Culture Magazine Monday  12/03/2007 G Issue 190
عدد خاص
الأثنين 22 ,صفر 1428   العدد  190
 

الشاعر ــ المجاز في الوعي النقدي
د. فيصل درّاج

 

 

انطوى تاريخ النقد الأدبي العربي، بشكل عام، على نزوعين: نزوع أول يمكن أن يُدعى بـ (العمومية التنويرية)، يختصر النقد إلى شكل من التربية والتهذيب، مُغَلّباً العنصر الأخلاقي على العنصر الجمالي، وهو ما ساد منذ بداية القرن العشرين حتى بداية ربعه الأخير، ونزوع ثان عنوانه: (النقد التقني)، يكتفي بقراءة ما جاء في النص ويحاذر أن يقترب من خارجه.

وقد اختلف الشكل الثاني، الذي صعد في منتصف السبعينات الماضية، إلى مدارس نقدية مختلفة، مثل البنيوية والتفكيكية وعلم النفس وغيرها.

لم يستطع هذا النقد، في شكليه، أن يؤسس لشيء كثير، باستثناء حالات قليلة، لأنّه لم يستطع العثور على صيغة ملائمة تجمع، بشكل متوازن، بين الجمالي والاجتماعي، أو بين داخل النص وخارجه.

ربما يكون عبدالله الغذامي من النقّاد العرب القلائل، الذين حاولوا نقداً أدبياً مبرّأ من الاغتراب والاجتهاد والموسمي، ينفتح على المدارس النقدية الغربية، بحسبان، ويسعى، في الوقت ذاته، إلى ربط هذا النقد بواقعه الثقافي العربي.

فقد تعرّف هذا الناقد المجتهد على مدارس النقد المختلفة، داخل العالم العربي وخارجه، وطبّق معرفته على قضايا أدبية وثقافية عربية، محاولاً أن ينتج معرفة متميّزة، بعيداً عن الاغتراب الثقافي والهواجس الأكاديمية الضيّقة.

ولعلّ سعيه إلى ربط النص الأدبي بالشروط التي أنتجته هو ما قاده إلى: (النقد الثقافي) محقّقاً أمرين في آن: كسر الاختصاص النقدي، بالمعنى الضيّق، وفتح النص الأدبي على خارجه الثقافي.

أفضى هذا الانتقال إلى حقل نقدي خاص، له قضاياه الموضوعية المحدّدة، وله ديناميّته المتوالدة، التي تحوّل النقد الأدبي إلى مشروع خصيب مفتوح، بعيد على الانغلاق.

وما كتاب الغذامي (النقد الثقافي) إلاّ صورة عن قلقه النقدي الخصيب.

يعطي مجاز (الشاعر الفحل) في اشتقاقاته المتوالدة، صورة عن النقد الذي حاوله الغذامي، ذلك أنّه انطلق من سؤال متوارث معروف، لا جدّة فيه، وانتهى إلى أسئلة غير موروثة، تبدأ بالشاعر، الذي لا يشبه غيره، وتنتهي بـ: (الطاغية)، في وجوهه المتعدّدة المحتملة.

فالشعر العربي هو المنجز الثقافي العربي الأكثر عمقاً وتأثيراً وقدماً، فهو (ديوان العرب)، وهو ما تأسّست عليه الثقافة العربية، قبل الإسلام وبعده، وهو الذي أفضى، في ديمومته الطويلة، إلى (عقلية شعرية)، تسهم في تكوين النظر إلى العالم.

بل إنّ هذه الديمومة المسيطرة هي التي عوّقت تطوّر النثر، و(شَعْرَنَته)، في حال تطوّره، كما لو كان الشعر هو المرجع الأساسي المتأبّد، الذي لا تستقيم الثقافة العربية من دونه.

لم يشأ الغذامي أن يتعامل مع (ديوان العرب) بشكل مدرسي متوارث، يشرح ويعيد الشرح ويضيف حاشية لا جديد فيها إلى حاشية سابقة تشبه غيرها، بل أدخل في دراسته مقولتين جديدتين، أولهما: المؤسسة الشعرية، التي تضع في الممارسة الشعرية بعداً سلطوياً، إذ في الشعر بعد تحتاجه السلطة ويتكيّف مع حاجتها، آيته قصيدة المدح، التي هي شكل من أشكال التسويغ الأيديولوجي للمارسات السلطوية.

وبداهة، فإنّ دور الشعر في التسويغ السلطوي، يضع في الشعر بعداً سلطوياً، ناقلاً، في الحالين، الممارسة الشعرية من الحيّز الاجتماعي إلى حيّز آخر يهيمن على الأول ويُخضعه.

أما المقولة الثانية، وهي أثر للمقولة الأولى وامتداد لها، فهي: النسق الثقافي، الذي يترجم سلطة أيديولوجية، تعيد إنتاج أفكار السلطة، وتجعل من المنظور الشعري المتكلّس منظوراً للعالم.

إذا كان الشعر، في تصوّره النظري، تعبيراً عن وضع الإنسان وما يشتاق إليه، وذلك بلغة تغاير الاستعمال اليومي للغة، فإنّ (اختراع الشاعر الفحل) اختصر وظيفة الشعر واختزلها، محوّلاً الشاعر إلى (راءٍ) يتحدّث لغة المجتمع ويقف فوقه.

فبعد أن كان الشاعر هو (صوت القبيلة)، في فضاء أليف لا تراتب فيه، استولدت صفة (الفحولة) شاعراً جديداً، يستعير التراتب السلطوي، ويصبح: قولاً - مرتبة.

أسهم هذا الانتقال، وهو انتقال من البراءة إلى الإثم، في إنتاج نسق من المعايير الأخلاقية والمعنوية والجمالية، تتضمن الكذب والتملّق والتكسّب والثناء على القباحة.

ذلك أنّ اندراج الشاعر في الفضاء السلطوي يتأسس على قاعدة بسيطة طرفاها: المادح والممدوح، من ناحية، والتجميل والعطاء، من ناحية ثانية.

هكذا تخلّى الشعر عن (وظيفته الاجتماعية)، باللغة الحديثة، لينتهي إلى وظيفة جديدة هي: الارتزاق، التي تضع طرفاً يبيع القول إزاء طرف آخر يشتريه.

بيد أنّ جدل البيع والشراء يستلزم تزويراً ضرورياً يمسّ الطرفين، يجعل الممدوح صدفة تاريخية سعيدة لا تشبه، ولن تشبه، غيرها، ويعيّن المادح (قوّالاً) فريداً، يأتي بقول لا يأتي به غيره.

أصبح الكذب، في هذا التحديد، وكما يبيّن الغذامي في استشهادات غزيرة، قوام القول الشعري وجوهره، مثلما غدا (الارتزاق) فضيلة لها شكل البداهة، سبقت (أبي الطيب المتنبي) بأزمنة وتواترت بعده في أزمنة لاحقة.

حقّقت (فحولة القصيدة) استبدالاً متعدد الأبعاد: أعلت من شأن الكذب وسخّفت الحقيقة، ورفعت من مقام التكسّب وغفلت عن قيمة القول الصادق، لكنّها أنجزت فيما أنجزته أمراً أشدّ خطورة: تجميل القبيح وتقبيح الجميل، مشوّهة تشويهاً كاملاً معنى القول الشعري، الذي يقصد الجمال والخير والتطلّع إلى فضاء فسيح مرغوب، بل إنّ قصيدة التكسّب، التي أصبحت عرفاً عربياً يمتد من ما قبل المتنبي إلى نزار قباني، كما يقول الغذامي، دمّرت البعد الأساسي في الشعر، وهو الإيحاء، لصالح قول تقريري باتر يحتمل التأويل، إلاّ بقدر، ذلك أنّ على المادح أن يكاثر من صفات الممدوح، إلى حدود المغالاة الكريهة.

هكذا تمّ التأسيس لقول يحجب الواقع الفعلي لصالح واقع متوّهم لا وجود له.

وواقع الأمر أنّ الغذامي دار في دراسته النيّرة، طويلاً، حول قضيّتين أساسيتين، لا تزالان قائمتين، بنسب مختلفة، في الثقافة العربية المعاصرة: أولهما علاقة القول بالأخلاق، ذلك أنّ على العارف، أو العالم، أن يوحّد في عمله بين الإبداع، أو ما يدعى بذلك، والاقتراب من الحقيقة، لأّن ما يتأسّس على الكذب لا يقود إلاّ إلى كذب آخر.

أما القضية الثانية فعنوانها الأكبر: علاقة القول بالمعرفة، بلغة معيّنة، أو علاقة الأيديولوجيا بالمعرفة، بلغة أخرى.

والأيديولوجيا الشعرية، هنا، لا علاقة لها بأيديولوجيا، من حيث هي وعي زائف، لأنّها كذب خالص، لا ينتج معرفة بالتأكيد، إنّما ينتج شكلاً من النظر لا يتعرّف على المعرفة، ولا يميل إلى التعرّف عليها.

والمسألة هنا أنّ هذا الكذب الخالص، القائم في قصائد المدح والفخر والمراثي، يحجب ذاته وراء براقع من البلاغة والزخرف اللغوي وجماليات الصنعة منتهياً إلى( شيء غريب، يمكن أن يُدعى: (علم جمال الكذب)، في مقابل منجزات أدبية مغايرة لها صفات متعددة، مثل (علم جمال السياسة)، (علم جمال المضطهدين)، (علم جمال الشعبي ـ الوطني)، التي تتطلع إلى تحرّر الإنسان والارتقاء به، خلافاً لـ (النسق الثقافي الشعري)، الذي يواجه جمالية الحقيقة بـ (علم جمال المصلحة).

ينطوي النسق الثقافي، القائم على الفحل والفحولة والتفحيل، على بعد آخر، قوامه العلاقة المتبادلة بين المادح والممدوح.

فإذا كان الممدوح، وفقاً لمنطق قصيدة التكسّب، فرداً نوعياً، أو بطلاً فريداً، أو مرجعاً صفاته الكرم والحكمة والإقدام العظيم، فإنّ المادح، الذي يقرّر هذه الصفات، امتداد طبيعي للموضوع الذي يمدحه.

يتقاسم، عندها، المادح والممدوح الصفات عينها، إن لم يكن مدح الشاعر لغيره مناسبة للتمدّح، أو المديح الذاتي، وهو ما فعله المتنبي، كما غيره، في مناسبات كثيرة.

وبداهة، فإنّ تبادل المواقع بين المادح و الممدوح لا ينشد، هنا، الرضاء والراحة والغبطة المتبادلة فقط، بل يعني، ضمنياً، أنّ الطرفين سلطة، وأنّ لديهما ما يتقاسمانه معاً.

يصل الغذامي، في تأمّله الفسيح إلى نقطة لاحقة تقول: يمارس المادح والممدوح تهديداً متبادلاً، يساوي الوعد المتبادل بينهما: فإذا كان الممدوح مسلحاً بالقمع والعطاء الجزيل، فإنّ المادح مسلح بدوره بـ (قصيدة الهجاء)، المحتشدة بكذب لا ينتهي.

يتقاسم الطرفان الوعد والوعيد، ويتقاسمان الكذب وتعطيل القول السليم، مبرهنيْن، في الحالين معاً، أنّهما سلطة، تنظر إلى البشر وتقف فوقهم.

فالممدوح لا يُمدح إلاّ لأنّه جدير بالثناء وقادر على دفع ثمنه، والمادح حريّ بالإكبار، لأنّه يقف بين يديّ ممدوح، لا يصل إليه الناس جميعاً.

ولهذا لا يمدح أحدٌ البسطاء من الناس، ولا يلتفت إلى رغباتهم، وعلى البسطاء أن يعترفوا بـ (صدق القصيدة)، وأن يعترفوا أكثر بمزايا المادح والممدوح.

يأخذ عندها القول السلطوي شكل البداهة، وتأخذ البداهة السلطوية، المصاغة شعراً، شكل القانون، وتصبح وظيفة الشاعر المتكسّب، حلماً شعبياً... والواضح، في الحالات جميعاً، هو: قانون المرتبة، وقوامه المادح ومَنْ هو جدير بقصيدته، فما هو خارجهما هباء، ومرتبة اللغة الشعرية، التي تدع (اللغات الأخرى) في دَرَك خفيض.

والواضح أيضاً هو (الطقس الشعري)، الذي يدور في فضاء (الطقس السلطوي)، الذي يفصل بين العامة والنخبة، أو بين النخبة والرعاع، الأمر الذي يحوّل (الشعر) إلى أدة استذلال واستعباد، عوضاً عن أن يكون أداة تحرير وتحرّر.

تتضمن قصيدة المدح،المقبولة سلطوياً، بعدين متلازمين: الترويج للاستبداد، الذي يضع مخلوقاً فوق مخلوق آخر، والترويح للمعرفة الزائفة، ذلك أنّها توهم بأنّ الشعر (علم للعلوم)، وأن خير العلوم ماجسّر المسافة بين العارف والسلطة، يصبح (الشعر) عند الغذامي، مجازاً واسعاً للتجهيل وإعادة إنتاج التجهيل، انطلاقاً من قارئ بريء يؤمن بأن الشعر (ديوان العرب)، وأن هذا (الديوان) صادق في كل ما جاء به.

وما (النسق الثقافي)، الذي يوغل الغذامي في شرحه وتفصيله، إلاّ تعريف بدلالة (قصيدة التكسّب)، التي إن طال عهدها، تحوّلت إلى عادة فكرية، تؤمن بالكذب والتملّق وحجب الواقع وتعطيل العقل النقدي وتسفيه القيم الجمالية.

يبدأ الغذامي كتابه بمقولة (الأنا)، أو (الأنا المريضة)، بشكل أدق، ذلك أنّ (الفحل) لا يشبه غيره، مثلما أنّ (التفحيل) يستلزم، منطقياً، الإخصاء.

فلو كان الناس جميعاً فحولاً لهلكت البريّة. فقد بدأ الشاعر شاعراً للقبيلة، ينطق باسمها ويقاسمها همومها، قبل أن يتوجّه إلى الناس ولا يكون معهم.

نقلت المؤسسة الشعرية، التي لا تنفصل عن مؤسسات أخرى، الشاعر من حيّز الجماعة إلى (الطقس السلطوي)، إن صحّ القول، حيث وقع على صفتين جديدتين: انسحب من الجماعة واستوى فرداً فريداً، خاصيّته القول الذي لا يحسنه غيره، وانسحب من هموم الجماعة إلى: حيّز المصلحة الخاصة، التي تكيّف القول كما تشاء، مدحاً وهجاء وعتاباً يمحو الهجاء المحتمل بمديح جديد.

بيد أنّ الإشكال الأساسي لا يقوم في (الشاعر الفحل)، من حيث هو، بل في (أيديولوجيا التفحيل)، أي في تعيين الفحولة منظوراً عاماً للعالم، يقرّه الناس ويقبلون به، دون مماراة.

عندها ينقسم الناس طبقات، ويقبل الناس بمبدأ الطبقات ويقرّونه، إذ توجد قبيلة فوق أخرى، وإنسان فوق إنسان، والذكورة فضيلة والتأنيث مَنْقَصة، والمذكر فوق المؤنث... يعيد (التفحيل) إعادة ترتيب العالم، وفقاً لتصوّر هرمي، منتهياً إلى (الفحل الأول)، أي: الطاغية.

والمسألة، بداهة، ليست في الطاغية، في الشعر كان أم خارجه، بل في العقلية التي ترى في وجوده بداهة.

فالقول المتواتر بأنه المتنبي (مالئ الدنيا وشاغل الناس) تستّر على نواقصه الكثيرة، والقول بأنّ أحمد شوقي (أمير الشعراء) حجب مثالبه الأكيدة، والمطابقة بين الشاعر وصورته المتوارثه دعوة إلى (تقديسه)، من حيث هو... ينتج النسق الثقافي، بهذا المعنى، مقولاته وينتج، في الوقت ذاته، ما يحجبها ويمنع نقدها، مولّداً عادة إكبار (الفحول) وإجلال (المراتب)، صادقة أو كاذبة، وصولاً إلى فكر قار مستقر لا يعرف النقد ولا يكترث بالمحاكمة.

لا يتعرّف (الفحل) بذاته، بل بالمجموع البشري الذي يقبل به دون مساءلة، ولا تتحدّد (الأنا) بما تساويه، بل بذلك الكمّ البشري الهائل، الذي يُلغي (أناه)، وهو ينظر مبهوراً إلى (الأنا الكبيرة) التي لا تعترف به معتقدة، وبإيمان كبير، أنّ تحقيق ذاتها يستلزم، أولاً، تدمير ما يقع خارجها.

ولهذا، فإنّ الشاعر العربي، المؤمن بالفحولة، لا يتحدّث عن الشعر، بل عن (أناه) الشعرية الفريدة، التي تعيّنه رائداً مفرداً في التجديد، ومؤسساً وحيداً لتطوير التراث، وصوتاً أولاً في الدعوة إلى الحداثة،... وقد لا يبخل الشاعر في تكثير مزايا الشعر وخِلاله التي لا تنتهي، مبتدئاً بشعر يعبّر عن (روح الأمّة)، منتهياً إلى شعر يقوم مقام الفلسفة والعلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية في آن. والمقصود بذلك ليس الشعر في ذاته، بل (الأنا الشاعرة) التي تتحدّث عنه، التي لا تعدلها (أنا) أخرى، في الشعر أو في خارجه.

ولا غرابة في ذلك، طالما أنّه (يحق للشاعر ما لا يحق لغيره)، كما يقول النسق الثقافي، الذي يختصر العلاقات جميعاً إلى ( فحل)، جدير بالإعزاز، و (يُشَعْرِن) المعارف جميعها، مسَخّفاً ما قبل الشعر وما بعده.

اتخذ عبدالله الغذامي، في كتابه (النقد الثقافي)، من مجازات الشاعر المتوارث مدخلاً لنقد الثقافة العربية كلّها، موحّداً بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، ومقرّراً النقد أداة فاعلة في نقد الشعر، وقراءة الشروط الثقافية المختلفة، التي أنتجت دلالة تنقض الشعر والمعرفة والحس السليم.

وسواء اتفق القارئ مع ما جاء به الغذامي أو اختلف معه، فإنّ اجتهاده يشكّل صوتاً نقدياً أصيلاً، يمارس التجديد الفكري ويدعو إليه.

كاتب وناقد فلسطيني


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة