الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 12th January,2004 العدد : 43

الأثنين 20 ,ذو القعدة 1424

تفكيك السحر الغربي وقراءة التراث الإسلامي 1
شاعريّة البخلاء في: مُعاذة العَنبريّة
قراءة: الجوهرة آل جهجاه
جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي
النص التراثي
«ثمّ اندفع شيخٌ منهم فقال: لم أرَ في وضع الأمور مواضعها، وفي تَوفيتها غاية حقوقها كمعاذة العنبريّة. قالوا: وما شأن معاذة هذه؟ قال: أهدى إليها العام ابنُ عمّ لها أُضحية. فرأيتها كئيبةً حزينةً مُفكِّرةً مُطرِقة، فقلت لها: مالكِ يا مُعاذة؟ قالت: أنا امرأةٌ أرملةٌ وليس لي قَيِّم، ولا عهد لي بتدبير لحم الأضاحي، وقد ذهب الذين كانوا يُدبِّرونه، ويقومون بحقّه، وقد خِفْتُ أن يضيع بعض هذه الشّاة، ولستُ أعرف وَضع جميع أجزائها في أماكنها. وقد عَلِمْتُ أنّ الله لم يخلُق فيها، ولا في غيرها، شيئًا لا منفعة فيه، ولكن المرء يعجز لا محالة. ولستُ أخاف من تَضيِيع القليل إلاّ أنّه يجرُّ تضييع الكثير.
أمّا القرن فالوجه فيه معروف، وهو أن يُجعل كالُخطّاف ويُسمَّر في جِذعٍ من جُذوع السّقف، فيُعلَّق عليه الزّبل والكِيران، وكلُّ ما خِيْفَ عليه من الفأر والنّمل والسّناسِير وبَنات وَردان والحَيّات وغير ذلك. أمّا المصران، فإنّه لأوتار الِمندفة، وبنا إلى ذلك أعظم حاجة. وأما قِحف الرّأس، واللّحيان وسائر العظام، فسبيله أن يُكسر بعد أن يَعرق ثم يطبخ، فما ارتفع من السّمّ كان للمصباح وللإدام وللعصيدة ولغير ذلك، ثم تؤخذ تلك العظام فيُوقَد بها، فلم ير النّاس وقودًا أصفى ولا أحسن لهبًا منه. وإذا كانت كذلك فهي أسرع في القِدر، لِقلّة ما يُخالطها من الدُّخان. وأمّا الإهاب، فالجِلد نفسه جِراب. وللصُّوف وُجوهٌ لا تُعَدّ. وأمّا الفرث والبَعر فحَطبٌ إذا جُفِّف عجِيب.
ثمّ قالت: بقي الآن علينا الانتفاع بالدم، وقد عَلِمتُ أنّ الله عزّ وجلّ لم يُحرِّم من الدّم المسفوح إلا أكله وشربه، وأنّ له مواضع يجوز فيها ولا يُمنع منها، وإن أنا لن أقع على علم ذلك حتى يوضع موضع الانتفاع به صار كَيَّةً في قلبي، وقذىً في عيني، وَهَمًّا لا يزال يُعاوِدُني. فلم ألبث أنْ رأيتها قد تطلَّقتْ وتَبسّمتْ، فقُلت: ينبغي أن يكون قد انفتح لكِ بابُ الرّأي في الدّم. قالت: أجل ! ذَكَرْتُ أنّ عندي قُدورًا ! شاميّة جُددًا. وقد زعموا أنّه ليس شيءٌ أدبغ ولا أزيد في قُوّتها من التّلطيخ بالدّم الحارّ الدّسم، وقد استرحتُ الآن، إذ وقع كلُّ شيءٍ مَوقِعَه.
قال: ثمّ لَقِيتُها بعد ستّة أشهُر، فقلتُ لها: كيف كان قَدِيد تلك الشّاة؟ قالت بأبي أنت ! لم يجئ وقت القديد بعد، لنا في الشّحم والُجنوب والعظم المَعرُوق وغير ذلك معاش ! ولكلِّ شيءٍ إبّان. فقبض صاحبُ الحمار والماء العذب قبضةً من حصى، ثمّ ضرب بها الأرض، ثمّ قال: لا تَعلمُ أنّكَ من المُسرِفين، حتّى تسمعَ بأخبار الصّالحين !». (كتاب البخلاء للجاحظ)
القراءة
هذه القصّة من سلسلة قصص أبي عثمان، عمرو بن بحر الجاحظ (ت255هـ)، وهي لم تُفرد بقراءة نقدية قبل، حسب علم صاحبة هذه القراءة.
بدءا، تلحظ القارئة أنَّ هذه القصة تابعة لحديث سابق، وراويها «شيخ» مُتحمِّس لروايتها (اندفع)، وأنَّ مُعاذة مِثال أو نموذج في حُسن تدبير الأمور ووَزنها، وكذلك حماسة الجمهور ودهشتهم لمعرفة أمر هذه المرأة المميَّزة (وما شأن؟!).
ابتدأت الرِّواية بجُملة مليئة بالتّناقُضات:
* أُضحية (عَطاءُ سَلْب) (أعطاها هدية؛ لكي تتخلَّص منها بالقتل/ التّضحية).
* ابنُ عَمّ (بُعْدٌ فيه قُرب) (العام الماضي زمن بعيد، لكنّ الفاعل (ابن العَمّ) شخص قريب منها)
* لَ (مركز الحركة والزمن).
ومع هذا، تتوالى أربع صفات ظاهرية، تُوحي بما استنبطتْه عَيْنُ الرّاوِي
كئيبة
حزينة
ها
عين الرّاوي
مُفكِّرة
مُطرِقة
وهي تُعبّر عن حركة نفسية مُضطربة، ومَكبُوتة داخل كَينُونة ال«ها»، لا يمكن أن يُدركها أو يَتحسَّسها إلاّ مَنْ له صِلة حمِيمة بمُعاذة، ولو كانت فَوقِيّة من الذاكرة ورِواية الأحداث.
بعد ذلك، يَدخل الرّاوي في حوار مباشر معها، مما يُؤكِّد الحميمية، ويسألها عن شأنها، وتُجيبه أوَّلَ ما تُجيب بأنها « أنا »، فهل كانتْ هو؟ أم هي الغائبة؟ أم أنت الُمخاطَب؟ ثُمّ بأنها «امرأة»، وهل كانتْ رجلا في ظاهِرها ؟ أم لأنّها مُؤنَّث مُعاذ؟ هل كانتْ خيالاً، لا حقيقة؟ هل كانتْ مُشتَبِهَة عليه جدا، أم ماذا؟ ثُمَّ بأنها «أرملة»، وليس لها قيّم.
لقد قطعت الفجوة، التي يُؤمَل أو يُتوقَّع منها أن يكون للأرملة قَيِّم، ولو غريب رحيم. هي تُثبِتُ وحدتَها، التي تَتآزر على إثباتها هاءات الغائبة المتتابعة، والصفات المؤنثة المفردة، وتاءات التأنيث المفردة، وأنا وياء المتكلمة الحاضرة. وهي وحدة سلبية، تَقطع صِلتَها بالزمن الماضي والبشر الآخرين، وتُبقيها في بُؤرة الحدث أو المسرح وحيدةَ لحظتها. ولا تكتفي بالوحدة الظاهرية، الحسية، بل تسعى (أو يسعى الرّاوي) إلى ترحيل ما في ذهنها من معنى وذاكرة، فتنفي أن يكون لها ذاكرة في تدبير لحم الأضاحي. ونَفْيُ التدبير، يُبقِي على سُوء التدبير، ونَفْيُ لحم الأضاحي، يُبقِي لحم الأيام العادية أو القُوت اليومي. إنها خالية من حُسن تدبير المناسبات، التي تربطها بالآخرين جَبْرا، وتَمُد بينها وبينهم علاقات من حركة وذاكرة واسطتها اللّحْمة؛ لحمة الأُضحية.
تُكثِّف مُعاذة عملية الإخلاء أو التفريغ للعلاقات والذاكرة بأنْ «... قد ذهب الذين كانوا يُدبِّرونه، ويقومون بحقه،... »، وهُم غَيرُ القَيّم الخاص بها. وبما أنهم ذهبوا، فهم قِلّة مُتَفرِّدة، انقطعتْ أسبابُهم بهذا الزمن. وهذا يُقابل البداية الأولى للقصة؛ حيث تكون معاذة الخليفة الوحيدة لهم؛ فالرّاوي لم يَرَ مَنْ يُدبِّر تدبيرها في الزمن الماضي، فهي تفوقهم، وهي امرأة ضَمِيرها الهاء الغائبة وأنا المتكلمة، الحاضرة بذاتها وفعلها، فهي تُلغِيهم وتتجاوزهم. ولا يبقى في المسرح سواها، كل الأنظار والأفكار مُرَكَّزَة لاكتشاف سرها. وتكشف أن السبب في قلقها واضطراب شأنها هو خوفها من عدم الإفادة من أي جزء من أجزاء الشاة. وعندها يتقابل خَوفُ تَضْيِيع البعض مع نَفْيِ معرفة تدبير الجميع، مع عِلمها اليقيني بأن لكلّ فائدة، مع حَتمية عجز الإنسان عن بلوغ ذلك، وإدراكه، وفعله، مع خوفها الضياعَ، الذي يتسرب من القليل، ليقضي على الكثير؛ أي من البعض للجميع، من الواحد الفرد إلى الجماعة المتميزة بسِمة التدبير، من امّحاء ذاكرة الجميع/ السابقين/ الذاهبين بسبب امّحاء ذاكرة الفرد الحاضرة عنهم أجمع. وكل هذا يُركز البُؤرة على ما تريد مُعاذة قَولَه لا ما تريد فِعله؛ فهي تنفي الفعل؛ لتقول شيئا ما، وتثبت بِ: قد، ولسْتُ، ولكن، ولا، وبالحضور المكثف لذاتها في ضمائرها المتبدِّلة؛ لتقول خِطابا ما، ينطلق من تراكيب تلك الحالة، التي وُصِفَتْ بأنها «... كَئِيبةٌ حَزِينةٌ مُفكِّرةٌ مُطرِقة،... ». ولم يرد فيها ذِكْر للجهل، أو الخَرَق، أو الاستنجاد بآخر، وإعلان الحاجة إليه، ولا التطلع لما هو آتٍ من المجهول. إنما النظر، والفِكر، والحزن، والكآبة، مُرَكَّزَة على المكان الأرضي بمساحته الصغيرة، المحدودة، التي يكفيها فِعل الإطراق أو تكفيه. ولا بد أنَ ظل المُطرِقة واقع على مكانها؛ لأنه حُدود وُجودها وعلاقاتها الأولية بالمكان.
قد يكون المكان الأرضي باعثا لفِكْر الذاهبين، الراحلين فيها، وهي تحاول استنباطه منه. وقد يكون الخَصِيم، الذي يريد سَلْب بعضٍ من الشاة الأُضحية: دمها، أو فرثها، أو رَمِيم عظامها. إنه مِرآة تُواجهها بِتَحدِّي الماضين، الذين لها علاقة معهم، قامت من النفي الحاضر لهم. وهم في الوقت نفسه ليسوا أعداء لها؛ لأن العلاقة حميمة في باطنها؛ فهم رسموا لها في وُجودهم مِثال التدبير وحِكمته، التي لا بد أنْ تَخْلِفَهم فيها، حتى لا تنقطع ذاكرتهم، ويموتوا تماما، وهي ستلحقهم. إذن هي في أمسِّ الحاجة لِمَن تلتجِئ إليه، ويُنجدها من هذا المكروه المتوقَّع.
هناك فجوة زمنية، حوارية، غائبة بين تَشَكِّيها الأول، وبَدئها تَعداد أوجه التدبير المَعلومة. فجوة تعود قليلا لترتبط بفجوة أخرى في نفي عهد الذاكرة بتدبير لحم الأضاحي، وفي نفي شمولية المعرفة، ولو مجرد المعرفة البسيطة، الساذجة، وكذلك في إثباتها لعلمها اليقيني بأن في كل مَخلوق حكمة تُوجب تأمله وحُسن تَصريفه وفقا لها. وحين يتتبع القارئ توزيع العنبرية لأجزاء الأضحية بتلك الصورة، التي تربط ما بين أجزاء جثة الشاة، التي ستَهمد، وأجزاء البيت، الذي يُعَد بهذه الصورة، ليطيب سكنه؛ حيث المصران أوتار مندفة القطن، التي تتناصّ مع الآلات الوَترية، الغنائية، والعظام المَعرُوقة من لحمها وقود نار صافية اللهب، تُذكِّر بالشموع الرفيعة، ووقود مصباح بزيتها، ولذاذة أدام وعَصيدة، سيرى القارئ نفسه أمام مشروع استثماري اقتصادي لرَبّة منزل عربية بدويّة على أعتاب الحَضَر، يكوي قلبَها ويقذي عينَها ألاّ تُحسن تدبير شيء واحد، لا أشياء لا عِلم لها ولا عهد بتدبيرها. وبعد أن يتعقّد الموقف الذهني والنفسي عند تدبير الدم المُحيِّر، بعد مَدّ زمني بين واجب التدبير، وعِلم شُموله، وتوقُّع الأذى النفسي من عدم حصوله، تَنفرج العُقدة بتطلُّقها، وابتسامها، وإعلانها: «...، قد استرحتُ الآن، إذ وقعَ كلُّ شيءٍ مَوقِعه. ». ممّا يمسح ظلال الرؤية الأولى الثاقبة حين كانتْ «... كئيبةً حزينةً مُفكِّرةً مُطرِقة،...».
يتحرك الزمن في ظل سكون المكان الظاهر والمُتوقَّع، لينكشف بعد ستة أشهر أنّ العَنبرِيّة ما تزال «... كئيبةً حزينةً مُفَكِّرةً مُطرِقة،... »؛ لأنْ لم تَزل مَواطن من الشاة لم تجد لها تدبيرا؛ لأنّ وقتها لم يَحِنْ. ويضرب أحد الجمهور المستمعين (قد يكونُ الشّيخُ الرّاوية هو صاحب الحمار المُعجَب) الأرض بقبضة من حصاها؛ إعجابا بها، ويُطلق مقولته، التي تختم القصة/ النص «...: لا تعلم أنّكَ من المُسرفين، حتّى تَسمع بأخبار الصّالحين ! ». والنهاية بلا نقطة (عِلما بأن الترقيم من صُنع المُحقِّقِين وليس من صُنع الكُتّاب القدماء)؛ أي مفتوحة، تنطلق من التّعجُّب إلى ما يمكن أن يُضاف للنص بعد ستة أشهر، تُتِمّ زمن الشاة عامين، ليُرى هل آن الأوان؟ وهل وصلت العنبريّة إلى أُصول التّدبير؟
إن لغة القصة لا غرابة فيها ولا صعوبة، وهي حية مناسبة للموقف؛ ف (التّلطيخ) مُلائم لمن سيدبغ قُدورا بدمٍ حار، لا يُريده أن يبرد، فيُفسد عليه العمل. وفي الوقت نفسه، هناك كلمة سابِقة للتلطيخ تَمسح عنه دِلالاتِ التشويه والّلاتأنُّق، وهي (الدّبغ) في صيغةِ أفعل التفضيل، كما أن هناك كلمة لاحقة، تَمسح عن التلطيخ بالدم صورة الاشمئزاز والتّقزُّز بجعله مصدرا للراحة، التي لم تسكن منذ بداية النص إلى أن بلغت هذه الصورة.
أما بشأن الشخصيات البارزة في النص، فهي:
أ شخصية مُعاذة، وهي الشخصية المركزية، صاحبة البطولة، التي تركّزت الضمائر والأوصاف عليها، حتى بصيغة جمع المُذكَّر «الصالحين»؛ حيث معاذة اختِصار لشجرة عائلتها المشهورة بِفَنِّ الاقتصاد الإنتاجي في الأضاحي، وهذا يُتعالى على إحدى مقولات النقد النّسويّ القَلِقة.. من تهميش المرأة حتّى في نصوصها المكتوبة بيدها.
ب شخصية الشيخ الرّاوية، وتكاد الباحثة تجزم بأنه هو صاحب الحمار نفسهراوِية الماء الذي ضرب الأرض بقبضة الحصى، وهدف بطولته الشخصية المُمثَّلَة بِضَميرَين مُختلفَين يُوهِمان بأنهما شخصيتان منفصلتان هو إعطاءحركة أكثر للمشهد، وأبعاد أكثر للرّؤية المسرحية، وذلك بتجمْهُر البعض وشُهوده هذا الموقف الفريد. هذه الشخصية شخصية ثانوية، مُحاوِرة، لها دور التحريك وإثارة مُعاذة، أو مساعدتها، أو تقديمها لأداء بطولتها. وهي بطولة ذهنية، كلامِيّة؛ لأن الحدث لم يقع إلاّ مرة واحدة، وهي عندما كانت مُطرِقةً، مُفكِّرةً، حَزِينةً، كَئِيبة.
أما بقية الأفعال، فمِن النسيج الخيالي على المستويات التالية تصاعديا :
1 نسيج مُعاذة، وهي تبحث عن مفاتيح حُسْن التدبير لأُضحيَتها.
2 نسيج الرّاوية، وهو داخل النص مع مُعاذة، مُستَتِرًا خَلْف صوت المحاوِر لها.
3 نسيج الرّاوية الشيخ، وهو يَقُص للجماعة الحاضرة أمامه.
4 نسيج الجاحظ، وهو يُدوِّن الحكاية.
ووصف الرجل الرّاوية ب «الشيخ» يُوحِي بأنه حَكِيم مُدبِّر، وعلى طُول عهد بالعَنبِريّة ومَن ذهبوا من مُدبِّريها، مَضرِب المَثَل. وإن أبدى إعجابه بها بادِئ النص ، فإنه لا يَبعُد أنْ يكون من أسلافها المتلاعِبين بمِحور الحضور والغياب؛ فمُعاذة غَيّبتْ أسلافَها في النص وامتَدحتْهُم، لِتَتقدّم هي، وتحتلَّ مركزية الصورة. وهذا الرّاوية تَقدَّم، بل اندفع لِيَروِي حكاية مُعاذة، لِتَغِيب في رِوايته، ويتقدّم هُو، أو لِتَتقدّم مُعاذة، ويتقدّم من خلالها أكثر، ويزداد حُضوره ومركزيته في الصورة، رغم أنه مجهول. لكن قد يُستَدلّ عليه من أوصاف حُسن التدبير داخل النص.
قد تُضحِك الحكاية، بوصفها حكاية امرأة بخيلة، تقف نموذجا كاملا ومُفصَّلا لمثال البخل القُحّ أمام نموذج وصورة المرأة المُبذِّرة، الغَرِيرة في التراث العربي، التي لا يُعوَّل عليها في حُسن التدبير، ولا تُنسَب غالبا إلاّ لِلْحُمْق. وهنا، تتوقّف القارئة؛ فالنص يُشير إلى تَضمُّنِه لأعمق من الإضحاك وثرثرة مَنْ يُوصَفون بالبخلاء والبخيلات.
لِتَعُدِ القارئة إلى حافز النص الأساسي، وهو الأُضحية، التي قد تكشف الدلالة المَعنِية. «الأُضحية» لا تكون إلاّ مرة واحدة في السنة، وهي هديّة من ابن عَمّ في العام الماضي؛ أيْ في أضحى العام الماضي. الأمر، الذي يُبرِّر لِمَ قالتْ مُعاذة لسائلها بأن «... لِكُلِّ شيءٍ إبّان»، وبأن الأوان لم يَئِنْ، عندما سألها عن أضحيتها بعد ستة أشهر، فكيف تُضحِّي وسط السنة، في غير موسم ويوم الضحايا والتضحية؟
أيضا، هي (الأُضحية) مُختارَةٌ ونفيسة، بما أنها هدية، واستحقت التفكير في كل ما هو من كيانها. وهي تتضمن معنى المُفاداة، والبذل، الذي يُرجى الطائل الحَسن من ورائه. ومن المُلاحَظ أن مُعاذة لم يُؤرِّقها اللحم، ولم تَذكُره؛ لأنها ستتصدق به، ولن تُتبِعه المَنَّ والأذى؛ تأكيدا على البِر بصدقته، التي تُطمئنها. لكن البقية من الأحشاء، والأعظُم، والصوف هي ما أهمَّها. وقد فكّرتْ فيه في نطاق بيتها، مَناط سَكَنِها، وسَكَنِ أعمالها وذاكرتها، ولم تُفكِّر في الأرواح، التي يُمكن أن تَسكن هذه الدار بسُكناها لقِطَع الجُثة ضَارِبةً مِثالا رائعا للنظافة المنزلية والنفسية. وبما أنها بلا قَيِّم، وبلا علاقات حميمة، تُشعِرها بتواصل الدورة الوجودية، فقد اختارتْ أنْ تَحفظ ذكرى هذا الصنيع الحَسن في أجمل أشكاله وأنفعها. وهي، بهذا، تحفظ ذكرى مَن أهداها العام الماضي، ذِكرى ابن العَمّ، الذي قد يكشف تعريفُها بنفسها لِمُحاوِرِها بأنّها «... امرأةٌ أرملةٌ...» إنه كان عَشِيرَها ومُؤْنِسها الأوحد؛ لأن التعريف بالأرملة يُوحي بِحَداثة الوصف، وأنه طارئ، لاسيما أن هذا الرجل المُحاوِر لا يَلتَقِي مُعاذَة إلا على فترات مُتباعدة، فهو لْم يَلْقَها بَعد الموقف الأول إلا بعد ستة أشهر.
إنها، بحفظ تلك البقايا من الأضحية، ترمز لحفظ وِدِّ وجَمِيل ذلك المُهْدِي، الذي أوحى لها فَقْدُه بأنْ تنفيَ أيَّ حَمِيميَّة لها بالموقف وبالبشر، فيما تُثبِت من طرف خَفِي علاقتَها القوية به، وحُسن تدبيره معها وفيها، بوصف الحدَث رمزا لقيمة نفسية، أخلاقية، إنسانية، تَقوم على الاحتفاظ والتمسك إلى أقصاه بأجمل، بل ببقايا أجمل ذكريات الإنسان ومواقفه، لاسيما مَنْ كانوا سَكَنَه، وأمانه، وقُوْتَه، وطِيْبَ أيامه. ويمكن تكثيف هذا في القول: بما أن الحُضور حياة، وهما مُتمثِّلان في الأُضحية، ويُقابلها أنّ الغِياب موت، وهما مُتمثِّلان في العَشِيْر الرّاحل أو المُهدِي؛ فإن مُعاذة قصدَتْ إلى حفظه فيها، وهذا الحفظ تَمَثَّل في تَأبِين شِعرِي للأُضحية، بألا تُوهَب للغياب في الأرض، وإنما تُمنَح للحضور في أرجاء البيت السّكن الروح الذاكرة. تُمنَح للحياة الدائمة، ما دام الأمر في يَدِ مُعاذة. تحافظ على الحياة من خلال احتواء الموت، مثلما هي تحافظ على قُوَتها (النفسية، والفِكرية، والعاطفية) واكتفائها بنفسها، واستقلالها من خلال إبرازها لحاجتها للآخر المُعِين.
وهذا المعنى ليس بِبَعِيد عن دِلالة اسم «مُعاذة العَنبَرِيّة» (عنوان النص) نفسه؛ فمُعاذَة مُؤنَّث مُعاذ، وهو مِن العَوذ؛ أي الالتجاء للآخر من مَكْرُوه ما. والعَنبَرِيّة تَشتمِل معنى العَنبر، وهو الطِّيب المَعروف، والعَنابر، التّي تَخزُن الغلال وتحفظها، وعَنبر الشتاء؛ أي شِدّته؛ فهي أصلا مُلتَجَأٌ إليها، قد رُقِيَتْ وَوُقِيَت مِن المَكارِه، وهي في جَوهَرِ رُوحها حَافِظَةٌ للجميل، مُطيِّبةٌ له ولأبعاده على أشدِّ الحفظ والتّطيِيب؛ أيْ على أشدِّ ما يكون النّموذج المِثال من البَشر؛ إذ النص نَسيج حَي، مستقِل عن الحياة التاريخية، ومُكَمِّل لها، في الوقت نفسه؛ فالأدباء يكملون بنُصوصهم المنسوجة ما يَغيب أو يُسكت عنه في نَصِّ الحياة الظاهر، والموثَّق في كُتب السِّيَر والتاريخ، المَعنِية بالظاهر أولا وآخرا كما تعتقد القارئة .
إنّ ما تخرج إليه القراءة، هو أن النص أدبي، فكري، فلسفي في الوجود البشري، يطرح أفكارا ودلالات عميقة، يُخفيها ظاهره المسرحي، رغم أنه في الوقت نفسه الذي يُقدّمها أقوى وأفضل من غيره من الظواهر.
الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
كتب
وراقيات
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved