحة في تحديد معنى المصطلح بين الاطراف العديدة التي أسهمت في تشكيل ملامحه، حيث لا يرى الغذامي وفي معظم ما قرأته له، وخاصة في كتابيه، «الموقف من الحداثة» و«النص المضاد» إلى أن الحداثة رؤية..
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
كتب
وراقيات
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved