Culture Magazine Monday  12/03/2007 G Issue 190
عدد خاص
الأثنين 22 ,صفر 1428   العدد  190
 

الغذامي فعالية العقل الطليق
محمد جمال باروت

 

 

لم يكن عبد الله الغذامي أول ناقد عربي يحاول أن يتملك المنهجيات الحديثة ما بعد البنيوية، لكنه كان أول ناقد في المنطقة المشرقية العربية يتشرب هذه المنهجيات ويعيد تمثلها بشكل تكف فيه عن أن تكون (وافدةً) لتظهر فيه نتاج السلسلة الثقافية العربية نفسها.

ولم يكن ذلك ممكناً لولا أن الغذامي الذي عبر في (الخطيئة والتفكير) عن اختزان طاقة فكرية هائلة كان يتجاوز منذ البداية حدود النقد بمعناه النصي الذي وسم المقاربات النقدية العربية التي احتذت أو تأثرت بثورة العلوم النقدية واللغوية الحديثة، والتي تحول فيها النقد إلى أشبه بتمارين لغوية مخبرية ومعقدة ومرهقة إلى الفعالية النقدية الكلية القابلة للانتشار وتساقط الآثار في كافة الحقول الثقافية.

فلقد التقط الغذامي بشكلٍ مبكرٍ السيمويتيقا بوصفها منهجية تحرير فكرية. وهذا ما انطوت عليه مغامرته الجسورة في الكتاب الرائد (الخطيئة والتفكير) الذي سيبقى واحداً من أبرز علامات التغيير في الحياة الفكرية في بلده.

وعلى الرغم من أن فعالية الغذامي الفكرية تتخطى حدود مفهوم الحداثة بمعناه المحدد فإن حيوية السجال الذي أخذ بالاستثارة في الحياة الفكرية السعودية قد أدرجته في فلك الحداثة وهي تخوض صراعاً فكرياً حاداً في محيطٍ فكريٍ متصلبٍ.

فالواقع أن الغذامي كان منذ (الخطيئة والتفكير) يرتاد آفاق ما بعد الحداثة، ويتخطى حدود البنيوية التي حولت النص إلى جثة إلى التشريحية أو التفكيكية التي تقاربه كجسد.

وقد انطوى ذلك على فعالية تغييرية بمنهجيتها القابلة للانتشار والإنتاج في حقول الوعي والثقافة والحياة.

ولهذا لم يكن مفارقةً أن تواجه هذه الفعالية المنهجية التي أطلقها بالحملة العقائدية المكثفة التي تعرض لها التي كانت تعرف من منهجية الغذامي أشياء محدودة لكنها كانت ملتقطة لجوهر ما تنطوي عليه فعاليته الفكرية التغييرية. وهذه هي حالة الرواد الكبار المؤسسين لرؤى التغيير العميقة في ثقافات ومجتمعات متحولة.

توسيع فضاء الرؤية من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي هو العنوان الأساسي في هذه الفعالية الفكرية التغييرية التي طوحت بثنائية الثقافي/ غير الثقافي في إطار التطويح بالثنائيات التي تحكم تفكيرنا وآليات إنتاجنا للأفكار وبالتالي فهمنا للعالم.

ففي عملية تقويض الثنائيات يعاد الاعتبار إلى المهمش وماليس (ثقافيا) بوصفه في صلب الثقافة ونسيجها المتحول، وهذا مامكّن الغذامي من امتصاص منهجيات ما بعد الحداثة وتشربها وإعادة إنتاجها بوصفها منهجيات تتكون، وبالتالي تنطوي نفسها على ديناميات الفعالية المنهجية المتجددة التي تعاود النظر بنفسها ومراجعها باستمرار.

إن التحول العظيم في ثورة العلوم اللغوية الذي جعل السيموتيقا أو السيميولوجيا جزءاً من علم اللغة وليس العكس قد غير الرؤية جذرياً، إذ غدا كل شيء نصاً، وتحول العالم كله بكافة وجوهه وحيزاته إلى لغات.

عديدون قبل الغذامي عرفوا ذلك أكاديمياً في ضوء التفاعل مع منهجية بارت، ولكن الغذامي وحده نقل ذلك من الفعالية الأكاديمية إلى الفعالية الفكرية التي تمتلك ديناميات تطورها الذاتي نفسه، وتخترق تلك الحيزات المسكوت عنها والمهمشة من قبل الثقافة (العالمة).

إن هذه الفعالية الفكرية تمتلك طاقات كبيرة لأنها فعالية إبيستمولوجية (معرفية) تحكم إنتاج الأفكار. وفي إطار هذه الفعالية الإبيستمولوجية النقدية بالمعنى الذي يتجاوز مفهوم النقد الأدبي بالتأكيد علينا أن نفهم الغذامي.

وبالتالي نقرأ إعادة النظر بمفهوم المثقف وتجريده من نخبويته وادعائيته ووصايته، فالفعالية الإبيستمولوجية النقدية الحديثة التي تشربها الغذامي وأعاد إنتاجها بواسطة تكوينه الثقافي العربي - الإسلامي المتين نفسه هي فعالية عالم جديد يتميز بوفرة المعلومات بعد أن ما قبله هو عصر ندرة المعلومات.

وفي العصر الثاني تنحدر سلطة المثقف والمعلم والوصي الثقافي أو ما يندرج في إطار (الكهاني)، وتتقوض ثنائية المثقف / غير المثقف بينما في العصر الأول يتبوأ الكاهن في سلالته المتطورة إلى المثقف مكانة الوصي على الأفكار وناقلها وحافظها ومنتجها. بل تتغير المدرسة نفسها من محتكر للمعرفة إلى ميسر لها في معرفة متاحة تتجاوزها.

هذا تغير كبير في عصرنا التقطه الغذامي بعمق، وفتح من خلاله أبواب إعادة النظر وفعالية العقل الطليق المتسائل. ولعله عصر العولمة التي تغير زوايا النظر وتقلبها.

إن العالم يتغير هنا ولكن ما يتغير أكبر هو صورة إدراكنا للعالم. وهذا التغير تعبر عنه حركة الإبيستمولوجيا الحديثة التي تشكل الفعالية السيميولوجية إحدى أبرز علاماتها ومميزاتها، وهي تحريرية بمعنى نفيها للمركزيات والسلطويات وثنائيات التمييز والتهميش.

وفي ذلك علينا أن نفهم مقاربة الغذامي للعولمة وربطها بثقافة الصورة، فما يقوله الغذامي من عصر الصورة مشتق من تحولات عالمنا في مرحلة العولمة وثورة الاتصالات التي نقلت صورة العالم من صورة العالم الهرمي الذي تتوسطه تراتبية المراكز إلى صورة عالم أفقي يتخطى تلك المركزات السلطوية، على أن يمكن أن نضيف إلى ذلك مقارنة بين عصر الصورة الذي دخلت فيه الثقافة العربية مع عصر الترانزيستور الذي رافق عصر الجماهيريات أو عصر (ارفع رأسك يا أخي العربي).

فتقوض الهرمية الذي ميز تاريخ البشرية منذ نشوئها وحتى ذروة عصر الحداثة هو سمة التحول في عالمنا. الثورة الإبيستمولوجية الحديثة مؤسسة بعمق في حركة التغير الجوهرية هذه.

ولكن ذلك سيبقى يثير طائفة من الأفكار المتضاربة والمتعارضة في عالم يتحول ويبدو فيه كل شيء وكأنه يتشكل من جديد. والغذامي هو في عمق حركة التبدل هذه.

وفي ذلك كان الغذامي أحد ألمع نشطاء ومنتجي الحلقة الديناميكية النشطة في المملكة التي وضعت في خانة الحداثة.

ويمكن هنا مقاربة حدة السجالات ليس بين المحافظين والتقليديين من جهة وبين الحداثيين وحدهم فحسب بل بين من تم وضعهم في فضاء الحداثة على أنه يعكس حيوية ثقافة تتغير بعمق في مرحلة انتقالية حافلة بأسئلةٍ لامتناهيةٍ. فالغذامي بمن في ذلك من خاض معهم أو خاضوا معه سجالات من داخل الفضاء الحداثي كانوا يعبرون عن هذه الحيوية, وهذا عنصر مهم في رؤية قضايا التغير الثقافي بمعناه الأنتروبولوجي أي رؤية قضايا التغير الاجتماعي الشامل.

لاريب أن السجالات حول ترجمة المصطلحات كانت تعكس سوية ثقافة عالية في الفضاء الحداثي، ولكنها كانت تشير ما وراءها إلى عملية تمثل يعاد فيها التركيز على جوانب معينة في المصطلح دون جوانب أخرى.

الواقع أن مروحة ذلك لا تستقيم في وضعها في مروحة الدقة وعدمها، بل في إطار آليات انتقال الأفكار التي تشكل المصطلحات أو المفاهيم الفكرية المنتجة إذا جاز القول، حيث في عملية الانتقال تضمر عناصر وتبرز عناصر في ضوء وظائف الثقافة.

تشريحية أم تفكيكية أم تقويضية هي أكثر من جدل حول دقة ترجمة المصطلحات وتحديد دلالاتها، بل هي تعكس حالة استقبال المفاهيم وإعادة بنائه وإنتاجها في حقل ثقافي يتميز ببروز قضايا وإشكاليات مختلفة.

فالمفهوم بحد ذاته كوني لكن تنزيله في شرط ثقافي معين هو الذي يميزه. وتأسيس الغذامي هو في مقاربته للمفاهيم كمفاهيم ومفاتيح تتكون وقابلة للتكون باستمرار وليس بوصفها قوالب أو مفاتيح منجزة. ومن هنا ستبقى فعالية الغذامي فعالية إبداعية قادرة على تخطي ممارستها ومراجعتها وتطويرها بل وتجاوزها. وهذه هي سمات العقل النقدي الطليق الذي سيبقى الغذامي من ممثليه وعلاماته.

سورية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة